في حملة التشجير التي شارك بها فريق حملة عيش في قرية معرة مصرين بريف إدلب بمناسبة مرور ثلاث سنوات على انطلاق ثورة/ انتفاضة الكرامة، لفت نظر فريق سيريا أنتولد syriantold" مشاركة مقاتلين من "الجيش الحر" في الحملة التي تحمل طابعا سلميا مدنيا، الأمر الذي أثار استغرابنا في البداية على اعتبار أن العسكرة ساهمت في تقلّص النشاط السلمي المدني، فمن هؤلاء؟ وكيف يحملون السلاح بيد ويشاركون بحملات مدنية ساهم السلاح نفسه في تقليصها بيد أخرى؟ وما هي رؤيتهم للنشاط السلمي؟ وهل كانوا سلميين وأجبروا على العسكرة ثم عادوا إلى السلمية أم ماذا؟
أسئلة كثيرة حملها فريق عملنا إلى المقاتل "حسان دوش" الذي شارك في حملة التشجير، لنقف على حكايته الشخصية، وحكاية هذا الترابط المعقد بين السلمية والعسكرة، علّنا نتمكن من فك بغض ألغاز هذه الثورة/ الانتفاضة التي اختلطت فيها السلمية بالعسكرة والثورة بالحرب الأهلية، التي لا تني تفاجئنا وهي تدخل عامها الرابع، بحكاية تلو الحكاية، وكلها حكايات معمدة بالدم والحرية، بالأمل واليأس في آن، فما هي الحكاية؟
يعترف ابن مدينة إدلب المولود في مدينة دير الزور (1989)، أنه ما كان يملك الجرأة "حتى للخروج من البيت" في شباط 2011 حين تلقى أول دعوة ليوم الغضب السوري آنذاك، فرغم أنه قبل الدعوة على الفيسبوك، منتظرا بتوق أن يحصل في سورياه ما حصل في مصر وتونس، إلا أنه كان خائفا لأنه "يشك بوجود أشخاص قادرين على صرخ الصرخة الأولى لكني كنت غلطان"، وذلك بسبب ميراث القمع الطويل الذي طبع السوريين على مدى عقود، إذ كان يدرك "مدى بطش المخابرات السورية".
https://www.youtube.com/watch?v=BJn8kq3ZLkc
إلا أن هذا التردد والخوف لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما بدأت المظاهرات في دمشق ودرعا وبانياس، ليصل الحراك إلى جامعة "حلب /الثورة" كما يسميها، حيث كان يدرس في قسم اللغة الفرنسية، ليخرج في أوّل مظاهرة له في منتصف نيسان "بالسكن الجامعي" حيث وصل عدد المتظاهرين آنذاك إلى حوالي 1500طالب وطالب، ليتحرر حينها من خوفه، إذ "أحسست بقوة في داخلي لم أعهدها من قبل، وأكلنا يومها يلي فيه النصيب من اتحاد الطلبة وأمن الجامعة" الذين اعتقلوا الكثير من الطلاب والطالبات، ليبدأ بعدها حسان مسيرته "بالمظاهرات داخل الحرم الجامعي وخارجه وآخر الأسبوع زور أهلي وشارك بمظاهرات إدلب".
إلا أن نشاطه هذا جعل اسمه يعمم على كل حواجز النظام والأفرع الأمنية، حيث حاول الأمن اعتقاله "بعد أول مادة قدمتها في امتحانات الجامعة" لينجو ويهرب إلى إدلب ويرى "أن الأمن كمان معمم اسمي ع الحواجز" حيث تعرض لموقف سيبقى محفورا في ذاكرته أبد، فعلى " دوار المحراب الموجود بمدخل مدينة إدلب الرئيسي، يوجد مساعد أول بأمن الدولة أخذ الهوية ونزل من البولمان لعدة ثواني، ثم عاد أعطاني الهوية وقال لي: لا بقى تمر على الحواجز يا ابني. شكرته كثيرا وكانت آخر مرة"، ليحصر مشاركته بعد اليوم في مدينته، حيث "كنت ألحق المظاهرة من مكان لمكان ....يلي ما كانت تقطع 10 دقايق".
لا ينسى "حسان" يوم قرر حمل السلاح، إذ كان يشارك في مظاهرة إلى جانب "محمد سيد عيسى" الذي كان أول شهيد في مدينة إدلب، حيث "تيابي كانت مبللة بدمه الطاهر، وبوقتها في شي مات بقلبي اسمو خوف، وهون قررت حمل السلاح بعد ما كانت أول هتافاتنا سلمية ...سلمية"، ليستمر بنفس الوقت في تنظيم المظاهرات "وصنع أعلام الثورة واللافتات والتصوير" .
https://www.youtube.com/watch?v=e7gtWhY0B4M
في أيلول عام 2011 اقتنى "حسان" أول بندقية بشكل سري، "فحتى أهلي وصحابي لم يعرفوا بالأمر"، إلا أنه لم يستخدمها إلى أن أصبح حمل السلاح أمرا علنيا أي بتاريخ 10-3-2012 حين دخل الجيش إلى المدينة فقاتلوا حتى فقدت الذخيرة منهم وبعدها " طلعنا من المدينة لنستقر بأطراف المدينة ، بعيد عنها حوالي 2كم." إلا أن الملفت في حالة حسان أنه جمع بين كونه مقاتلا وناشطا إعلاميا ومدنيا، إذ "ما قدرت أحصر نشاطي الثوري بالسلاح فقط، لأن "العمل المدني هو مثل الماء والهواء بالنسبة لي"، وقد اخترته "مشان كمل طريقي بإصرار وعزيمة ". وفعلا حتى اليوم يعمل حسان في النشاط المدني من التوثيق والإحصاء بهدف مساعدة
"بعض العائلات بتأمين احتياجاتها" إلى التغطية الإعلامية "لبعض المعارك والاشتباكات" إلى " حملة التشجير" والتي كانت آخر نشاط يشارك به دون أن يكون الأخير طبعا، والتي كان لنا وقفة خاصة مها في "سيريا أنتولد Syria untold".
يعترف حسان اليوم أنه لم يحمل السلاح منذ مدة طويلة، دون أن يعرف السبب، إلا أنه متأكد أنه سيبقى "شخص ذو عواطف وأحاسيس وإنسانية دائمة مهما كانت الظروف قاسية" بعد أن مر بتجربة عاصفة أدت لأن يشعر أن " شي كتير بقلبي كان عم يضمر يوم بعد يوم من شي اسمو عواطف وأحاسيس وإنسانية" على خلفية فقدانه ثلاثة من أبناء خالاته وعدد من أصدقائه: "معن دهنين يلي دايماً كنا مع بعض بكل مظاهرات إدلب، وأخوه "هاشم دهنين" يلي تربينا سوى من الصغر و"هشام حمندوش" يلي كان بيحمل كل صفات الرجولة ، و"محمد بيطار" صاحب الابتسامة الدائمة والقلب الأبيض والقائمة تطول" إلا أن وقوف أصدقائه بجانبه "لهم الفضل من بعد الله لأرجع وقف من جديد وبقوة أكبر".
وعما إذا كان يندم على حمله السلاح أو على كون السلاح ساهم في تقلّص العمل المدني، يقول " مارح أندم على أي خطوة اتخذتها لأني مؤمن بالأعمال يلي قمت فيها ورح أقدم على أي عمل في سبيل قضيتي". تلك القضية التي يسميها "سوريا المستقبل"، والتي يصفها بأنها "أكبر بكتير من مجرد جملة. هي أرض وشعب ومقومات دولة. قدمنا في سبيلها كتير ورح نبقى مكملين حتى النهاية، مهما اشتد ظلام الليل رح يكون في نجوم تنور طريقنا وتمدنا بالأمل .رح نبنيها مهما كلفت ..سوريا غالية .. غالية كتير".
حكاية "حسان" وتحوّلاته تعكس لنا جوهر ثورة/ انتفاضة بدأت سلمية واضطرت إلى حمل السلاح الذي كان سرّ نجاتها وهلاكها في آن، نجاتها لأن تمكنت من كسر عنف النظام ومنعه من وأد الثورة، وهلاكها لأنها هيّأت الأرضية اللازمة لنشوء التطرف ودخول تنظيمات داعش وتأكيد رواية النظام بكونه يقاتل "تنظيمات إرهابية". وبين الأمرين ثمة من لازال يؤمن بالسلمية وإن حمل السلاح مضطرا معتبرا أنها "مثل الماء والهواء بالنسبة لي"، مصمما على المضي في "سبيل بناء وطن سيخلد التاريخ تضحيات شعبه" رغم "كل جراحنا وأحزاننا مستمدين قوتنا من بسمات من فارقنا، من آهات معتقلينا، من دموع الثكالى وبراءة أطفالنا".