الرجل البخاخ : يبخ الحرية في الفضاء السوري


04 شباط 2013

ربما ليس مستغربا نهائيا أن يكون الغرافيتي والرجل البخاخ من أهم الأشياء التي أدهشت العالم في الانتفاضة السورية، إذ عدا عن القيم الجمالية والفنية التي قدمها هذا النوع من الاحتجاج للعالم ولفنون الثورات عموما، إضافة إلى الفرحة والدهشة التي قدمها لجمهور الانتفاضة، والإغراء الذي بثه في نفوس الجمهور المتردد دافعا إياه للفعل والمشاركة، أو للابتهاج بهذه الحالة و تأييدها، فإن للرجل البخاخ ( رغم أهمية ما سبق) وظيفة أخرى هي الأهم، لأنها تدخل في تفكيك بنية السلطة الشمولية، أي تنقل مهمة الرجل البخاخ من فعل مدني يحتج على السلطة إلى رسالة سياسية تعمل على تهديم الأسس التي قامت عليها السلطة التي عملت جاهدة طوال قرون على امتلاك الفضاءات المكانية والاجتماعية في البلد، عبر نشر تماثيلها وصورها ولافتاتها التي تختصر بعدة رموز تدل على السلطة المطلقة.

قبل الانتفاضة السورية عملت السلطة جاهدة على أن يكون الظاهر من الفضاء السوري كله مملوكا لها، بدءا من لوحة الإعلان في الشارع إلى حوائط المنازل الخارجية والشوارع الحدائق والمدارس، وذلك عبر احتلالها بصور الرئيس ولافتات حزب البعث وشعاراته التي قل تواجدها لصالح الأولى، حيث كنا نجد تماثيل وصور الرئيس الأسد في المدارس والشوارع ولوحات الإعلان والمشافي و أغلفة الدفاتر المدرسية، وقد اتخذ هذا الأمر صيغته الأكثر شمولية وتوتاليتارية في عهد الرئيس الأب، ليخف نسبيا في عهد الرئيس الابن الذي سيبقي القبضة نفسها ، إنما خلف ستار مخملي رقيق، بحيث سيخف احتلال السلطة للفضاء العام لصالح صعود الإعلان التجاري الذي يعبر عن تزاوج جديد بين العسكر والتجار. في عهد الرئيس الأب سنجد أن الفضاء العام محتل من قبل سلطة أمنية غاشمة رمزها الظاهري هو التمثال المزروع في كل مكان ورمزها الباطني هو فرع المخابرات الذي جعل من سوريا مملكة صمت وخوف بحق، وفي عهد الابن سنجد أن الفضاء العام محتل من قبل سلطة أمنية/ تجارية رمزها الظاهري إعلانات تجارية يوازي حضورها صور الرئيس الموجودة ضمن لوحات الإعلان أيضا في شوارع المدن الرئيسية وخاصة العاصمة دمشق، ورمزها الباطني هو فرع أمني سيخف حضوره المباشر دون أن تتغير فعالية حكمه وقبضه على كل شيء، وهذا ما كشفته بوضوح الانتفاضة السورية التي بينت كم تملك هذه الأجهزة من القوة والحقد تجاه من يعارض مشيئتها.

صورة لناشطين يقومون ببخ العلم السوري على جدران الشوارع ..... المصدر : صفحة كتيبة الرجل البخاخ
صورة لناشطين يقومون ببخ العلم السوري على جدران الشوارع ..... المصدر : صفحة كتيبة الرجل البخاخ ","title":"..... EN

هنا ضمن هذا السياق، خرج الرجل البخاخ من ثنايا الانتفاضة السورية ليكسر احتلال السلطة للفضاء العام وليعري الغشاء الذي كان يخفي عسف الأجهزة خلفه، إذ بموازاة قيام شبان الانتفاضة بتكسير تماثيل الرئيس وتمزيق صوره في محاولة لطرد الاحتلال السلطوي من الفضاء العام، كان الغرافيتي والرجل البخاخ يعملان معا لملء هذا الفضاء وتأكيد سيطرتهم عليه، من خلال الكتابة على الجدران ورسم شعاراتهم وصورهم التي تؤكد امتلاكهم لتلك الجدران وسعيهم لنيل حريتهم بمواجهة السلطة، أي استعادة جدرانهم من قبل السلطة كما يقول الرجل البخاخ في مدينة إدلب: " قبل الثورة لم تكن جدراننا لنا، كانت لحزب البعث، اليوم حررنا الجدران وبقي علينا أن نحرر بلدنا".

وإذا كان الرجل البخاخ تميز بكتابة شعارات لها علاقة بالحرية واللحظة الراهنة وتحريض الجماهير على الفعل الثوري، فإن الغرافيتي هو خطوة متقدمة على ذلك، أي خطوة تؤكد امتلاك هذا الفضاء بشكل عام واستعادة السيطرة عليه.

ولعل مشاهدة هذا الفيديو، وملاحظة أن الناشطين وضعوا هذا العنوان الملفت والذكي " كتيبة الرجل البخاخ تنظف حيطان المدينة" يوحي بالأهمية لهذا الفعل الذي يدرك ماذا يفعل، أي استعادة الجدران من محتليها.

https://www.youtube.com/watch?v=vKZsjpLrpuY

كيف ظهر الرجل البخاخ وما هو عمله؟

مع كتابة أطفال درعا على جدران المدينة شعارات من نوع " يسقط النظام" و"حرية" بدأت تنتشر في المدن السورية ظاهرة الكتابة على الجدران، ردا على اعتقال الأطفال وتعذيبهم من جهة. وهنا يمكن اعتبار أطفال درعا وصبيتها الأحرار هم أول رجل بخاخ في سوريا، أو الجنين الذي سيؤدي إلى ولادة آلاف البخاخين في سوريا لاحقا.

 وعملت هذه الكتابات على خلق الأرضية اللازمة لتجذير الانتفاضة وانتقال عدواها إلى الجماهير السورية التي كانت تعيش في سجن مدة أربعين عاما، وليس من السهل تحريضها ودفعها للمشاركة، حيث عملت هذه الكلمات المكتوبة على الجدران إلى جعل الناس الخائفين يرون أن ما كان مستحيلا أضحى واقعا، حيث بدأ يتفتت حاجز الخوف داخلهم تدريجيا، و هكذا بدأت حرب مسعورة بين أجهزة النظام وهؤلاء الشبان الذين اتخذوا من الكتابة على الجدران وسيلتهم الوحيدة للتعبير عن ثورتهم على نظام غاشم، وحين عجزت السلطة عن احتواء الظاهرة التي بدأت تتمدد وتنتقل بالعدوى إلى أماكن أخرى من العاصمة والمدن والأرياف، أدركت أنها عاجزة عن اجتثاثها، لأن  رجل بخاخ واحد في حي واحد يحتاج لعشرات المراقبين الأمنيين لإلقاء القبض عليه، فعملت الأجهزة الأمنية على حظر بيع علب الدهان والبخاخات في المدن، مع إجبار أصحاب المحلات على تسجيل أسماء من يشترونها، ومع ذلك لم يمنع هذا الأمر الرجل البخاخ من التناسل في المدن السورية.

ولكن بعد أن كانت الكتابات مجرد أمر عام وغير منظم، وبعد أن تمددت التظاهرات في عدد من المدن السورية، بدأ الرجل البخاخ يظهر بشكله المنظم، وهو عبارة عن شاب أو مجموعة من الشباب الذين يغطون وجوههم بقبعات تظهر العيون فقط، ويحملون معداتهم في حقائب صغيرة محمولة على اليد، وحين يصلون المكان الذي يكونوا قد اختاروه سابقا بعد جولات لهم في المدينة، ليخرج الرجل البخاخ قلمه أو علبة الألوان ويبدأ الكتابة على الجدران، ويقوم شخص آخر بتصويره ويقوم الآخرون بتأمين المكان لينبهوا بعضهم حال جاءت دورية الأمن أو الشبيحة كي يتمكنوا من الهرب، ولعل هذا الفيديو يظهر ذلك.

https://www.youtube.com/watch?v=0fb2_lHRZCs

و أهمية اختيار المكان الذي يتوجب الكتابة عليه، باتت تحتل أولوية هامة لدى الرجل البخاخ وفريقه، خاصة مع ازدياد المخاطر عليهم، جراء تعرض عدد من رجال البخاخات للقتل والسجن، وبالتالي فعلى المغامرة أن تكون تستحق الثمن الذي سيدفع مقابلها، لذا بدؤوا يعملون على اختيار أمكنة ذات تواجد سكاني كبير ( مدارس، تجمعات حكومية)، أو مكان يمر بقربه أكبر عدد ممكن من الناس، أو اوتوستراد دولي بحيث يمكن للعابرين جيئة وذهابا أن يقرؤوا ما خطته يداهم المبدعة، أو جسر كبير تعبر تحته السيارات القادمة إلى المدنية، كما في اللقطة الأولى من هذا التقرير عن الرجل البخاخ.

وبعد أن ينهي الرجل البخاخ وفريقه مهمته في الشارع، ينتقلون إلى المهمة الثانية المتمثلة بتحميل الفيلم على يوتيوب والفيسبوك لنشره، حيث بات لكل حي ومدينة رجلها البخاخ وصفحته على الفيسبوك، بل وصل الأمر حد التنظيم في مجموعات أطلق عليها اسم كتائب الرجل البخاخ، حيث سنجد لكل مدينة أو حي كتيبته من البخاخين، مثل كتيبة الرجل البخاخ - الثورة السورية في دمشق و يوميات الرجل البخاخ  وكلنا الرجل البخاخ.

غالبا بعد أن تصل الأخبار لرجال الأمن من قبل العواينية المزروعين في كل مكان يهرعون إلى المكان ويقومون بعملية محو العبارات التي خطتها يد الرجل البخاخ، وبدء حملة تحقيقات نادرا ما تفضي إلى شيء، لأن رجل البخاخ ملثم غالبا وقلة من يعرفونه ( هذا في البداية أما مع تجذر الاحتجاج فأصبح الرجل البخاخ معروفا في كل قرية ومدينة)، دون أن ينسى هؤلاء أن يخطوا عباراتهم فوق الرجل البخاخ، وهي تحمل عبارات التحدي من نوع: "نحن رجال الأسد إن عدتم عدنا" و"الأسد أو لا أحد" و " الأسد أو نحرق البلد"، ليعود الرجل البخاخ مجددا ويتحدى رجال الأمن ويمسح عباراتهم تلك ويكتب عبارات أكثر تحديا منها من نوع: " راجع بدي بخ... وعلى رأس ... بدي....". هكذا سيجد المتجول في مدنية دمشق وضواحيها وكل المدن السورية الآن أن جدران المدينة تشهد هذه المعركة الخفية بين "رجال الأسد" و "الرجل البخاخ"، معركة كر وفر، لا مكان فيها للهزيمة لدى الرجل البخاخ، و لم يعد رجل الأمن يملك التراجع فيها بعد أن دخلت البلاد في عسكرة تتزايد يوما بعد يوم.

ومن المهم ذكره هنا أن نشاطات الرجل البخاخ لم تتوقف مع اتساع نطاق التحول من السلمية إلى العسكرة إذ بقيت الاحتجاجات السلمية تشكل جوهر الانتفاضة السورية، وبقي الرجل البخاخ يواصل عمله حتى في المناطق المقصوفة بالطائرات، إذ عمد هؤلاء على كتابة عبارات تحدي بوجه القصف والحل العسكري المتزايد عليهم، مؤكدين أن الرجل البخاخ يقوم بعمله وهو تحت القصف.

ولم يكتفي الرجل البخاخ بأن يوجه نقده نحو السلطات والاستبداد فقط، بل تعدى الأمر مؤخرا إلى نقد المعارضة من خلال عبارات واضحة الدلالة مثل "الثورة تذكرة دخول لا تذكرة خروج" و "الثورة تُصنع هنا لا في تركيا"، في نقد واضح للمعارضة الخارجية التي تنشط على شاشات التلفاز بينما الشعب يواجه آلة القمع الدموية.

وخصص الرجل البخاخ بعض رسومه وكتاباته للأطفال، من خلال رسم صور شخصيات كرتونية محببة لهم وهي تحمل أعلام الاستقلال أو تتحدث عبارة حرية، مثل "بينك بانتر" و"توم وجيري"، وغيرهم من الشخصيات المحببة للأطفال.

وكان الرجل البخاخ يواكب أعمال الانتفاضة يوما بيوم، إذ نادرا ما خلا حدث ما من تعليق له، خاصة حين يعتقل أحد الناشطين، فكان يعمل على كتابة اسمه على جدران المدن التي يعتقل بها، تضامنا معه وتحديا لأجهزة الأمن، كما حدث بعد اعتقال مدير المركز الإعلامي مازن درويش ورفاقه، وكذلك بعد اعتقال الناشطين كفاح ديب ورامي الهناوي في مدينة صحنايا، فكتب الرجل البخاخ على جدران صحنايا": رامي هناوي، كفاح علي ديب: في قلوبنا. كتيبة الرجل البخاخ"، كما هو واضح في الصورة التالية.

من هو الرجل البخاخ؟

ليس بالضرورة أن يكون الرجل البخاخ مواطنا مثقفا أو ناشطا سابقا، إذ بالإضافة إلى هؤلاء المثقفين والنشطاء الذين انخرطوا في الانتفاضة من البداية وجعلوا من الكتابة على الجدران مهمتهم، انضم إليهم أناس بسيطون عاديون ليسوا بفنانين، إنما يمتلكون مهارة الخط، وبعضهم لا يمتلكها حتى بل يمتلك الجرأة فقط، وبدؤوا يكتبون على جدران قراهم ومدنهم ما باتوا يقرؤون عنه في الصحف ويشاهدونه على التلفاز، فأضحوا فاعلين أساسيين في الانتفاضة، حيث يقول أحدهم: "أنا لست فناناً، أنا مجرد مشخبط ومازج ألوان. الثورة هي ما جعل عملي العادي فناً".

الرجل البخاخ في أعين الناس والجمهور والأدباء:

أضحى الرجل البخاخ لسان حال المدينة والجمهور، فكان يعبر عن طموحاتهم وصوتهم المقموع منذ عقود، لذا حظيت شخصيته باحترام كبير في أوساط المتظاهرين ومناصري الانتفاضة السورية، ففي المدن المحررة من سلطة النظام في الشمال السوري يشعر الناس بفخر حين يختار الرجل البخاخ حوائط منازلهم للكتابة عليها، بل يدعونه أحيانا بأنفسهم للكتابة عليها، رغم الخطوة في ذلك، وهو ما كان يعرضهم في أحيان كثيرة لخطر هدمها من قبل قوات الأمن حين تعود وتبسط سيطرتها على المدينة.

و أدى استشهاد بعض الرجال البخاخين وهم يؤدون عملهم، إلى دخولهم فضاء الأسطورة، بحيث باتوا مقدسين في أذهان الجماهير، وباتت تؤلف لهم الأغاني وهذا هو حال الرجل البخاخ في مدينة سراقب " محمد حاف"، حيث قدمت له فرقة موسيقية مؤلفة من  أب وبناته الثلاث أغنية تقول: "محمد حاف محمدنا... اشتقنالك يا محمد حاف. يا محمد بالسلميي وشو فينا عليت الصوت... صوتك بعدو غنيي نغنيها وما نهاب الـمـوت". وكذلك الشهيد البخاخ محمد راتب النمر الذي استشهد في حمص، والبخاخ أحمد الخانجي الذي اختفى في ظروف غامضة.

وكذلك كتب الشاعر السوري تمام تلاوي قصيدة عنونها بـ الرجل البخاخ وأهداها إلى البخاخين الذين استشهد بعضهم وسجن بعضهم الآخر، المجهولين والمعلومين منهم. ونشرت وسائل الإعلام تقارير كثيرة عن الرجل البخاخ، كقناة الجزيرة و العربية   والغد والأورينت، إضافة إلى تقارير أخرى عن بخاخين بعينهم مثل تقرير العربية عن البخاخين الذين استشهدوا مثل أحمد راتب النمر.

شكل الرجل البخاخ بصمة متفردة في مسار الانتفاضة السورية، حيث كانت عبارته المنتقاة بعناية بمثابة تحدي للنظام و آلة قمعه من جهة، وميلاد أمل وحرية للسوريين الذين باتوا يكحلون أعينهم صباحا بما تركه لهم الرجل البخاخ من مفاجآت على جدران مدنهم التي باتت تشبهم وتشبه آحلامهم.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد