برزخ هبة الأنصاري بين سماء الحرية و قاع الأرض


04 نيسان 2014

ركام وبقايا بيت مهدم، جدران محروقة بقذائف الطائرات، درج يصعد إلى الله وسط حطام يكاد يكون صورة مصغرة عن سوريا "المحررة" والمدمرة في آن، ولكن العصية على الركوع أيضا.

بيت من بيوت "كفرنبل" المدهشة بألمها وحكاياتها ولافتاتها، هو ما اختارته الفنانة السورية "هبة الأنصاري" ليكون صالة عرض لـ "برزخ" المكوّن من فساتين بيضاء ملطخة بسواد قليل، معلّق بها أرجل خروف في مفارقة أدهشت الجميع، بقدر ما أثارت استفزازا لدى بعض أهالي المدينة، الذين يرون اللحم معلّقا في معرض وهم بالكاد يحصلون على الطعام، ناهيك عن تخوّف الأهالي من رد فعل النظام.

"برزخ" الذي أرادته الفنانة أن يكون "تحيتها" للذكرى الثالثة للثورة/ الانتفاضة السورية، ضمن فعاليات مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية، حيث كان المعرض أول نشاط ضمن سلسلة فعاليات أحيت الذكرى الثلاثة لثورة لا تكف عن الصخب والقلق وإحداث مفارقات كتلك التي أحدثها "برزخ" لدى جمهوره أولا، و لدى أهالي "كفرنبل" الذين ينادمون الموت ثانيا.

مفارقة تبدأ من مكان العرض/ البيت المدمر منذ عام جرّاء قصف النظام، إذ تعود ملكية البيت لرجل قتل أثناء القصف، ولم يبق  منه إلا ساقه المبتورة وسط الأنقاض، لتحيلنا أرجل الخروف المعلّقة بالفساتين مباشرة إلى ساق هذا الرجل، هل قامت من بين ركام المنزل؟ هل أصبحت تحدّق في المارة لتذكرهم بلحظات عذاب صاحبها؟ ولم هي معلّقة في فستان أبيض؟

صورة للبناء المهدم الذي تم إقامة معرض برزخ ضمنه ... المصدر صفحة إحتفالية الشارع على الفيس بوك
صورة للبناء المهدم الذي تم إقامة معرض برزخ ضمنه ... المصدر صفحة إحتفالية الشارع على الفيس بوك

بين البياض والملائكية علاقة بارزة لا تخطئها عين، فهذه الأثواب البيضاء المعلّقة في فضاء الدمار، هي لسوريين خطفهم الموت، إلا أن أرواحهم علقت في "البرزخ" الفاصل بين الحياة والموت، فلا هي قادرة على الصعود إلى الجنة ولا البقاء في الأرض، تشبثا منها بفضاء منازلها المدمّرة وحيواتها المسروقة، ورغبة منها بأن تبقى شاهدا على همجية دكتاتورية أوقفت حياة السوريين في "برزخ"، إذ تقول الفنانة لصحيفة الحياة: " يجلس القتلى على أنقاض بيوتهم، يراقبون السوق بصمت، وتتحرك فساتينهم البيض بفعل الريح الباردة، ولا يستطيع أحد منهم تحريك قوائم الخروف التي يملكها، للمشي مجدداً في شوارع قريته".

ولكن إذا كان بياض الفساتين الخمسة والعشرين المعلّقة في فناء الانتظار يحيل إلى أرواح شهداء لم تكتمل ملائكيتها بعد، فإلام تشير أرجل الخروف هذه، بعيدا عن علاقتها المفترضة مع رجل صاحب البيت التي بقيت شاهدا مقلقا عليه؟

لا يكتمل البرزخ إلا بطرفين: جنة ونار، سماء وأرض، مدنس ومقدّس، رغم أنه لا يبلغ أي منهما. ومن هنا تأتي أرجل الخروف بفجاجتها وسوقيتها وغرابة فكرتها لتكون الطرف الآخر من البرزخ: البشري والمدنس والمشوّه فينا، مقابل الملائكي المفارق المتعالي، دون أن يبلغ السوريين أي منهما، لينفتح الفضاء الفني هنا على ما هو أعم وأشمل، على ما يلامس وضع الثورة التي لازالت بعد ثلاث سنوات ترزح في "البرزخ" الفاصل بين النصر والهزيمة، فلا هي وصلت ملائكيتها/ سمائها/ خاتمتها، ولا هي هزمت وانحدرت إلى القاع، إنها بين بين، و معها السوريون المعلقون في برازخهم الشخصية الهاربة من الموت والساعية للتشبث بالحياة، وبرازخهم العامة المتأرجحة بين حرية لم تأتي و عودة سوريا كسجن كبير يختزلهم إلى أرقام ومصفقين وأرجوازات لدكتاتورية خبروا على مدى عقود معنى انتصارها، ولهذا هم يقاومون ويقاومون سعيا للتخلّص من "أرجل خروفهم" لمغادرة برزخهم صوب بياض حرية تأخرت.

صورة من معرض برزخ تظهر احد الأعمال و البناء المهدم ... المصدر صفحة صفحة إحتفالية الشارع
صورة من معرض برزخ تظهر احد الأعمال و البناء المهدم ... المصدر صفحة صفحة إحتفالية الشارع

علاقة "البرزخ" من محيطه كانت برزخية أيضا بامتياز، فلا هي رافضة بالمطلق لأنها سمحت بإقامة المعرض، ولا هي متقبّلة أيضا، إذ استفز اللحم المعلّق والمعروض للفرجة الأهالي وبعض المقاتلين الذين اقترحوا على الفنانة توزيعه على الجائعين بدلا من عرضه هكذا، ناهيك عن خوف جيران المنزل المهدّم من تعرض المكان لانتقام الطيران، وهم الذين خبروا "انتقام" النظام من لافتاتهم التي يفهمون معنى دفاعهم عنها، أما أن يقصفوا لأجل لحم معلّق وفساتين فبدا أمرا غريبا ومربكا لأناس قد يدفعون حياتهم جراء "برزخ" فلم يقدروا على رفضه ومنع حدوثه ولم يتقبلوه إلا على مضض، خاصة حين سمع الجمهور صوت الطيران يقترب منهم، فهرب الجميع وهم يحملّون صاحبة "برزخ" ذنب أن تقصفهم الطائرة، وتركوا الفساتين معلّقة تلهو بها الريح منتظرة قدرها بأن تقصف!

الطائرة قصفت قرية مجاورة، ونجا "البرزخ" ليبقى شاهدا على ثورة/ انتفاضة توّدع عامها الثالث، وتدخل رابعها ميّممة شطرها صوب فساتين بيضاء غير ملطخة بأسمنت محروق: فساتين بيضاء بيضاء تلهو في عرس الحرية.

علّها حينذاك تغادر برزخها هذا.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد