السلميّة والسلاح في الثورة السوريّة في توصيف الحال لما آل إليه المآل


18 شباط 2013

أصبح السلاح هو الصفة الطاغية على الثورة السوريّة، في حين نشأت في بداياتها، كما ثورات تونس ومصر، على شعارات السلميّة. هل قمع النظام القاتل هو المسؤول الوحيد عن ذلك؟ أم عدم تجذّر ثقافة وآليّات و"ماكيافيليّة" السلميّة في الوعي الشعبي ولدى القيادات السياسيّة للمعارضة؟

يدور بين أنصار الانتفاضة السورية نقاش مكثف يبدو عقيماً في أكثره، ومفيداً في أقله، حول أفضلية التسليح على السلميّة أو العكس. إذ يبدو النقاش وكأنّه مسقط من فوق، بعيداً عن قراءة التجربة في واقعيّتها ودلالاتها، ومحاولة معرفة الآليات التي دفعت شباب السلميّة للانكفاء مما شكّل فراغاً ملأه السلاح بشقّيه المنظم والأعمى.

أهم الصعوبات التي واجهت الخيار السلمي ليس عنف السلطة الوحشيّ فحسب، بل ضعف وعي الشباب المؤمن بالسلميّة بآليات العمل السلميّ وأدواته وطرقه، إذ اختصرت أدواتهم إلى التظاهر واللافتة والفايسبوك والتواصل مع الإعلام، في حين أنّه فلسفة و خيار نضاليّ أعمق من ذلك بكثير، يبدأ من قراءة نضال غاندي وتجربته ولا ينتهي عند نظريّات جين شارب [1] التي تعطيك مؤشّرات واضحة لكيفية هزّ أسس النظم الشموليّة، شرط أن يأخذها الناشطون بطرق مبدعة لا استنساخية.

في قراءة تجربة الخيار السلمي السوري للانتفاضة سنجد أنّ جهل السلميين بدأ واضحاً في اجتراح أدوات نضال سلميّة جديدة حين اشتد عنف السلطة عليهم، حيث أخذوا من الخيار السلميّ أدواته بعيداً عن جوهر فلسفته؛ وحين أفلست الأدوات بمواجهة عنف السلطة من جهة، ودعم الخارج وبعض قوى الانتفاضة للعنف المسلّح خدمة لأجندة خاصة بهم من جهة ثانية، تمّ الجنوح نحو العنف والسلاح لأنّ الآلية مفصولة عندهم عن جذرها الأهمّ، أي الوعي بالسلمية كخيار وسلوك ناجم عن الإيمان بفلسفة اللاعنف، ولعل ما يثبت ذلك هو تحوّل عدد كبير من أنصار السلميّة إلى مناصرين للسلاح، وبعضهم انخرط فيه فعلياً!

وفي تعميق أكثر سنجد أنّ فلسفة اللاعنف غائبة عن المجتمع السوري سلوكاً وثقافة، لصالح ثقافة الثورة والسلاح والعنف الثوري، وهي عموماً ثقافة جديدة (اللاعنف) في العالم كلّه. إذ مؤخراً فقط تم الانتباه لها والاهتمام بها حين اختارت الأمم المتحدة العقْد الممتدّ بين سنتيْ 2001 و2010 عقدًا لتشجيع "ثقافة السلام واللاعنف ولصالح أطفال العالم" [2]. ولعل وجود صور التشيه غيفارا وكتبه في أغلب بيوت الناشطين السلميين أنفسهم في ظلّ غياب أيّ صورة لغاندي أو كتاب لجين شارب أو ناشط سلميّ عالمي، يعكس ازدواجيّة وعي الناشطين السلميين بالسلميّة كخيارٍ نضاليّ تراكميّ يتجاوز العنف و يؤسّس لما بعد، بحيث تتكامل كلّ خطوة مع ما قبلها لتؤسّس لما بعدها في نضالٍ طويل الأمد على خلاف الكفاح المسلح، الذي يحصر هدفه بالانتصار أو الهزيمة، عدا عن الشك بإمكانية ولادة نظام ديمقراطي من قعقعة السلاح. وهذا يعطي مؤشر عن فصامٍ ما، بين جذر يختار الكفاح المسلّح وظاهر يختار السلميّة تأثرا بثورات الربيع المجاور أكثر مما هو خيار داخليّ خارج من أحشاء المجتمع السوري وثقافته. وهو ما بدا واضحاً في العودة إلى الجذر بمجرد اشتداد عنف السلطة، إذ إن غياب الوعي الكامل بالسلمية والعجز أمام العنف دفعهم للعودة إلى "اللاوعي" المغروس في أذهانهم على مدى عقود من التربية، أيّ العنف الثوري (بلغة لينين)، إذا أردنا استخدام التحليل النفسي. والأمر شبيه بتجربة اليساريين الذين اتّجهوا نحو الدين حين عجزت ماركسيّتهم عن مواجهة السلطات المستبدّة ومتحوّلات الواقع العالميّ الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

هنا يستثنى من هذا السياق تجربة بلدتي داريّا وكفر نبل. إن قراءة تجربة هذين النموذجين الاستثنائيين حقّاً في الانتفاضة السورية يعطينا مؤشّر واضح لفهم الأمور بطريقةٍ أعمق. ففي داريا نفسها ثمّة تراكم كبير وهائل على صعيد العمل السلميّ الذي بدأ منذ عقد تقريباً، أي منذ عام 2003 حين قامت مجموعة من الشباب بتنظيف شوارع مدينتهم مرفقة بحملة توعية ضد الفساد والرشوة في بلديّة المدينة ومؤسسات الدولة، لتعتقل السلطة أغلبهم في مؤشّر يعكس من جهة شدة عنف السلطة وعدم تسامحها مع أيّ مكوّن مدني مستقلّ عنها مهما صغر، ولإدراكها بخطر هذا النشاط الذي يتراكم ككرة الثلج دون أن تملك آليات مواجهته بغير العنف الذي يكون مقتلها حين تستخدمه وحده بمواجهة شعب أعزل. ومن جهة ثانية يعكس مدى فقر الساحة السورية وخلوّها من أي تراكمات نضالية يمكن أن يبنى عليها.

لن نستغرب هنا إذا عرفنا أن حلقات داريا تلك كانت تضمّ رائدا السلمية ومقدّما أغصان الزيتون والماء للجيش: الشهيد غياب مطر والناشط يحيى الشربجي المعتقل الآن في سجون النظام. وهذا يعطي مؤشّر واضح لماذا حافظت داريا على سلميّتها طويلاً في ظلّ الانتفاضة السوريّة، وكانت آخر المدن التي دخلها العنف، وظلّت طويلاً تدافع عن خيارها إلى أن غرق محيطها كلّه بالعنف، وما عادت قادرة على مقاومة أكبر من طاقتها. السرّ هنا يعود إلى التراكم النضاليّ الموجود في المدينة، وهو ناتج عن وعي بفلسفة السلميّة وخياراتها، ومن يستمع إلى الفيديوهات المصوّرة للمعتقل يحيى الشربجي وهو يتحدّث، سيدرك عمق تشرّب مفاهيم السلميّة في أذهان هؤلاء المناضلين، وهو ما انعكس فعلياً في أداء الجمهور الذي قادوه على الأرض، في حين افتقدنا هذا الشيء في مدنٍ أخرى جنحت للعنف بسرعةٍ بالغة. وأكثر من ذلك، من يدقّق في تحوّلات المدن بعد اجتياحها من قبل الجيش سيلاحظ اختفاء المظاهر السلميّة من بعض المدن وتراجعها في البعض الآخر لصالح المكوّن العسكري الذي جاء كردّ فعل وخيار ضرورة أكثر مما هو خيار مدروس أيضاً؛ في حين سنجد أن داريّا عادت لتطرح شعاراتها السلمية بعد خروج الجيش منها، وبقيت نساء المدينة تقدّم أمثولة في النضال السلميّ من خلال فعاليّات صغيرة ولكنّها مؤثرة وذات فاعليّة على المدى البعيد، في حين طغت الشعارات الدينيّة على المدن الأخرى، وهذا مؤشّر هام يعكس مدى قدرة الوعي على إحداث تحوّلات في مسار الثورة، ومدى تأثيره السلبيّ حين يغيب.

وفي قراءة تجربة كفر نبل التي أدهشت العالم بشعاراتها ولافتاتها ذات البعد الوطنيّ المدنيّ حقيقيّة، سيزول استغرابنا حين ندرك أن 65 بالمئة من سكانها البالغ عددهم ثلاثين ألف نسمة هم من حملة الشهادات الجامعيّة، و15 بالمئة منهم من خريجي الدراسات العليا، الأمر الذي يعكس الدور الهامّ الذي يعكسه عنصر الوعي والتعليم، وهو أمر غاب عن نقاط تظاهر أخرى جنحت للعنف بسرعة بالغة.

حين كنت في معتقل المخابرات الجوية، وكان هذا في بداية الانتفاضة السورية جاء بعدنا دفعة جديدة وكبيرة من داريا، وهذا مؤشّر أيضاً لوعي أهل المدينة الذين كانوا أوّل من تظاهروا لأنّهم كانوا منظّمين وواعين لخياراتهم التي هي نتيجة تراكم طويل. وحين أرادت السلطة إطلاق سراحنا، طلبت منا التوقيع على تعهّد بعدم التظاهر بعد اليوم. كان خياري ومجموعة من الشباب في الزنزانة هو التوقيع مع عدم الالتزام بفحوى التعهّد أي أن نحتال على السلطة، في حين أنّ واحداً من شباب داريا الذي سجن سنتين ونصف على خلفيّة نشاطات شباب داريا عام 2003- 2004 كان الوحيد الذي رفض الأمر، مقرّراً أنّه سيواجه إدارة المخابرات الجوية لأنّ التظاهر حقّ يكفله له الدستور [3]، وليس من حقّ الإدارة سلبه هذا الحق عبر التعهّد المذكور. أي أنّه أصرّ على مواجهة السلطة في عقر دارها وفي قوانينها.

وفي الحقيقة هذا نوعٌ من نضالٍ سلميّ ناتجٍ عن وعيٍ عميق بالسلميّة وفلسفتها، وحتى اللحظة لا أعرف إن كان خياره هو الصحيح أم خيارنا، ولكن الملفت آنذاك أنّه في الزنزانة التي كان بها ستة وثلاثين معتقلاً، لم يخض هذا النقاش إلاّ ثلاثة أو أربعة، وهو ما يعكس جهل أغلب المتظاهرين بقضيّتهم في العمق، وإن كانوا قادرين على فهم أنّهم يقفون ضد نظام مستبدّ بشكلٍ مطلق. آنذاك توصلت لقناعة أثبتت الأيام صحّتها، وهي أننا أمام شارع يشكّل مادة خام قابلة للتطويع بسهولة عبر تجييش العواطف، إن جاءه قادة مدنيّون سيأخذونه لبرّ الأمان، وإن جاءه قادة متشنّجون سيأخذونه للطائفيّة والعنف بسهولة. وما أريد قوله هنا أنّ الوعي الشعبي السوري لم يكن قادراً فعلاً على حمل الأفكار التي يطرحها، إذ هو ضدّها رغم أنّه تبنّاها سلوكاً وفكرة، ولكن آليات تفكيره بإطاحتها تقف ضدّه قبل أن تقف ضدّ السلطة، وهذا ما لعبت عليه السلطة بوضوح وغذّته، ساعدها في ذلك دخول أصحاب الرؤوس الحامية من معارضة الخارج والتدخّلات الخارجيّة التي أوهمته بقرب الخلاص.

أمام ما سبق تمّ اللجوء للسلاح بسهولة ويسر، ولكن المشكلة التي كانت في الخيار السلميّ عادت وبرزت في الخيار المسلح أيضاً، إذ تبدّى أنّ اللجوء لهذا الخيار ناجمٌ عن خيار الضرورة، لا خيار التجهيز الجيّد والواعي والعقلانيّ لمدى قدرة الناس على تقويم خياراتهم وإمكانياتهم. إذ دخل الجمهور المنتفض المعركة، وبعدها بدأ يفكّر بمشاكل السلاح والتمويل وغيرها، فلم يعد قادراً على الرجوع إلى الوراء وأصبح تقدمه مرهوناً بأجندة خارجيّة بات حضورها يتكاثف يوماً بعد يوم.

الآن ثمّة دعوات كثيرة تنطلق من هنا وهناك لإعادة الاعتبار للخيار السلمي. ورغم أنّ التاريخ لم يعد يوماً إلى الوراء، إلاّ أن ثمة آمالاً يمكن أن تبنى هنا إن عاد هذا الخيار عبر تطوير ما تبقّى منه وتصعيده في مدنٍ جديدة لم يجتاحها العنف بعد ولم تتظاهر سابقاً. أي أن تنخرط مكونات جديدة في الانتفاضة. ولكن المشكلة هنا أنّ من يدعون للعودة للخيار السلمي، خاصّة التيارات السياسية، يكتفون بالأمر بمجرّد الدعوات، وهنا يتعيّن على هؤلاء [4] المبادرة إلى اجتراح الأدوات الكفيلة بفعل ذلك وقيادة الشارع السلميّ ولملمة صفوفه بما في ذلك عودة ناشطيه المتذرّرين في المنافي. دون ذلك يبدو الكلام عقيماً عن إيقاف مسار العسكرة التي يستحيل إيقافها دون فتح مسارٍ نضاليّ جديد، يتيح للمنتفضين مقارعة النظام من خلاله.

وما سبق لا يعني انكفاء الخيار السلمي نهائياً، والذي لم ينطفئ حقيقة (وإن تقلّص) إذ لا زالت التظاهرات تخرج هنا وهناك، ولازالت بعض التيّارات السياسية تعمل بصمت على هذا الخيار، ولكن على هؤلاء أن يعملوا على المدى والنفس الطويلين، بعيداً عن الوهم الذي تلبّسهم في البداية (تأثراً بنتائج الانتفاضات الأخرى، وجهلاً بإمكانيات الخيار السلمي نفسه) بأنّ أحلامهم ستتحقّق خلال عشرة أيام، وذلك عبر استلهام شعار انتفاضة الطلاب الفرنسية في 1968 "كن واقعياً واطلب المستحيل".

 

 

 

* كاتب ومناضل سوري

 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012- لوموند دبلوماتيك

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد