اللافت حقّاً أنّ السوريين خلال هذا الموت والخراب لم يتوقفوا عن الإبداع، حتى لكأنّ الجنون الذي حدث على الأرض، وعلى مدى ثلاث سنوات ونيّف، لم يكن إلاّ مفجّراً للطاقات الإبداعية لدى هذا الشعب. فبمقدار ما ضخّت الأحداث الدموية الجارية من شهداء ونازحين، ضخّت بالمقابل فنانين وأدباء وإعلاميين جدداً، راحوا يروون الغائب من الحكاية، فكانوا بمثابة الاكتشاف على المستوى العربي.
ومن بين ما قدّمه السوريون في مختلف مجالات الفن، يبدو أنهم الآن يدخلون إلى مرحلة جديدة هي مرحلة "الدراما المستقلة". نقول "مستقلة" لخروج هذا النوع عن متطلبات السوق والربحية، ولتناوله لمواضيع صميمية وحساسة، لا يمكن لسياسات المحطات الفضائية أن تقبل بطرحها، ولأنها قائمة بجهود ذاتية محدودة.
طبعاً لم تهبط هذه التجارب فجأةً من السماء، بل كانت أمامها كل المقدمات اللازمة لظهورها إلى العلن، وقد ظهرت تباشيرها الأولى في أعمال درامية بدت كمحاولات تتكئ على أعمال وأساليب المسلسلات السورية العريقة مثل "مرايا" و"بقعة ضوء".. وسواها، وكانت السنة الماضية فاتحة للعديد من هذه الإنتاجات التي جاءت كتقليد لما هو معروف، لكن بمضمون ثوري وسياسي عالٍ. نذكر على سبيل المقال أعمال مثل: "مرايا الحصار الحمصي"، "ضيعة ضايعة الثورة"، إضافة إلى العديد من الاسكتشات واللوحات المتفرقة.
https://www.youtube.com/watch?v=1DjWQD5PsoY
لكنّ الحالة البدائية والمتعثرة في تلك الأعمال التي كانت تسندها مصداقيتها فقط، تحولّت إلى أعمال أقرب إلى الاحترافية هذا العام، لا سيما مع ظهور مسلسلي "أم عبدو الحلبية" و"منع في سوريا" المسلسلان اللذان تم تصويرهما في المناطق المحررة في سوريا، واللذان اختارا فترة رمضان للعرض، في نوع من الرغبة في منافسة هذا الموسم التجاري بطريقة غير تجارية.
الأكيد أن تجربة الإنتاج المستقل استفادت من توافر معدات التصوير التي دخلت البلد لأغراض صحافية، ومن خضوع العديد من الشباب لدورات إعلامية وسينمائية. والأكيد أيضاً أن هذه التجربة ستشكّل نقطة تحول في الدراما السورية في أكثر من ناحية، وعلى أكثر من صعيد، أولها التّحرر من شروط الممول والمنتج، وما يتضمنه ذلك من سطحية في التناول والعرض، وتركيز على الشكل والجسد أكثر من المضامين. والأمر الآخر هو التحرر من شروط الرقابة الحكومية الدائمة على الإنتاجات الدرامية التي بدت في كثير من الأحيان محققة لأهداف مخابراتية محددة، تستعمل التلفزيون وفنونه لتشكيل وعي عام لبقاء السلطة على ما هي عليه، وإلقاء كل اللوم على الفاسدين، الخارجين بالطبع عن الشرف الوطني. في تصغير وتسخيف لمعنى النقد وذلك بوضع اللائمة على الفساد مثلاً، كما في مسلسل مثل "يوميات مدير عام"، في حين أن الفساد، وكل أمراضنا السياسية والاقتصادية، نابعة من طبيعة الحكم الاستبدادي والدولة الأمنية. ويمكن أن نضيف إلى ما سبق انتماء هذين العملين إلى اليومي والمعاش في الثورة السورية، من وجهة نظر الإنسان السوري نفسه، وبصوته وجسده.
ينتمي العملان (أنتجتهما "فضائيات بكرا أحلى" و"شركة لمبة"، وكلاهما من إخراج بشار هادي) إلى الفضاء الكوميدي، في مفارقة فريدة من نوعها حيث تعيش سوريا لحظة تراجيدية منقطعة النظير. فبينما اتبع مسلسل "أم عبدو الحلبية" فكرة المسلسل المتصل المنفصل، يتبع مسلسل "منع في سوريا" أسلوب اللوحات المنفصلة. ويشترك الاثنان في أنهما يبثان عبر "يوتيوب" ويحظيان بمتابعة لافتة، كما يشتركان في أنهما صوّرا في مدينة حلب. والعملان يهدفان إلى تقديم أفكار تعبّر عن الإنسان السوري الثائر بوصفه إنساناً طبيعياً، يعيش حياة ككل البشر، ولديه أحلامه وطموحاته المشروعة في التغيير، بعيداً عن الدعاية ضده كمخرّب وسلفي وما شابه. وكذلك لتقديم صورة لواقع الحياة الآن في تلك المناطق، وهو ما يجعل النقد مزدوجاً.
https://www.youtube.com/watch?v=PbEn8Uqniro
ورغم قلة الإمكانيات وشح موارد الإنتاج من مختلف النواحي، إلا أن مسلسلاً مثل "أم عبدو الحلبية" يظهر بتقنية عالية قياساً إلى ما هو متاح، بل إنه يتفوّق في بعض جوانبه على أعمال درامية رمضانية رصدت لها ميزانيات ضخمة، فالممثلة الطفلة رشا، مع المخرج بشار هادي وكاتبة السيناريو عفراء هاشم؛ نجحوا في إيصال واقع المناطق المحررة في حلب دون أية رتوش، بل قاموا في الوقت ذاته باستعادة الشخصية الحلبية الشعبية "أم عبدو"، ووضعوها في سياق سوري في لحظة يحتاج فيها السوري إلى التشبت بهويته الحقيقية حيال الطائفية التي لوثت الهوية.
أما مسلسل "منع في سوريا" (يقوم ببطولته: يامن نور، محمد نور، جهاد أبو الجود، هيثم العريس) فهو الآخر امتداد لليومي المعاش بقالب ساخر، يقترب من الكوميديا السوداء وهو أقرب ما يكون إلى مسلسل "بقعة ضوء"، ففي حلقة "ما في شي" يطرح المسلسل فكرة التعايش مع فقدان كل مقومات الحياة، وفي حلقة "بيسقط" التي يدور فيها حوار ساخر عن سقوط النظام، لتنتهي الحوارية بسقوط المتحاوران مع المنزل. وهكذا تتوالى أفكار صغيرة كما تتوالى حلقات الماء، ومن هذه التفاصيل ترتسم جدارية كبرى لحياة سوريي اللحظة الراهنة.
تأتي أهمية هذه الإعمال من كونها تعمل على تأسيس مسار جديد للدراما التي ابتلعها النظام وسماسرته، في الوقت الذي لا يبدو فيه أنها تبالي بذلك، بمقدار انصباب همها الأساسي على تصوير مشهد الحياة السورية من خلال أبطالها وحكاياتهم، لكنها في العمق تسجل نقلة في التأكيد على أهمية تضمين العمل التلفزيوني رسالة إنسانية وسياسية وحقوقية، بما يتوفر من إمكانيات. ما يبشّر طبعاً هو ارتقاء السوية بشكل لافت بين ما قدّم في السنة الماضية وما يقدّم الآن.