لم ينقسم السوريون بحدة منذ بداية الانتفاضة إلا مؤخرا، إذ لم يكد يعلن في الغرب عن احتمال توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا جرّاء اتهام النظام السوري باستخدام الكيميائي، حتى ظهر انقسام حاد على مستوى السياسيين والناشطين و قوى الانتفاضة السورية و داخل صفوف الشارع الواحد.
في الوقت الذي حافظ فيه الشارع الموالي على تأييده للأسد رافضا الضربة، أعلنت للمرة الأولى الكتلة الصامتة عن رؤيتها الواضحة برفض الضربة في حين انقسم المعارضون بين مؤيد ومعارض لها. انقسام يمكن وصفه بالجذري لأنه وصل حدّ تخوين الطرفين لبعضهم البعض داخل الصف المعارض نفسه في حد أعلى، و تشغيل "بلوك" في وجه المختلف بالرأي في حد أدنى.
لكل طرف في سوريا اعتباراته، فالطرف المؤيد يكفيه وقوفه إلى جانب الأسد ليرفض الضربة التي أكدت ادعاءاتهم بوجود "مؤامرة" تستهدف سوريا والمقاومة، والكتلة الصامتة رفضت الضربة لأنّ "الشعب وحده من سيدفع الثمن دوما" سواء على المستوى الاقتصادي الذي سيزداد سوءا نتيجة الضربة أو بفعل "انتقام النظام" الذي قد يفعل أي شيء إن تأذّى.
أما انقسام المعارضة المطالبة بالحرية فكان جدلها أكثر معرفية، بين من يرى أن الضربة لن تضر النظام وستعطي شرعية مواجهة الغزاة، وبين من يرى أنها ستسرع سقوط النظام، وأنها واجبة الحدوث لردعه عن استخدام السلاح الكيماوي مرة أخرى، وبالتالي حماية المدنيين من عنفه الذي فاق كل حد وتصوّر.
وقد عبر عن هذه الرؤى المتصارعة داخل التيار المعارض مثقفو المعارضة وناشطوها أكثر من غيرهم، إذ نشر موقع الجمهورية الذي يشرف عليه "ياسين الحاج صالح" سلسلة مقالات جاء في إحداها "الضربة الجيدة هي التي تنزع سلاح النظام السوري وتوقف قدرته على قتل السوريين وتدمير مجتمعهم، والضربة السيئة هي التي تنقذ هيبة القوى الغربية لكنها لا تنال في شيء من قدرة النظام على القتل والتدمير"، في حين رفض الروائي الشهير "خالد خليفة" ، وذلك في كلمة نشرها على صفحته الفيسبوكية لاقت رواجا كبيرا وترجمت إلى عدد من اللغات. جاء فيها: "الطغاة يجلبون الغزاة هذه حقيقة لانقاش فيها، والغزاة لم يأتوا يوماً بالحرية إلى شعب هذه حقيقة أخرى يجب عدم نسيانها، لكن الذي يجب قوله في هذه اللحظة الخطيرة من حياتنا وحياة ثورتنا بأن الطغاة ليسوا وحدهم من أتى بالغزاة بل شاركهم في ذلك مجموعة السياسيين وتجار الثورة الذين باعوا دمنا مرة لقطر ومرة للسعودية ومرة لمنظمات لا أدري ماهيتها دون أن أي شعور بالخجل. هل تريد أن تعرف موقفي؟ أنا ضد التدخل العسكري الأمريكي ولدي أسبابي وأنا إبن الثورة شاء من شاء وأبى من أبى".
من جهتها شنت الشاعرة السورية "رشا عمران" هجوما لاذعا على "المثقف اليساري الممانع" رافضة الموقف الذي يختبئ خلفه في رفضه الضربة، إذ كتبت "ونسيتك بشغلة أخي العربي القومي الواعي المثقف : كل هالوقت الماضي ورئيسنا يلي بينشرب مع المي العكرة عم يتعامل معنا كأولادو تماما وكل ما خربنا شغلة بيكون دغري سامحنا و ظبطها قبل ما الغرب الاستعماري ينتبه .. بس نحن كنا مصرين نخرب احلامو لرئيسنا الحباب يلي بينشرب مع المي العكرة لأن مقررين انو بدنا الغرب الاستعماري يضربنا ويحتلنا نحن الشعب السوري الخاين العميل التكفيري الجهادي : عرفت كيف أخي العربي القومي اليساري المثقف ؟".
وطالب السينمائي "عروة نيربية " زوّار صفحته بـ "لساني ناطرك... يا من ترفض التدخل العسكري بكل شجاعة وأصولية، حتى تقدم بديل فعال وممكن واقعياً. مشان صير معك فوراً. بديل لا يكلف اكثر، ويمكن تنفيذه"، في حين رد عليه الشاعر السوري "محمد ديبو": " حين تقنعني أنا هذا التدخل سيزيل النظام وسيوصلني للحرية والديمقراطية، وأنّ هذه الضربة ستكون فعلا ضد النظام وليس ضد الشعب أجاوبك. كيف أوافق على ضربة إذا كان مسوّقها يقول أنها مجرد فركة إذن للنظام؟ وحين يكون الداعين للضربة موجودون في الداخل ليتلقوا هبات الحرية التي ستقذفهم بها سأصمت".
كان واضحا من سبر الأقوال المؤيدة والمعارضة للضربة أن أغلب القاطنين خارج البلد كانوا من مؤيدي الضربة في حين رفضها أغلب الموجودين في الداخل لإدراكهم الباطني أنهم وحدهم من سيدفعون الثمن، إذ لم يبخل هؤلاء في التعبير عن سخريتهم من الضربة ومناصريها حين بدا أن الموقف الأمريكي متذبذبا ومتراجعا بعد ثلاثة أيام عن الحماس الذي أظهره الأمريكيون و جزء من المعارضة السورية (الائتلاف الوطني) في البداية.
هذه السخرية وجدت طريقا للتعبير عن نفسها فنيا وإبداعيا، كعادة السوريين الذين تعلموا على مدى سنتين ونصف أن السخرية أفضل الأسلحة لمواجهة الدكتاتورية والغزاة معا، إذ امتلأت صفحات التنسيقيات والنشطاء بصور وبروشورات تسخر من أباما والأسد معا، وذلك حسب موقف كل منهما من الضربة، فامتلأت صفحات الموالين بصور تسخر من أباما وتتحداه وتشد من أزر الأسد، في حين انعكس الأمر على صفحات المعارضة، حيث كانت أبرز الصور التي لقيت رواجا لأوباما وهو يضرب الأسد على قفاه، في دلالة على السخرية من الاثنين معا، وكأن الضربة الأمريكية مجرد "فركة إذن" في دلالة على تماهي الموقف الأمريكي مع النظام في الاتفاق على تدمير سوريا في نهاية المطاف. وهو أمر يجد سنده المعرفي في رفض العالم التدخل لردع النظام وإنقاذ السوريين من براثن الموت على مدى سنتين ونصف، ساخرين من خطوط أباما الحمراء، وكأن السوريين لم يقتلوا إلا مؤخرا و بالكيميائي! رافعين شعار: " ليس بالكيماوي وحده يموت الإنسان"! وهو أمر عبّر عنه خالد خليفة في كلمته التي ختمها" أخيراً لن أكون يوماً مع اي تدخل أمريكي في منطقتنا لأنني أعرفهم جيداً. كانوا يستطيعون الدفاع عن القيم منذ الشهر الأول لثورتنا ومساعدتنا للكنهم انتظروا دمار البلد".
على صعيد موازي، أدخلت الضربة مفردات جديدة على لغة الحرب السورية، التي كانت خلال الفترة السابقة تحفل بمفردات مثل "سكود" و " ميغ" و"دوشكا" و "سوخوي"، لتضاف لها "تماهوك" و"كروز" وهي أسماء الصواريخ التي قد تضربها أمريكا على سورية لتنال هذه المفردات الجديدة نصيبها من السخرية في سوريا، حيث انتشرت صورة لأوباما مكتوب خلفها " كروز الله المسلول"، في تحوير للقب القائد خالد بن الوليد الذي يعرف في التاريخ بـ " سيف الله المسلول" في حين كتب الروائي خالد خليفة: "بعد الضربة العسكرية الأمريكية منكون ختمنا العلوم العسكرية وصرنا نعرف أصوات الميغ والسوخوي والمدافع الثقيلة والخفيفة والهاونات على أنواعها والقناصة، وطبعا الكروز والتماهوك. المهم منكون تخرجنا".
وهذا بذاته كان مثار جدل بين مؤيدي الضربة ورافضيها، إذ وجه مؤيدو الضربة لناقديها اتهاما بأنهم لم يروا صواريخ السكود التي يضربها النظام على مدى سنتين ولم يدينوها، إذ كتب "حازم" : " صاروخ السكود هنا قد دمر أحد أفقر أحياء حلب وخلّف مجزرة بحق الأهالي، لكنه صاروخ ممانع ووطني، لذا ما من داعٍ للإلتفات إلى الأمر من قبل أصدقائنا "الوطنيين"، في حين يرفض رافضوا الضربة هذا الاتهام معتبرين أنه حرف للحقيقة عن مسارها، فهم أدانوا قصف السكود كما يدينون قصف الكروز، وأن الحقيقة في مكان آخر، يهدف إلى خلط أوراق اللعبة السورية ليس أكثر.
أهم ما في الأمر أن التهديد بالضربة الأمريكية كشف هشاشة الوعي السوري حول مسائل الوطنية والغزو الخارجي والسيادة، إذ بدا وكأن هناك انقساما حادا سيجعل من مهمة بناء الوطنية السورية لاحقا أمرا صعبا جدا، إضافة إلى تسليطه الضوء على حدّة الانقسام الحاصل، مما يسلط الضوء أيضا على مدى ما تحفره الحرب والصراعات الجارية في سورية من تغيرات في وعي السوريين، لتغدو الديمقراطية التي خرج من أجلها السوريين هي الخاسر الوحيد.