الرجل البخّاخ


05 شباط 2013

تمّام التلاوي
 

1-
في كل ليلة يمرّ شخص مجهول يحمل بخَّاخاً ويكتب على حائطي هذا كلمة: حرّية
قمتُ بترصُّده هذه الليلة
وقبضت عليه متلبِّساً بجرمه
كان صبياً مراهقاً
كالح الوجه
غاضب الملامح
يرتدي ملابس رثة
أمسكته من ياقته
أسندته إلى الحائط
وبكل ما أُوتيت من قوَّة
قبَّلتُ جبينه...
وبكيتُ

2 -

ولد الفتى البخَّاخ في مدينة نائية، ونائمة منذ قرابة نصف قرن... وفي ليلة مجنونة قام هو ومجموعة من أقرانه في المدرسة بشراء بخَّاخ صغير اشترك الجميع في دفع ثمنه...
ذهبوا ليلاً إلى حائط المدرسة وكتبوا عليه كلمة «حــرّيــة»... ظناً منهم أن المدير سيعطيهم غداً إجازة لمدَّة يوم كامل استجابة لندائهم...
واستجاب المدير... ومنحهم إجازة لمدة أسابيع عديدة في مخيّم جماعي مظلم وبارد... لم يكن يعلم الفتى البخّاخ أن كلمته المكتوبة بخط رديء وواطئ على جدار المدرسة ستوقظ بلاده من نومها العميق... لم يكن يعلم ابن الأربعة عشر ربيعاً أنه سيعود من مخيمه المظلم... ليشهد القيامة...

3-
في الليلة الأولى: مرَّ الرجل البخَّاخ على حائطي هذا... وكتب: حرّية
فجاء رجل الأمن صباحاً وطمس الكلمة بطلاء أسود
في الليلة الثانية: مرَّ الرجل البخَّاخ مرَّة ثانية وكتب: حرّية
فجاء رجل الأمن صباحاً وطمس الكلمة بطلائه أيضاً
في الليلة الثالثة: فعلها الرجل البخَّاخ مرَّة أخرى... فقام رجل الأمن صباحاً بتهديم الحائط حجراً حجراً...
في الليلة الأخيرة... جاء الرجل البخَّاخ ولم يجد الحائط... فأخرج بخاخه... ضغط الزر... وكتب في الهواء: حرّيــة...
ومنذ ذلك اليوم، والهواء يحمل كلمة الرجل البخَّاخ ويطوف بها البلاد مدينةً مدينةً وشارعاً شارعاً...

4-
تزوَّج الرجل البخَّاخ من المرأة البخَّاخة وأنجبا ولداً بخاخاً... كبر الولد وصار يمشي... مرَّ بحائطي هذا يوماً وكتب عليه: يسقط المجرم تمام التلاوي... فسقط الحائط... سقط الحائط بيني وبين الولد... ورآني وراء الركام عارياً... عارياً وعلى حقيقتي...

5 -
ليلة الأمس أراد الرجل البخَّاخ أن ينام مع زوجته... فاعتذرت منه بسبب تعكُّر مزاجها بعد سماع خطاب الزعيم... ثم أدارت له ظهرها، وغطَّت في نوم عميق...
أخرج الرجل بخاخه من تحت السرير... وكتب على ظهرها العاري: حــــرّية

6 -
المرأة البخَّاخة مرَّت على حائط الرجل البخَّاخ ليلاً وكتبت ببخَّاخها: حرّية للأبد
أفاق الرجل البخَّاخ صباحاً وقرأ العبارة...
في الليل التالي ذهب الرجل إلى حائطها وكتب عليه: طالق طالق طالق...

7 -
والرجل البخَّاخ رجل رومنسي كذلك، ويحب صبيَّة بخَّاخة تصغره بأربعة عشر عاماً... كان قد تعرَّف إليها مصادفة في دكان لبيع البخَّاخات...
وفي ليلة عيد ميلادها، اشترى الرجل بخاخاً أحمر اللون وذهب إلى حائط بيتها وكتب: لا غرابة أن القرنفل يولد في مثل هذا النهار الشتائي من كل عام...
في الصباح... قرأت الصبيَّة البخَّاخة عبارته وهي خارجة إلى الجامعة... فاغرورقت عيناها بالعطر... وتحوَّلت في أربع عشرة ثانية إلى قرنفلة حمراء... وصارت تبخُّ أريجها حيثما تسير...

8 -
قلت له: أريد الحرّية...
فقال لي: احملْ بخاخك واتبعني...

9 -
أحداث هذه القصيدة مقتبسة عن قصة واقعية مع تغيير في أسماء الأماكن والشخصيات.
الشكر لكل من شارك بأدوار البطولة في هذا العمل... وهم:
- الرجل البخاخ محمد راتب النمر: استشهد في حمص على أيدي القنَّاصة ليلة 18/ 7/ 2011 أثناء كتابته على أحد الجدران.
- الرجل البخاخ أحمد الخانجي: اختفى في ظروف غامضة من منطقة باب شرقي بدمشق في 8/ 7/ 2011 بعدما شُوهد مطارداً من قبل أفراد مجهولين يحملون الهراوات والسكاكين.
- الفتية البخَّاخون في درعا... بالإضافة إلى العشرات من الرجال والفتيان البخَّاخين المنتشرين في طول البلاد وعرضها... مَن قُتلَ منهم ومن اختفى ومن يتخفَّى...

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد