زغاريد نسائية تملأ المكان، أربعة عرائس بثياب العرس الأبيض ينتظرن عرسان الحرية وهن يزغردن لوطن ينأى عنهن، زبائن سوق مدحت باشا "معازيم" من نوع آخر لعرس لن يتكرر، لذا يصفقون ويزغردون فرحا وخوفا ودهشة لعرائس سيروهن لمرة واحدة كما لو في ليلة قدر.
لافتة حمراء أولى: "سورية إلنا كلنا (سوري 100%)". لافتة حمراء ثانية: "لأجل الإنسان السوري المجتمع المدني يعلن : وقف جميع العمليات العسكرية في سورية (سوري 100%)". لافتة حمراء ثالثة: تعبتوا وتعبنا .. بدنا نعيش حل تاني ... (سوري 100%).
ما سبق ليس مشهدا من عرس كتلك الأعراس التي تشهدها الصالات السورية، وليس مشهدا من مسلسل يعتمد الفانتازيا أساسا له، إنه مشهد من مشاهد النضال السلمي في الانتفاضة السورية التي لا تزال تبحث يوما بعد آخر عن ابتكارات جديدة لتوسيع أفق السلمية بمواجهة العسكرة والنظام والقتل الذي لم يعد يوفر أحدا من السوريين، إنه صرخة أنثوية اختارت أن تذكر السوريين بأجمل اللحظات التي يحيونها في الأعراس، كون العرس عند السوريين هو مكان اجتماع الأحبة والغيّاب والأقارب الذين ما عادت تجمعهم إلا الأفراح والمآتم بسبب تسارع وتيرة الحياة وجنوحها نحو الفردانية والاستغراق في العمل.
وإذا كانت المآتم هي القاسم الوحيد للسوريين والمشترك الذي يجمعهم (موالين ومعارضين) منذ بداية الانتفاضة في الخامس عشر من آذار، فإن استحضار العرس بدلالته الرمزية، يأتي لتذكير السوريين بما يجب استعادته، حيث قررت أربعة صبايا هن: كندة الزاعور، لبنى الزاعور، ريما دالي، رؤى جعفر ارتداء ثياب العرس البيضاء يوم 21/11/2012 والاعتصام في سوق مدحت باشا الشهير في دمشق القديمة في الساعة الثانية بعد الظهر، وهن يحملن اللافتات الحمراء التي تخاطب كل السوريين، مطالبات السلطات بإيقاف العمليات العسكرية، مرفقة بإطلاق الزغاريد، في محاولة للتقريب بين مشهد النضال السلمي والعرس السوري التقليدي بهدف جذب اهتمام أكبر عدد من المارة وأصحاب المحالات التجارية، حيث وقفت الشابات الأربع في منتصف السوق يحدقن بالمارة الذين تجمهروا وبدؤوا يصفقون كأنهم في عرس فريد من نوعه.
استمر عرس العرائس الأربع لمدة عشرين دقيقة فقط، ليأتي بعدها جنود النظام بلباسهم الميداني الكامل، ويكتشف الناس مدى الاختلاف بين مشهدين وثقافتين: ثقافة الحب والحرية والحياة والفرح التي تمثلها "الحمامات البيض الأربع"، وبين ثقافة العسكرة والخوف الذي يمثله الجنود ببدلاتهم الخاكية اللون وسلاحهم المركون على أكتافهم.
رغم أن اللحظة التي يقف بها الجنود أمام الحمامات الأربع، تكاد تختزل المشهد السوري برمته بين قوى أنثوية ترسم الفرح وقوى ذكورية تثبت الماضي في الحاضر و تصادر المستقبل، إلا أن التدقيق في شريط الفيديو لحظة اعتقال الفتيات الأربع، سيجعلنا نلمح أن الجنود كانوا " ناعمين" أثناء سحبهم اللافتات من يد العرائس وسوقهم أمامهم إلى المعتقل، مما دفع البعض لعنونة مقاله بـ "اعتقال ناعم لعرائس دمشق". وهذا أمر لم نعهده قياسا بأشرطة فيديو تسربت لحالات اعتقال أخرى حيث العنف سيد المشهد، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن سر هذه النعومة في الاعتقال!
يقول أحد الناشطين "لم أتصور على الإطلاق أن يتعامل الأمن السوري بهذه النعومة مع الصبايا، لكن ربما أثر فيهم أنهن صبايا يرتدين ثياب العرائس، أو أن الازدحام كان سبباً آخر لنعومة اعتقالهن".
لا شك أن طريقة الاعتصام وارتداء الفتيات لثياب العرس البيضاء ساهم في تعرية القوة العسكرية، بحيث نزع من هؤلاء الجنود قوتهم وسلاحهم، فلم يملكوا إلا الهزيمة أمام قوة البياض المسفوح أمامهم، وهنا تكمن أهمية النضال السلمي وجوهره، أي تحييد قوة النظام وسلاحه، في حين يوفر له العنف مجالا واسعا لاستخدام عنفه، وهي المساحة التي يحسن اللعب فوقها.
من هن عرائس سوريا:
ريما دالي:
ناشطة سلمية وخريجة كلية الحقوق من جامعة حلب، تعمل في التدريب وبناء القدرات التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومتطوعة في الهلال الأحمر.
ساهمت في حملات مدنية كثيرة منها: "حمص في قلوبنا" لتقديم مساعدات إنسانية الى حمص، إلا أن السوريين عرفوها أكثر في حملة "أوقفوا القتل نريد أن نبني وطنا لكل السوريين"، حين حملت لافتتها أمام البرلمان وصارت تعرف بـ"ذات الرداء الأحمر".
رؤى جعفر:
فنانة تشكيلية وناشطة من مدينة السلمية، شاركت في عدد من التظاهرات والاعتصامات قبل أن تنضم إلى شقيقاتها في الحرية وتعتقل معهم في سوق مدحت باشا.
لبنى وكندة الزاعور:
ناشطتان معروفتان من مدينة السويداء، وسبق لهما المشاركة في اعتصام السويداء، وقد اعتقلن لساعات ليعاد اعتقالهن مرة أخرى في عرس مدحت باشا.
تأثير الحملة وتفاعل الناشطين والإعلام معها:
لم يمض بضع دقائق على اعتقال الناشطات الأربع حتى بدأت صفحات الفيسبوك وتوتير ويوتيوب تتشارك في فيديو الاعتصام ولحظات الاعتقال، و تحدثت القنوات التلفزيونية ( سكاي نيوز، الجزيرة) عن الاعتصام، إضافة إلى قيام العديد من الناشطين برسم غرافيتي على جدران المدن يطالب مستوحى من وحي اعتصام العرائس، كما قام عدد من الفنانين برسم تصاميم ولوحات تستوحي الاعتصام وتعبر عنه، حيث رسم الفنان وسيم الجزائري أربع صبايا يرتدين الأبيض ورؤسهن حمراء ويحملن زهورا حمراء في حين يظهر في طرف اللوحة ذئاب تتربص بالعرائس في دلالة على رجال الأمن. وقامت صفحة كرتونة من دير الزور بتخصيص أحد كرتوناتها للمطالبة بإطلاق سراح العرائس. كما قامت عدد من الناشطات عبر العالم بالتضامن مع العرائس، حيث رفعن لافتاتهن الحمراء ولبسن الأبيض في عواصم بعيدة، وهذا ما فعلته الناشطة مهجة القحف. و قامت إحدى الفتيات التركيات برفع اللافتة في ليلة عرسها تضامنا مع العرائس، وكذلك فعلت الإيرانية ليلى تراغي.
وبعدها بدأت حملات التضامن مع العرائس الأربع من خلال صفحات تطالب بإطلاق سراحهن: أطلقوا سراح الفتيات، الحرية لرؤى جعفر، الحرية للبنى وكندة الزاعور وريما دالي.
وعلى هامش حملات التضامن مع عرائس الحرية أطلقت بعض الصفحات نقاش حول أهمية هذه النشاطات السلمية وجدواها في ظل العسكرة المتزايدة، حيث رأى البعض أنها دون جدوى في حين أصر البعض الآخر على أهميتها لأنها تشكل جوهر الانتفاضة وقلبها الأهم، في حين اختار البعض الأخر أن يكتفي بفتح النقاش وتداول الآراء على صفحته، كما نشهد على صفحة المركز الإعلامي في مدينة تلكلخ، حيث كتب على صفحته: "اعتصام العرائس في سوق مدحت باشا عمل بطولي ، ويلطف قليلا صورة الثورة الملطخة بالدم.. هل أنتم مع ما قام به هؤلاء الفتيات اليوم في وسط دمشق بهذا الأسلوب وهذا النمط من الاحتجاج السلمي ؟ أليس حراكهن هذا مهما لفت الأنظار الإعلامية لن يرتقي الى خطورة اعتقالهن؟ وقد اعتقلوا فعلا! أليست الأحداث على الأرض وصلت الى نقطة اللاعودة وأصبحت بعيدة كل البعد عن هكذا حراك؟ أتــرك لــكــم التـــعـلــيـــق".
في نهاية المطاف يمكن القول أن عرائس الحرية أطلقن صرخة سورية مئة بالمئة تدعو لوقف القتل من جهة ولإنهاء الاستبداد من جهة أخرى، و لهذا ذهبن إلى قفص السجان بدلا من قفص الحب، لأن الحرية لم تزل معتقلة، ولا بد أن تخرج حتى يخرجن إلى صالة فرحهن في سوق مدحت باشا.