ربما
لأنها حمص التي لا تشبه إلاها.
وربما، ولأن الخروج منها حصل في أربعائها الشهير الذي كان نكتة فرح وسخرية، فغدا نكتة ألم، ووجوها تنز دما وفراقا وخجلا، وهو ما عبّر عنه الناشطون حين رسموا بوسترا معنونا بـ "حان الوداع. أربعاء حمص الحزين".
وربما، لأنها حمص التي كان الناشطون يأملون بالتجمهر حول ساعتها الشهيرة ذات حرية، فإذا بهم يخرجون منها أبد، دون أن يمنعهم ذلك من الإصرار على الحلم بأن "حمص بتكمل الطريق"، كما في لوحة للفنان "فادي زيادة". قال عنها لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold" أننا "لا يجب أن ننسى بأن سكان هذه الأرض قدموا أجمل لوحة عن الحرية والنقاء".
وربما، لأنها تمثل "عاصمة الثورة" كما أطلق عليها الناشطون في بداية الانتفاضة، فكان الخروج مها كمن يوّدع عاصمة بلاد فعلا، ولهذا ربما قارن البعض الخروج منها بالخروج من بيروت عام 1982، فلمدن العواصم نكهة حزن لا تنسى لأنها تمس كرامة الروح.
وربما لأن الخروج منها جاء بعد صمود وحصار قدم خلاله المحاصرون أقسى دروس الصمود إلى درجة أن اضطروا إلى أكل الحشائش والجراد، وهو ما عبّرت عنه إحدى اللافتات التي رفعت في حي "باب السباع" والتي كتبها المحاصرون قبيل خروجهم، إذ كتب عليها: " والله الذي رفع السماء بلا عمد. خروجنا سببه الوحيد الجوع الجوع الجوع. طالعين ناكل وراجعين"، فجاء خروجهم طعنة لمن تفرّج على حصارهم وموتهم، إذ أحسّوا بمرارة خذلانهم لحمصهم، كما خذل أهل كربلاء الحسين عليه السلام، فباتوا يعيدون طقوس ندامتهم وتكفيرهم عاما بعد عام وجيلا بعد جيل.
ولهذا كان للخروج منها وقعا أليما في نفوس السوريين المؤيدين للانتفاضة، سلميين كانوا أم مؤيدين للعسكرة، فحوّلوا صفحات التواصل الاجتماعي إلى جدارية تختزن خيبتهم وشتائمهم واتهاماتهم وآيات هزيمتهم ونصرهم في آن، كما تضم صور المقاتلين وهم يخرجون مرفقة مع بوسترات صممها الناشطون على عجل، مرفقة بعبارات من نوع " بخاطرك يا محاصرة" و "بخاطرك يا حمص" و"بخاطرك يا عدية".
إلا أن أكثر ما ترك ألما حادا في نفوس الناس، هي تلك العبارات المليئة بالتحدي والألم التي تركها الناشطون والمقاتلون المسلحون على جدران مدينتهم قبل خروجهم، فجاءت رسالة تحدي للنظام من جهة، ورسائل اعتذار للناس كي يدركوا أنهم لم يخرجوا إلا لأنهم جاعوا بعد أن قدموا كل ما يستطيعون تقديمه، حيث كتب أحدهم "وعندما أرحل تأكدوا أني بذلت كل ما في وسعي لأبقى".
الخروج من عاصمة الثورة/ الانتفاضة وجد صداه لدى الفنانين الذين حوّلوا الحدث إلى لوحة تبحث عما وراء هذا السراب، سعيا منهم للتعبير عن هذا الحزن الكثيف من جهة، ولشحذ الهمم من جهة أخرى، حيث رسم الفنان "فادي زيادة" عدة لوحات مستوحاة من هذا الخروج، حملت إحداها اسم "بخاطرك يا حمص" وهي عبارة عن خريطة سوريا يتخللها فجوة كبيرة في مكان حمص على الخريطة، وأخرى حملت عنوان "نحن أصحاب هذه الأرض" حيث تتبع طفلة بالونها الأحمر وسط هذا الخراب، في كناية عن مستقبل سينبت من قلب هذا الدمار رغم كل شيء، وهي اللوحة التي قال عنها الفنان "فادي زيادة" لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold": "هي اللوحة مثلاً ممكن قول عنها أننا أصحاب هي الأرض، ولما بطلع أنا من حمص أو أي شخص هو ما طلع منها فعلياً. حمص رح تضل بالذاكرة وبعمره إنسان قد ما بعد ما ممكن وطنه يطلع من ذاكرته. الحياة لنا. نحن من يملك الحياة دائماً. ماذا يملك الأسد الآن سوى الدمار؟".
وأما الفنانة "يارا نجم" فاختارت البحث عن الأمل وسط هذا السراب، وهو ما تعكسه عناوين لوحاتها "الأمل حاضر لا ينتهي"، و "قرب الحصار" حيث قالت الفنانة لموقعنا "تعربشت على فكرة الفرح ببقاء شباب حمص بخير ووصولهم لبر آمن. أدركت أن الأمل فيهم وحدهم لاستعادة الفرح والحرية التي يقتلها النظام فينا كل يوم، وحاولت عكس هذا الأمل فيما نفذته لحمص: كلمة لحمص، حمص هي من تتكلم ونحن نصغي، لقد حملت راية الحرية منذ البداية وحصلت عليها، كل أهالي حمص باتوا أحرار، سبقونا بعمر وإنسان، والحرية والإنسانية فكرة غير قابلة للكسر أو الانهزام مهما جار الزمن عليها" ، وذلك على العكس من الفنان "وجدي صالح" الذي عبر عن الأمر بلوحة مكتوب فيها عبارة حمص وهي تنز دما.
ساعة حمص الشهيرة التي صنع الناشطون المدنيون واحدة منها إبان الفترة السلمية حين منعهم النظام من الوصول إليها، كان لها حضور كبير في لوحات الفنانين، وكان حضورها الفني يثبت امتلاكهم لها وعدم خروجهم من المدينة، أو رفض للاعتراف بهزيمة المدينة، حيث رسم الفنان "خالد مالك" لوحة للساعة يعلوها غراب لأن "هالغربان عششت بحمص بس مالها مطولة. لأنها أبدا ما بتتعود على مكان وما بتحسن تضل عايشة بمكان واحد" كما يقول لموقعنا سيريا أنتولد Syria untold، لنكون أمام إصرار على امتلاك روح المدينة من خلال امتلاك ساعتها.
أمل الفن مقابل يأس الناس. هذا ما سعت اللوحات لتكريسه وكأنها تقاوم هذا اليأس الذي حل على الناشطين بعد فقدانهم حمصهم، سعيا لاستيلاد أمل من قلب هذا الركام، و"كأن سكان هذه الأرض خرجوا من تحت الركام. وخرجوا بعد كل هذا الحصار" كما يقول "فادي زيادة" عن لوحته "حمص" التي تتبعها لوحة طفلة تركض في سراب هذا الخراب في لوحة "نحن أصحاب هذه الأرض"، ومالكي ساعتها، وكأن من يملك وقت المدينة يملك روحها حتى وإن غادرها!