"الأسد هو سوريا، وسوريا هي الأسد" هذه العبارة التي عبرت في كتابات باتريك سيل تختصر واقع الدولة السورية الأسدية. عبارة يمكن القول بأنها غير دقيقة في نظام الدولة السورية البعثية. البعث هو الحالة الأمنية التطبيقية الأكثر عمقاً لمنظومة الدولة الأمنية في بلاد تُحكم بالفساد منذ سنوات طوال. حكم انطلق مع ما اصطلح على تسميته "ثورة الثامن من آذار" عام 1963. قيل عنها "ثورة الجياع والفلاحين وصغار الكسبة على الإقطاع والبرجوازية". لكنها في الواقع كانت ثورة لترسيخ عسكرة بنية النظام وحكم البرجواز المحدث والمركب.
نعم، هي كذلك، دولة تركيبتها المعقدة والفوضوية وغير الواضحة المعالم كما يظن البعض ساعدت على استمرار المنظومة القائمة. لكن، وبقليل من البحث والتمحيص، تفيض التفاصيل بمزيد من التعقيد والفوضى المدارة. فوضى تشمل أجهزة أمنية متنافسة لا قيادة مشتركة لها ولا تنسيق بينها. تشمل أيضاً طائفية دموية، وهي مرحلة ما بعد طائفية الدين. وتشمل فردية القرار وإطلاقيته. وتشمل فساداً مستشرياً لا مفر منه إلا به.
المكتب الثاني
جميع ما سبق من تفاصيل يحتاج لتحليل عميق وصادق لفهم بنية الدولة السورية. ولتكن البداية مع المنظومة الأمنية التي بدأت تكبر مع المكتب الثاني أيام الوحدة مع مصر. ولكن المكتب الثاني الذي استحال شعبة للمخابرات العسكرية لم يبقى وحيداً في ساحة القمع. فرّخ البعث مكاتبه الأمنية الأكثر شراسة وعنفاً لضرورة الحكم. وأسّس جهازاً لأمن الدولة في ثمانينيات القرن الماضي مترافقاً بتأسيس محكمة أمن الدولة. وقبلها ازدادت قوة شعبة المخابرات العسكرية بفروعها الشهيرة كفرع فلسطين وسرية المهام الخاصة 215. وأصبح بآن فرع المخابرات الجوية القوة الضاربة بيد الأسد الأب. ومع الأسد الابن كانت المخابرات الجوية ملاذه الوحيد ومركز ثقته. وجميع هذه الفروع الجوية والعسكرية والسياسية وأمن الدولة والمكتب السرّي المؤسس لاحقاً مع العهد الجديد وفرع الطوارئ الذي يجهله معظم السوريين والمرتبط بالقصر الرئاسي بشكل مباشر، جميعها لا تشكل مكتباً للأمن القومي، ويبقى هذا الأخير مجرد اسم يجمع بعض قيادات البعث القديمة وبعض الضباط ليكونوا الواجهة الهشّة التي يتم ضربها وقت الضرورة والتخلص منها.
الواقع الأمني ثبّته الفساد فتغلغل بكل مفاصل الدولة. لا يمكن أن تتم صفقة دون علم المخابرات السورية بها، ولا تمنعها، بل تضمّها لسجل الفاسد الذي قام بها. تضمّها لتكون ورقة ضغط عليه وسلبه القدرة على الحركة والفعل. وهذا واقع كبار موظفي الدولة ورجال الأعمال والكثير من ضبّاط الجيش الكبار منهم والصغار. أي تفعيل مبدأ إفساد ما لم ومن لم يفسد بعد. وهذا الإفساد يساعد بالتحكم وفرض السيطرة وتمرير القرارات وفق الإرادة الأمنية ومتطلباتها. فمثلا يوم سجلت كطالب في المعهد المتوسط الصناعي في القنيطرة طلب مني توصية أمنية، فلجأت إلى أحد الأشخاص غير المعروفين في مدينتي بالقلمون وهو من أمّن التوصية الأمنية لأقبل بمعهد متوسط صناعي. نعم فقد وصلت السطوة الأمنية إلى هذا الحد وأعمق. ومن جانب آخر تعمل هذه الأجهزة بأساليب مافيوية للضغط على المدراء والوزراء وحتى ضبّاط مخابرات في أجهزة أمن أخرى ومرّات على ضباط في القصر الرئاسي وذلك من خلال الصحافة أو بث الإشاعة. فمرّات كانت تصل إلى صحيفة "الوطن" السورية حيث كنت أعمل محاضر تحقيقات في قضايا فساد مع أشخاص مقرّبين من رئاسة الوزراء ويطلب من الصحيفة معالجتها ونشرها لتبدأ عملية بث الرسائل والرد بالمثل من الجهة التي تعرف بأنها مستهدف من هذا الرسالة.
طائفة الدم
الحرب بين فروع المخابرات والتجار المقربين من البيئة الأمنية والقصر الرئاسي وبعض القوى السرية التي تحظى برعاية العائلة الحاكمة أو المرتبطة بملفات مالية على مستوى صفقات فلكية الأرقام، جميعها أسست لطائفة الدم، وهي مرحلة أكثر عمقاً من طائفة الدين. اليوم تظهر الطائفة العلوية بمظهر القوى المجرمة أو الداعمة للمجرم من خلال تجنيد شبابها للدفاع عنه. لكن الواقع يؤكد أن المدافعين ليسوا فقط أبناء هذه الطائفة التي تعتبر وقود لبقاء عائلة. العائلة هي فكرة الطائفة الجديدة وهي ثقافة قديمة أعيد استخدامها في سوريا بحيث أصبحت طائفة الفرد هي أسرته وعلاقاته الدموية وهذه الحالة تظهر اليوم في سياق الثورة العام حيث تجد عشرات الكتائب والفصائل المسلحة العائلية. فالأسد وأخوته وأمه طائفة والعلويون طائفة أخرى. ولكن توريط أبناء هذه الطائفة بالجيش والمخابرات وإدخالهم إلى بنية الدولة العميقة في سوريا ساعد على إبقاء أقدامهم في حمام الدم المستمر.
"سألته لماذا تريد اغتصابي؟ رد عليها لأجل من أحبهم". هذه العبارة جزء مقتبس من لقاء مع إحدى المغتصبات السوريات في أحد فروع الأمن. تختصر المشهد الذي يحكم الواقع السوري منذ سنوات ولكن الجميع يرفض قبوله. فهذا المغتصِب، عنصر الأمن، يقوم بما يقوم به "لأجل الدفاع عن أهله وذويه وأحبائه"، وهذا رأيه إن اتفقنا أو لم نتفق معه. ووالد المغتصبة يقتل عنصر الأمن هذا "لأجل ابنته"، أي لأجل أحبائه وذويه. وهنا يضيع الوطن بين ثنايا طائفة الدم. فأنا وأسرتي فوق الجميع ومن بعدنا الطوفان. هذه الثقافة التي عزّزتها أجهزة المخابرات من خلال ضرب وتفكيك أي بنية عامة وإقصاء وإبعاد جميع الشخصيات العامة والوطنية من الواجهة الاجتماعية قبل السياسية، ودعمها لثقافة الطائفة أولاً، وبعدها الأسرية التي تجلت بقص الدستور السوري على مقاس حذاء بشار الأسد ليرث والده، ولم يقص لصالح أي من الضباط العلويين الكبار.
ماذا بعد الخراب؟
كيف السبيل للتخلص من مخلفات هذه الدولة الأمنية؟ واقع الحال ينقصه توصيف وهو أن الأمن وثقافة الفساد باتتا عميقتين جداً. عمقاً يحتاج، بموضوعية، كثيراً من الدماء ليحقق الطهر المطلوب لبناء العدالة بعد نمو الحرية. لكن الحرية لم تعلن رغبتها بالولادة بعد، حتى في تلك التجارب المشابهة كما حال تونس ومصر وليبيا واليمن السعيد الذي لم يرى منذ عقود أي بسمة سعادة. تونس الخضراء مازالت تصر على إبقاء أخضر الجيش، وإن بطريقة غير معلنة فوق الجميع. ومصر أعادت تنصيب فرعون جديد استعارته من المؤسسة العسكرية. وليبيا لم تشف من رصاص مسلّحيها بعد. هذا يعني أن ثقافة الأمن لا يمكن التخلص منها بالتخلص من رأس الهرم. محاكمة بشار الأسد وأعوانه قد تؤسّس لمصالحة مع المؤسسة الأمنية وتساعد على إبقائها ضمن حيّز الوطن بدلاً من إخراجها أو إبعادها للحد الذي تصير فيه عصابات تقتات فتات المؤسسات المالية والعسكرية وتفترس المدنيين من خلال خبرتها في القتل والموت المنّظم.
قالت: "سأعود إلى سوريا".
قلت لها: "هل تقبلين العيش مع المغتصب في حي واحد؟"
قالت: "سأدخله النار بيدي المحترقة بعقب سيجارته".
هذا مشهد أخر لذات الضحية التي اغتُصبت من أجل أحبّاء رجل الأمن. لا تقبل أن تعود إلى بلادها إلا بعد أن تدخله نار الحساب كما أدخل النار إلى جسدها بتعذيبه. دلالة العدالة لا تغيب عن مراد العامة والوعي العام الذي لم يصل بعد إلى سبيل الحرية بحق، ولكنه يحاول وكل محاولة تعني مزيداً من الدماء ومزيداً من الحقد وهذا يزيد تعقيد تحقيق العدالة الموعودة. عدالة لا تصلح ببناء "هيئة إبعاد البعثيين" أو "هيئة إبعاد النظام البائد"، ولكنها تصير واقعاً ببناء ثقافة الوطن من خلال تحييد طوائف الدم وثقافة الفساد. هذا يتطلب الكثير من العمل الصامت والصبور خاصة وأن بنية المجتمع السوري اليوم تمزقها سكاكين الدين والمال والسياسة.
تلك السكاكين التي تمزّق المجتمع السوري اليوم، لا يمكن أن تعود إلى مطابخها بمجرد أن تضع الثورة أوزارها. لذا، لا بد من التفكير بكيفية إعادتها وعلى رأس هذه السكاكين أجهزة الأمن القديمة والمحدثة. ولا يمكن أن تحل هذه الإشكالية إلا بتأسيس بنية حكم مختلفة وعميقة، أقلّها على مستوى المؤسسات العسكرية والأمنية. طبعاً، من السهل الحديث عن تحييد العسكر عن السلطة ولكن التطبيق هو ما يعوّل عليه. وهذا النموذج من الاعتماد على النوايا الطيبة لم يجدي نفعاً في تلك البلاد السالفة الذكر ولا مع الحالة السورية. لذا يتوجب العمل على نمط وآلية حكم مختلفة. وبقليل من الاطلاع على التجارب الأوربية يمكن التوقف مطوّلاً أمام التجربة البلجيكية في الإدارة. حيث تحكم هذه البلاد بدستور فدرالي، وتدار بطريقة دوائر الحكم الصغرى. فكل مدينة لديها برلمانها الخاص وكل مقاطعة لديها برلمانها الخاص وحكومتها الخاصة، وهذه الحكومات مكلفة ببعض التفاصيل وتملك السلطة والسيادة غير الانفصالية، على كل المساحة التي تحكمها بداية بالجوانب الاقتصادية وليس انتهاءً بالمسائل الإدارية. وبالطبع الأجهزة الكبرى وبالذات الأمنية والجيش هي مؤسسات وطنية لكنها تخضع لسلطة تلك المقاطعات ضمن حدودها الإدارية.
لنسحب المثال على الواقع السوري. ولنتخذ نموذجاً ريف دمشق الذي يعتبر مقراً لعشرات، إن لم نقل مئات القطع العسكرية والأمنية والسجون. ولنضيّق الدائرة على مدينة معضمية الشام: أكثر المدن التي تأذت من استملاكات وزارة الدفاع الجائرة، مرة لأجل مطار المزة وأخرى لأجل الفرقة الرابعة. بعد الثورة يمكن العمل على نظام الحكم بالدائرة، وهنا، يكون ضمن صلاحيات برلمان هذه المدينة أو مجلسها المحلي رفع الاستملاكات ونقلها إلى جغرافيا أخرى ضمن قطاعها الإداري أو رفض وجودها كلياً بالتعاون مع حكومة إقليم الريف وبالطبع بالتنسيق مع الحكومة المركزية ولكن الصوت الأقوى هو للناس على الأرض، أي لبرلمان البلدة الذي يفرض السلطة بقوة الانتخاب، أي بقوة الديمقراطية. هذا ينسحب على كل المسائل الأمنية والعسكرية الأخرى. لا يمكن التخلي عن المؤسسات الأمنية كالشرطة، ولكن لا يمكن الإبقاء على مؤسسات برمتها كالمخابرات الجوية والأمن العسكري وأمن الدولة على وضعهم الراهن، وإنما يتم حصر مسؤولياتهم ضمن النطاق العسكري والأمني، ويخضعون للسلطة المدنية المركزية التي تنسق وتتعاون مع السلطات المحلية. هذا الحديث الحالم يتطلب إعادة بناء دستور الدولة السورية بشكل يساعد على تطبيق نظام الحكم بالدوائر، وهذا لا يعني الفيدرالية، بل يعني أسلوب حكم مختلف عن التبعية المركزية التي ساعدت على تجذير الدكتاتورية. يعني تحقيق إرادة الناس بإلغاء كل أشكال الظلم بداية بالقرى وانتهاء بالدولة كاملة.
في الختام لا يموت الظلم إلا بسراج العدالة، ولا ينطفئ الظلام إلا بنبراس الحرية، وهذا أمر لا يتحقق إلا بإبعاد عنصر الأمن من داخل كل سوري، وإخراج الداعشي من ضميره.