احتل الموقع الجيوسياسي لسوريا نصيبه الكبير من النقاش الدائر حول هذا البلد منذ اندلاع الانتفاضة، نظراً للدور الكبير الذي لعبه هذا العامل في حماية النظام السوري من السقوط السريع، لسببين: الأول، نجاح النظام باستغلاله (الموقع) عبر أقلمة الصراع وتدويله بشبك مصالحه على المدى الاستراتيجي وليس التكتيكي بمصالح الدول الراعية له، مقابل فشل المعارضة في فهم هذا العامل جيداً. والثاني، خطورة هذا العامل على سوريا كدولة ووطن من جهة، وعلى الانتفاضة التي انزلقت أطياف كبرى منها (المجلس والائتلاف والهيئة وبعض أطياف المعارضة المسلحة) لأن تكون أدوات للدول الطامعة بسوريا بسبب موقعها الجيوسياسي هذا، من جهة ثانية، وذلك في ظل عدم تبلور وطنية سورية قوية وجامعة، على خلاف ما تقوله الأدبيات «الثورجية» وتتغنى به، فخلف هذا الستار الوطني تتصاعد هويات قومية/ طائفية/ عشائرية/ ذات جوهر طبقي، لأنه «لم تترسخ وطنية في سوريا، البلد الحديث النشوء بشكله الحالي، فالجغرافيا السياسية لهذا البلد جعلته ساحة تلاقي أمم، إما للحرب أو للتجارة، ومنطقةً يسعى إلى تعزيز نفوذه فيها كل القوى الأجنبية، من الولايات المتحدة إلى هونغ كونغ .. مظاهر غياب شعور وطنية حقيقية في سوريا، كثرة الاتجاهات التي ترى هويتها فوق حدود الوطن: قومية ترنو إلى الوطن العربي، وإسلامية تنادي بإقامة الخلافة، وأممية تبحث عن وحدة عالمية» (فائق حويجة)، الأمر الذي يهدد سوريا بجعلها مجرد محطة للعبور إلى وطن أكبر (بالنسبة لبعض العروبيين والإسلاميين وبعض الأكراد) أو أوطان أصغر (بالنسبة لبعض الطوائف)، علما أن أمراً كهذا قد يحصل في ظل الوطن الواحد، عبر إعلاء الجدران اللامرئية بين مواطنيه، وهذا ما تسعى إليه الدول الساعية لحل سوري يحفظ مصالحها عبر اتفاق طائف، ولعل هذا ما يمكن فهمه من حديث سيرغي لافروف المتواتر عن الصعود السني وحديث واشنطن عن حماية مصالح الأقليات، وكأن في الأمر توزيع أدوار!
يزيد من خطورة الأمر أنّ سوريا بشكلها الحالي لم تولد نتيجة نضال أبنائها كما فعل أتاتورك مثلاً، حين انتزع الدولة التركية الحديثة بنضالات الأتراك ضد القوى الغربية، بل ولدت بيد القوى الغربية (اتفاق سايكس بيكو) بسبب عدم فهم الشريف حسين للعبة الأمم (قد نكون نشهد حالياً لحظة مشابهة، ولهذا حديث آخر) دون دور يذكر في ولادتها للسوريين الذين بقوا رافضين لسوريتهم بشكلها الحالي حتى بعد طرد المستعمر الفرنسي بسنوات طويلة، وهو جرح عمقته الهزائم المتتالية منذ النكبة (1948) والنكسة الحزيرانية (1967) حتى سقوط بغداد (2003)، بوجود سلطة عمدت دوماً إلى «استبدال الشرعية بإيديولوجية فوق محلية (عروبية إسلامية) والاتكال على عصبيات داخل الدولة» (رايموند هينبوش).
في قراءة ما كتب عن أثر الموقع الجيوسياسي السوري في ظل الانتفاضة، سنلحظ بروز رأيين هيمنا على طاولة النقاش المفتوحة الآن، الأول: يتحدث عن أهمية أخذ هذا العامل بعين الاعتبار ليخلص إلى نتيجة مفادها بقاء النظام السوري، وبالتالي فهو ينطلق من إيديولوجية مسبقة تصبّ في خدمة هذا الهدف، وهذا ما يعمل عليه النظام السوري فعلياً لتوظيف الأمر في خدمة بقائه. والثاني ينطلق من أهمية الموقع هذا ليخلص إلى نتيجة تقول بأنه لا يمكن إسقاط النظام السوري دون استجلاب التدخل الخارجي، أي الانتقال من محور الممانعة إلى محور «الشرق الأوسط الجديد». ويزيد من تعزيز هذه الرؤية (لدى أصحابها) عدم قدرة المعارضة السياسية وأطياف ليست قليلة من الكتائب المسلحة على الخروج من موقع الأداة إلى موقع الفاعل في تحويل الأمر إلى عنصر قوة بيدها. الرؤيتان تُخضعان الإبستيمولوجيا للإيديولوجية، حيث تغدو النتيجة معروفة سلفاً، كلّ يجيرها في خدمة هدفه، وكل منهما لا يرى في السوريين إلا وقوداً لرؤيته، حيث يغدو الشعب السوري وأحلامه بالحرية آخر من يُنظر له في هذا الصراع، لنصل إلى الأصل في علة هذه الرؤى الإيديولوجية المستمدة من إيديولوجيات تحتقر الإنسان على حساب الهدف والوطن والقضية، وهو ما دفعنا ثمنه سابقاً، حين وصلنا إلى أوطان بلا مواطنين وفلسطين بلا فلسطينيين، وهي نفسها الإيديولوجيات التي حُكمنا بها ونثور ضدها ليعود هؤلاء ويطالبون بأخرى تشبهها!
مقاربة العامل الجيوسياسي في سوريا، ينبغي أن تنطلق من الواقع وقراءته ضمن خريطة التحولات العالمية قبل أي شيء آخر، وقراءة دور هذا العامل تاريخياً، وكيف يمكن استثماره لصالح الداخل الوطني دون الوقوع في أحابيل الدول الكبرى (كما وقع الشريف حسين)، لأنّ قراءة التاريخ تقدّم لنا مادة غنية عن دور الموقع في التحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة حتى اللحظة، فالمؤرخ الشهير ألبرت حوراني يقول إنّ الصراع قائم على سوريا حتى حينما تكون خالية من السكان، وكتب: رايموند هينبوش في كتابه «سورية، ثورة من فوق»: لقد كتبت الجغرافيا قدر سوريا التاريخي، فوقوعها على جسر استراتيجي بين ثلاث قارات ووسط الصحراء والسهول عرض البلاد لحراكات شعوب متنوعة وللغزو البدوي الدوري». ولعل المقارنة بين عنواني كتابيْ باتريك سيل عن سوريا «الصراع على سورية» و«الأسد والصراع على الشرق الأوسط»، يعطي ضمنياً فكرة عن دور هذا العامل تاريخياً في سوريا، خاصة أن «أول حرب كونية شهدها العالم لم تكن تلك التي اندلعت في أوروبا في العام 1914م، وإنما تلك التي اندلعت في مدينة قادش جنوب حمص، في العام 1274 ق.م، بين الفراعنة والحثيين، الحاكمين لأكبر إمبراطوريتين في العالم خلال ذلك العهد، وهو ما يتكرر في أيامنا هذه» (فائق حويجة). بعد قراءة العامل هذا في واقعيته المجردة عن الإيديولوجية والتوظيف، ينبغي أن يكون الأمر ضمن سياق حرية السوريين وحقهم في إزالة نظام الاستبداد من جهة، وعدم الوقوع في يد مستبد أو مستعمر آخر وهم يسعون للتحرّر من جهة ثانية، وعدم التفريط بسيادة سوريا والوقوع في أحضان أحلاف ودول ستحمي مستبدهم القادم كما تحمي إيران وروسيا المستبد الحالي من جهة ثالثة، الأمر الذي يحتم على الوطنيين السوريين نقد الرؤى السابقة أولاً، التي تتذّرع بالموقع الجيوسياسي إما للاستسلام للواقع أو لوضعه في خدمة أجندة خارجية، وثانياً في البحث في إمكانية الحصول على موطئ قدم في الفراغات التي تولدها عميلة الصراع الدائرة اليوم بين القوى الداخلية/ الإقليمية/ الدولية لدحر الاستبداد أولاً ومنع توظيف الأمر ضد سوريا الآن ولاحقاً، وذلك عبر تنمية سياسية مستدامة تجعل من النضال اليومي أسها الأساس، لتحصيل الحقوق بالتراكم لأنه وحده من يبني الأوطان كما في الاقتصاد، فمن يريد أن يحصل على كل شيء دفعة واحدة لن يحصل على شيء، فالاستبداد لا يفكك دفعة واحدة حتى لو سقط النظام، بل يغدو الأخير الشرط اللازم لإمكانية البدء بإزالة مرتكزات الاستبداد وليس نهايته (كما يتوهم البعض)، وذلك بالتراكم والنضال اليومي والعمل على البنية المجتمعية السورية. ولعل ما يحصل في تونس ومصر وليبيا واليمن ليس إلا هذا النضال المستمر لإزالة تركة الاستبداد المغروسة في المجتمعات والأحزاب والثقافة بعد رحيل الأنظمة، كما أن قراءة تاريخ الأسد في الاستيلاء على السلطة تجدي نفعاً هنا، فهو بقي في الصفوف الخلفية سبع سنوات (1970،1963) قبل أن ينقض على السلطة! بمعنى أنه امتلك الأدوات اللازمة بالتراكم للوصول إلى السلطة «من تحت» أي من الداخل ليعود ويفرض «ثورة من فوق» لاحقاً، فهل يكرر التاريخ نفسه أم يفتح أفق جديد؟
* شاعر وكاتب سوري