لا يستسلم الناشطون السوريون لليأس إذا ضاقت ساحات سوريا الداخل عليهم بفعل العنف والمعارك والاستبداد، بل يبحثون عن ساحات أخرى يبنون بها سورياهم التي حلموا بها ومنعهم إياها الاستبداد. هذا ما قام به ناشطون سوريون في مدينة غازي عنتاب التركية، حين أسّسو تجمع "بيتنا سوريا" ليكون بمثابة سوريا صغرى يكوّنوها كما يشتهون، على مقاس أحلامهم ورغباتهم التي أجهضتها الدكتاتورية، وكأنهم يبنون سورياهم في غيوم المنفى بانتظار العودة، فما هي الحكاية؟
مجموعة من الشباب السوريين والأتراك في مدينة "غازي عينتاب" التركي التي تضم عددا كبيرا من النازحين السوريين أطلقوا مركز "بيتنا سوريا"، بهدف إيصال رسالة سورية للخارج عامة، وللأتراك خاصة بـ "أننا كسوريين وكثورة سورية. لسنا فقط لاجئين ونازحين، ففينا الفنان والشاعر والمسرحي والقاص والثائر و المحاضر والسياسي, ولذا نحن نركز على إحياء هذه الصورة، وتذكير بعضنا كسوريين والمجتمع التركي المحيط بهذا الموضوع".
انطلق التجمع بهدف تحقيق فكرتين أساسيتين هما: العمل على تنشيط الحراك الثقافي السوري في غازي عنتاب خاصة وتركيا عامة، على اعتباره ضعيفا " في فترة الثورة السورية وتسلّط أجهزة النظام الأمنية عليه قبل الثورة"، و لتشكيل حلقة وصل "بين الجهات المانحة الأوربية و المنظمات السورية العاملة داخل سوريا لتسهيل التواصل وتمكين المنظمات السورية من العمل وفق المبادئ والأسس التي تعمل بها هذه الجهات المانحة، وخصوصا أن منظمات المجتمع المدني في سوريا كانت حديثة العهد وغالبيتها تشكّل بعد بداية الثورة، وليس لديها خبرة كافيه في هذا المجال" حيث تم مساعدة أكثر من خمسة عشر مجموعة "لتكتب مشاريع وتجهز موازنات مالية، لتقدّم بعدها لجهات مانحة، وقد حصل بعضها على التمويل"، كما يقولون لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
انطلاقا من أهدافهم السابقة، فإن نشاطاتهم تركزت على نشاط تمويلي يستهدف المجموعات العاملة داخل سوريا، وآخر ثقافي اجتماعي يستهدف السوريين المقيمين بمدينة غازي عينتاب، من خلال السعي لتأمين مكان لكل نشاط ثقافي، بالإضافة إلى "المعدات وأحيانا مصاريف المنامة والطعام والنقل"، حيث قدّم التجمع في هذا الإطار أمسيات شعرية وسينمائية وأفلام وثائقية ومسرح وندوات حول الإعلام البديل وندوات توعوية حول الألغام و حفلات موسيقية، إضافة إلى استهداف المجتمع التركي بنشاطات تقدّم باللغة التركية، حيث تم تقديم العديد من الأفلام التركية، وأفلام عربية مترجمة للغة التركية، و وثائقيات عن سوريا معدة من قبل مجموعات سورية و مترجمة لأكثر من لغة.
لم يقتصر عملهم على الخارج فقط، بل يسعون كل جهدهم للتشبيك ما بين الداخل والخارج، فأول ندوة سياسية قاموا استضافت وفد الائتلاف الوطني الذي شارك في جنيف2، "وقمنا باستقبال اتصالات سكايب من داخل سوريا من درعا وحمص المحاصرة وغيرها من المناطق ليكون عنوان الندوة ماذا يريد السوريون في الداخل من وفد الائتلاف في جنيف 2؟".
قصة التمويل مع المجموعة طريفة وجميلة في آن، فهم لا يعتمدون على التمويل التقليدي القادم من المؤسسادت الدولية فقط، بل يعتمد تمويلهم على ثلاث مصادر، أولها تأجير المكاتب الموجودة في المركز لمجموعات ومنظمات ومجلات وجرائد سورية، وثانيها وضع المركز وقاعاته بتصرف جهات مانحة تريد إقامة ورشات تدريبية "فنحن نؤمّن لها الصالة والمنامة والطعام والأسعار، و هي أرخص من أي مكان في المدينة مع إضفاء صبغة الحميمية على المركز ورواده من خلال النشاطات, فهو ليس فندق بل منزل يجمع كل المهتمين بالشأن السوري"، والثالث هو التمويل التقليدي القادم من "بعض الجهات المانحة الأوربية التي تقدم الأموال لتمويل مشاريع مجموعات في الداخل السوري"، وهو ليس تمويل كبير بطبيعة الحال، مع العلم أنهم قرروا التوقف عن أخذ أية تمويل من الجهات المانحة بنهاية هذا العام (2014)، ساعين لأن يتمكن من تمويل نفسه من خلال أنشطته.
https://www.youtube.com/watch?v=qIuuEPXQs80
الموارد القادمة من مصدري التمويلين الأولين يذهب مباشرة "لسلّة تمويل لتمويل مشاريع بالداخل السوري"، في حين أن الثالث هو جزء من "البرنامج التدريبي الكبير الذي يستهدف المشاريع التي لا تقوم بها المنظمات بشكل عام, مثل تأهيل البنى التحتية وتدريب كوادر في مجال الدعم النفسي والإسعاف الأولي، حيث قام التجمع بصيانة شبكة المياه في ريف حلب، ما أدى لوصول المياه لأكثر من 500 عائلة بعد انقطاع دام سنين، وتم تدريب فريق إسعافي في إحدى مناطق الريف الشمالي لحلب لتكوين منظومة متكاملة من الإسعاف والدفاع المدني والشرطة، بهدف التخفيف من خطر التدخلات الإسعافية الخاطئة التي يقوم بها الناس في حال حدوث قصف من قبل النظام للمنطقة، وكذلك تدريب أكثر من 90 شخص من أهالي المنطقة على الإسعاف الأولي ليصبح في كل منزل مسعف.
وشارك "بيتنا سوريا" بمساعدة مجموعة "الشارع للإعلام والتنمية" في التجهيز لمهرجان "سينما الموبايل" الذي سيقام في شهر أيلول، إضافة إلى مشروع دعم نفسي للأطفال في أحد المخيمات، حيث يختلف المشروع عن غيره بأن المجموعة ستبقى تعمل مع الأطفال بشكل دائم.
يسعى "بيتنا سوريا" لإشراك أكبر عدد من المنظمات والمجموعات والأفراد في نشاطاته، كما أنه يشارك بكل فعالية في نشاطات الآخرين، انطلاقا من كون المركز بالأساس هو فضاء مشترك للجميع، وهو أمر قائم ومجسد أساسا في بنية المشروع، فمثلا إن مسؤولي النادي السينمائي هم مجموعة من الشباب المهتمين بالسينما وليسوا من المركز, وقام المركز بعدد من الندوات بالتعاون مع جريدة "حنطة" و مع بعض الفرق المسرحية والموسيقية. وهم يحضرون اليوم لإقامة المهرجان الثقافي السوري الأول في مدينة غازي عينتاب بالتعاون مع منظمة "نوافذ" التي لديها خبرة طويلة في هذا المجال والتي قامت بمهرجان الفرات الأول في مدينة أورفة التركية.
ولأن الحلم لا يغادر السوريين، سواء كانوا داخلا أم خارجا، يحلم "بيتنا سوريا" بوجود حياة ثقافية سورية في دول المهجر ذات اتصال مع الداخل، وأن يتمكنوا من تعزيز قدرات المجموعات السورية العاملة في الداخل، وزيادة فعالية المركز وتعزيز دوره.
سوريون حوّلوا يأسهم ومنافيهم إلى خلية نحل، تنتج عسلا سوريا وتبني كوادر سورية بانتظار رحيل الدكتاتورية، لتبني سورياها على مقاس "بيتنا سوريا".