تظاهرة منزلية!
أول الأسئلة التي تتبادر للذهن حين قراءة العبارة السابقة هي صيحة استنكار ورفض، إذ كيف يمكن للتظاهرة أن تكون منزلية، أليس التظاهر بحد ذاته هو فعل يمارس في الشارع بعيدا عن البيوت وتحررا من جدرانها؟ وكيف يمكن للمرء أن يتظاهر منزليا؟
يبدو الأمر غريبا فعلا، إلا أنه عند السوريين يبدو فعلا نضاليا خارجا من رحم المعاناة والبيئة السورية التي صممت على دحر الإستبداد، مكتشفين ( السوريون) أبلغ الوسائل السلمية في كشف عنجهية الإستبداد، و مصدرين للعالم أساليب احتجاج جديدة، ومقدمين لمعجم النضال السلمي المدني العالمي وسيلة احتجاج لم يسبق أن عرفها شعب ثائر أو اختبرها، فما حكاية هذه التظاهرة الغريبة؟ وكيف ولدت؟
بعد انطلاق الربيع السوري في شهر آذار من عام 2011 بدأت التظاهرات تعم المدن السورية، إذ خرج السوريون إلى الشوارع التي خافوا بها ومنها لخمسة عقود مضت، بحيث بدوا وكأنهم يكتشفون شوارعهم من جديد. كانت التظاهرات ثأرا من عقود الذل تلك التي عاشها السوريون غرباء في وطنهم وحاراتهم وبيوتهم، لذا كان هذا الخروج إلى الشوارع ميلادا جديدا لهم، ولكن!
حين وجدت السلطة أنها عاجزة عن احتواء التظاهر بالوسائل الطبيعية للقمع مثل الاعتقال والضرب والقنص من بعيد واستخدام القنابل المسيلة للدموع، عمدت إلى إنزال دباباتها وجيشها إلى الشوارع، الـأمر الذي جعل مساحة التظاهر تضيق، بسبب ارتفاع حدة القمع، دون أن يمنع هذا الأمر السوريين من التراجع عن التظاهر كحق أصيل لهم في وجه السلطة المستبدة، بل عمدوا إلى تغيير أماكن التظاهر عبر العودة إلى الشوارع الخلفية للمدن بدلا من الشوارع الرئيسية التي احتلتها الدبابات، وبدؤوا البحث عن طرق أخرى يعبرون فيها عن رفضهم للسلطة القائمة في المناطق التي لم يعد بإمكانهم التظاهر بها، أو في المناطق التي لم يتمكنوا من التظاهر بها منذ بداية الحراك بسبب وجود شريحة مؤيدة للنظام. هنا عمد هؤلاء إلى ابتكار فكرة التظاهر المنزلي، أي أن يجتمع عدد من الشباب والصبايا في منزل واحد، وهم يغطون وجوههم، و معهم الشعارات التي يرفعونها عادة في التظاهرات، وثمة كاميرا تصور التظاهرة وشعاراتها كي تبثها بعد دقائق من انتهائها على اليوتيوب.
هنا تأخذ هذه التظاهرة قوتها من ضعفها بمواجهة قوة السلطة الغاشمة من جهة، ومن بثها إعلاميا لتدل على عنف السلطة وعلى قوة الإرادة لدى السوريين الذين لم يمنعهم بطش النظام من ابتكار وسائل أخرى لاستمرار التعبير عن رفضهم للنظام المستبد.
بدأ هذا النوع من التظاهر ينتشر في سوريا في شهر حزيران، بعد أن أصبح تواجد الدبابات في الشوارع السورية أمرا طبيعيا، و بعد مقتل الطفل حمزة الخطيب على يد قوات النظام السوري، حيث أطلقت مجموعة من الأمهات والصبايا مظاهرة منزلية تحت عنوان " أمهات حمزة الخطيب"، حيث قلن في المظاهرة المنزلية: "نحن نوجّه أصواتنا من داخل منازلنا لأننا نخشى ألا نعود لأطفالنا إن نزلنا إلى الشارع... هنا لا توجد دبابات. حريّة". تعكس العبارات السابقة جوهر الأمومة الخائفة على أطفالها. ثمة اعتراف واضح هنا بالضعف أمام همجية السلطة، ولكن بنفس الوقت ثمة قدرة على تحويل الضعف إلى قوة، عبر الإصرار على التحدي. وقد نجح هذا التحدي فعلا، وأصبح قوة حين انتشر الشريط بشكل مكثف على يوتيوب وصفحات الناشطين على وسائط التفاعل الاجتماعي، وتحدثت عنه العديد من الصحف والتقارير الإعلامية المرئية، حيث كتب المسؤول عن صفحة الرأي في صفحة الأخبار اللبنانية خالد صاغية، والذي ترك عمله في الأخبار بسبب موقفه الجذري من النظام السوري في الوقت: " يكمن السحر كلّه في هذه البساطة. في رفض أدوار البطولة، والإصرار في الوقت عينه على عدم الرضوخ. فالمشهد السوريالي ليس هنا داخل المنزل، بل في الخارج حيث جنون السلطة لا حدود له. فائض القوّة لا يواجَه بالقوّة، بل بالإصرار على الضعف. على ممارسة الضعف، لكن بعناد، وتحويل هذا الضعف إلى قوّة تغيير. هكذا يبدو النشيد الوطني السوري يخرج من أفواه تلك النساء نشيداً للموت، كأنّهنّ في جنازة يردْنَ تحويلها إلى صلاة من أجل الحريّة. كأنّهنّ خفضْنَ كلّ نوتات العنفوان في النشيد ليطوّعنه فيصبح ملائماً لما آلت إليه أحوال الوطن".
لم يقتصر انتشار التظاهرات المنزلية في سوريا على المناطق التي كانت تتظاهر ثم أصبحت عاجزة عن ذلك بسبب نزول الدبابات وانتقال النظام من الحل الأمني إلى الحل العسكري الشامل في مناطق التظاهر، بل انتشر في المناطق التي لم تتمكن من التظاهر نهائيا بسبب وجود المعارضين في بيئات ضد التظاهر إما بسبب وجود مؤيدين للنظام بكثافة أو بسبب رغبة أهالي تلك المناطق بإبقاء مناطقهم بعيدة عن التفجيرات والدبابات بعد ما رؤوه من عنف النظام في المناطق الأخرى.
في مدينة طرطوس الساحلية التي يؤيد أغلب قاطنيها النظام السوري لاعتبارات مذهبية يصعب على معارضي المدنية التظاهر بسبب عدم وجود حاضنة اجتماعية تحميهم، ويؤدي تظاهرهم بشكل علني إلى انكشافهم ومعرفة أسمائهم وهو ما حصل حين حاولوا التظاهر، لذلك نجد أن التظاهرات المنزلية كانت ملاذهم للتعبير عن رأيهم ورفضهم النظام السوري المستبد.
وكذلك الأمر في مدينة اللاذقية الساحلية، ، حيث التظاهر صعبا جدا، رغم أن هذا الأمر لم يحل دون خروج تظاهرات بالمطلق في المدينة التي شهدت بعض التظاهرات في الشهور الأولى للانتفاضة السورية، إلى أن بدأت تتلاشي بسبب ازدياد حدة القمع والجنوح نحو العسكرة، وهو ما جعل التظاهر المنزلي يكون وسيلة التعبير عنهم.
https://www.youtube.com/watch?v=4-O5KUq0ZXU
واختلفت عناوين التظاهرات من منطقة إلى أخرى، فكما لاحظنا أن أول مظاهرة منزلية في سورية اتخذت صيغة" أمهات حمزة الخطيب" في حين أن بعضها الآخر حمل عنوان التظاهر في مدن لا تسمح بيئاتها الاجتماعية بالتظاهر، لنجد أن التظاهرة المنزلية كانت تتطور ظروفها وشعاراتها حسب تطورات الخارج، ففي حي كفر سوسة الدمشقي العريق الذي لم يكف عن التظاهر إلى أن دخلته قوات النظام واحتلته بشكل مطلق، ثم خرجت منه لتحاصر كل بواباته الرئيسية، نجد هذه التظاهرة المنزلية كيف تحمل عنوان فك الحصار عن الحي.
وفي مشاهدة الفيديوهات المنشورة على يوتيوب سنجد أن التظاهرة المنزلية تصبح ملاذا لتظاهرات الأطفال الذين يطالبون أبائهم بأخذهم للتظاهر تأثرا بما يشاهدونه في التلفاز، وتحت خوف الأهل على أبنائهم من جهة، ورغبتهم بتلبية رغبة أبنائهم من جهة أخرى، تبدو التظاهرة المنزلية هي المنقذ، حيث نجد في بعض التظاهرات المنزلية مجموعة أطفال يغنون أغنية مغني الثورة السورية "ابراهيم القاشوش" التي اقتلعت السلطات حنجرته ردا على أدائه الأغنية، كما يؤدون شعارات مأخوذة من تراث مدينة حماة المشهورة بالنواعير، وهو ما يعكسه شعار "دوري ياناعورة دوري هي الثورة ثورة سوري"، " نحنا الحموية نحنا الحموية ودينا الأسد عالعصفورية"، وفي مدينة شهبا الواقعة في محافظ السويداء، سنجد أن هذه المدينة التي تظاهرت أكثر من مرة ضد النظام، باتت تلجأ للتظاهر المنزلي بعد ازدياد حدة القمع.
التظاهرة المنزلية هي اختراع سوري خرج من رحم المعاناة السورية، إذ لم يسبق أن عرفت أي من الثورات العالمية هذا النوع من التظاهر، الذي يسمح بمواجهة القوة العارية، ويؤمن الحماية من بطش النظام بنفس الوقت، ويؤدي مؤداه في استمرار الانتفاضة وبمدها بكل أسباب الاستمرار، بحيث تغدو التظاهرة المنزلية مكمل لتظاهرة الشارع المعروفة ومحفز للثوار لمواصلة احتجاجهم، عبر إعطائهم رسالة مفادها: أن خلف تلك المنازل الصامتة يكمن إعصار من الرفض والتحدي منتظرا فرصة التعبير عن نفسه بوضوح.