في يوم الثلاثاء (18/2/2014) أقدمت قوة من الأسايش (القوة الأمنية لوحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي) باقتحام مبنى إذاعة "آرتا إف إم" في مدينة عامودا الكردية الواقعة في الشمال الشرقي من سوريا، طالبين وقف بث البرامج وتقديم الأغاني فقط، حيث نشر مؤسس الإذاعة "سيروان حج بركو" على صفحته على الفيسبوك إن " الأسايش استولت على الأجهزة الموجودة داخل المقر بدعوى تفتيش أجهزة الكمبيوتر كما أوقفت عملها لمدة 3 أيام لأسباب لا تزال مجهولة"، إلا أن الإذاعة لا تزال متوقفة عن البث (باستثناء الأغاني) حتى الآن، مما يعني عمليا إسكات صوت الإذاعة التي تعرضت سابقا لمضايقات من ثلاث منظمات تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعتبر المسؤول عن القوة الأمنية التي قامت بعملية الاقتحام، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد Syria untold" لمتابعة تفاصيل ما جرى، لرواية الحكاية من بدايتها حتى نهايتها، و لمعرفة من يقف خلف قمع الإعلام في منطقة من المفترض أن النظام رحل عنها؟ ولم يقوم هؤلاء الورثة بنفس تصرفاته؟ هل ثمة تنسيق مع النظام، أم أن الأمر لا يتعدى كون الحزب المذكور يسعى لاستغلال الفراغ الناشئ في تلك المنطقة سعيا لحسابات خاصة تتعلق بالمسألة الكردية عموما؟
مع رحيل قوات النظام عن بعض المناطق ذات الغالبية الكردية، أقدم الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني في سوريا المعروف باسم "حزب الاتحاد الديمقراطي" على تشكيل وحدات عسكرية في أغلب المناطق الكردية والكردية – العربية، أطلق عليها "وحدات حماية الشعب في غرب كردستان" بهدف حماية السكان وتنظيم شؤونهم لتكون بمثابة شرطة داخلية وميليشيات مسلحة بمواجهة التنظيمات المسلحة ذات الأجندة الإسلامية والتركية ( داعش، النصرة، كتائب إسلامية..)، وتطوّر الأمر لاحقا إلى إعلان الإدارة الذاتية من قبل الحزب المذكور مترافقا مع صدور قوانين تنظّم العمل الإعلامي والمؤسسات المدنية التي تشكلت في تلك المناطق بعد رحيل قوات النظام، خاصة بالنسبة للأكراد الذين عانوا طيلة عقود من قمع وتهميش مضاعف ( كونهم مواطنين سوريين أولا وكونهم أكرادا ثانيا). وضمن مناخ الحرية هذا، تأسست إذاعة "آرتا إف إم" بتاريخ 167-2013 بعد أن أخذت موافقة رسمية "من اتحاد الإعلام الحر التابع للهيئة الكردية العليا" لتبدأ بثها بثلاث لغات "العربية والكردية والسريانية بهدف "مساندة التنوُّع القومي والديني في المناطق الكردية وباقي المناطق السوريَّة، وذلك بتعاضد مع النشاطات المشتركة الكردية والعربية والمسيحية وباعتماد ثقافة الحوار، لأنَّ "ثقافة الحوار وحدها ترسخ العيش المشترك السلمي والاحترام والتسامح بين المكونات المختلفة"، كما قال مدير الإذاعة في لقاء سابق مع "سيريا أنتولد Syria untold".
ولكن يبدو أن هذه الأجندة المجتمعية على بساطتها لا تتناسب مع الرؤية الشمولية التي تمتلكها القوى المهيمنة في المنطقة أمنيا، إذ بمجرد ما بدأت الإذاعة عملها حتى بدأت تتعرض لمضايقات من قبل جهات تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، حيث قدمت هذه الجهات "شكاوى بحقها لدى الأسايش متهمينها ببث برامج "تلحق الضرر بالمجتمع"، علما أن "مؤسسة أمهات الشهداء" المقربة بدورها من حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" تظاهرت في الثاني من أيلول/ سبتمر الماضي أمام مبنى الإذاعة واصفينها بـ"الخائنة والبعثية"، مبررين قولهم هذا أنها تستخدم مصطلح "قتلى" لعناصر وحدات حماية الشعب "YPG" حين يقتلون، بدلا من "شهداء" كما كان يرتئي المتظاهرون، علما أن "إذاعة آرتا لم تبث أي برامج موجهة ضد أي جهة ما" كما يقول أحد العاملين في الإذاعة لموقعنا، مؤكدا "نحن نقوم ببث الأخبار ولدينا برامج سياسية وفنية وخلال هذه البرامج نفسح المجال للانتقادات. وكباقي المؤسسات والتنظيمات فإن حزب الاتحاد الديمقراطي والتنظيمات التابعة له هي بدورها تتعرض أحيانا للنقد وهذا من واجب وسائل الإعلام".
إلا أن هذا النقد على ما يبدو لم يسر الحزب المذكور، فقام "الأسايش" باقتحام الإذاعة الذي وصفه لنا أحد العاملين فيها بالقول: "عندما دخل أعضاء الأسايش إلى مركز إذاعة آرتا في عامودا طلبوا من الموظفين إخلاء المكان, ولم يتعرضوا لأي موظف ولم يلحقوا الضرر بأي من أجهزة الإذاعة, وكانوا شديدي الحرص على عدم إلحاق الضرر بأي شيء"، ليصدر بعدها قرارا بإيقاف الإذاعة عن بث الأخبار والبرامج والاكتفاء ببث الأغاني! مما يذكر بتصرفات النظام الذي كان يرخص فقط لإذاعات تبث الأغاني!
حجة القرار الذي لا يستند لأي مستند قانوني هي "أننا نقتني في مركز الإذاعة أجهزة عائدة لإذاعة (ام آي سي تي) الألمانية. وهذا صحيح " حيث جاء في القرار الصادر عن اتحاد الإعلام الحر: "بعد حصول الاسايش على أمر بالتفتيش من النيابة العامة لمحكمة الشعب وبحضور لجنتنا الحقوقية لحماية حقوق الصحفيين ووسائل الاعلام توجهوا إلى مبنى إذاعة ARTA FM ،وبعد التفتيش تبين أن لديهم جهاز بث(استقبال وارسال) عائد لراديو MICT - حسب إدارة ARTA- في مبنى الإذاعة بشكل مخالف لميثاق اتحاد الاعلام الحر"، حيث يبدو أن الأمر حجة أخذت ذريعة للضغط على الإذاعة وإسكات صوتها، لأن هذا الأمر معلن رسميا مذ تأسست الإذاعة، إذ سبق لمؤسسها "سيروان حاج بركو" أن قال لنا في حوار أجريناه معه بتاريخ 16 أيلول 2013 :"منذ عام2005 كنت أعمل كصحافي في الإذاعة الألمانية WDR، وفي السنوات الثلاث الأخيرة استطعت تدريب أكثر من مائة صحفي في كُردستان تركيا والأردن من أجل خدمة العمل الإذاعي ..عرضت الفكرة على بعض مؤسسات الإعلام الأوربية والأمريكية، وقد قدمت لنا مؤسسة "سيدا" التابعة للحكومة السويدية، المساعدة لتحقيق مشروعنا".
وفي تعليق الإذاعة على القرار ومن قام به، يقول أحدهم: "أعتقد بأن من قام بهذا العمل يجهل سبب قيامه به"، مستغربا "عدم وجود أي نوع من التنسيق بين المؤسسات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي, فهذه الجهة تجهل ما تقوم بها الجهة الأخرى, وسبب قيامها بذلك, وهذا ما يثبت عدم وجود أي داع لهذه الهجمة وأن ما جرى كان دون أي تخطيط أو أسباب معلنة" الأمر الذي يذكر بتعدد مراكز القوى لدى النظام المستبد. في حين صرّح المذيع السابق في الإذاعة "باز بكاري" لـ ARA News بأن ما حصل "هو تضييق على الإعلاميين" معتبرا " الاقتحام محاولة جديدة لعرقلة عمل الإذاعة".
ما جرى مع "آرتا إف إم" في المناطق الكردية من قبل "الأسايش"، ومع المركز السوري الإعلامي لمؤسسه رائد الفارس في كفر نبل وراديو "فرش" و مجلتي "الغربال" و "منطرة" من قبل تنظيمات مسلحة لم تعرف ماهيتها حتى اللحظة، يضعنا أمام حقيقة أن القوى التي ورثت الاستبداد في المناطق التي رحل عنها، هي وجه آخر له، تحمل فكره وسلوكه، دون القدرة على الحكم حتى الآن، إن كانت مجرد أدوات له سلّمها تلك المناطق بملء إرادته أم أنها قوى ذاتية تحمل فكره وسلوكه واستبداده، وفي الحالين الأمر سيء، وهذا ما دفع الناشطين المدنيين والسلميين والإعلاميين إلى البحث في كيفية مواجهته، فتداعى قسم منهم لإطلاق مبادرة حملت عنوان "من أجل وضع حد للجرائم والانتهاكات بحق الصحفيين والإعلاميين في سورية"، في حين قالت الناشطة رزان غزاوي التي تعرض مشروعها "باص الكرامة" لاعتداء من داعش، أنه لا يمكن مواجهة هذه القوى إلا بـ " أن نفعل مثلما كنّا نفعل بمواجهة النظام في بداية الثورة، أي أن نترك الضيعة ونهرب أو نختبأ عند أصدقائنا"، لنكون أمام واقع مؤلم وقاسي يواجهه الإعلام والناشطون السوريون اليوم.