إنها ماري دوغلاس M. Douglas، الأنثروبولوجية البريطانية، التي أكدت مرة أنه حينما تفقد «اللون» يعني أنْ تفقد الاختلاف الدقيق(١). يأتي تأكيدها هذا أثناء الحديث عن أنّ رؤية الأشياء بالأبيض والأسود يعني بالضبط "نصب الحدود"، أو إذا استخدمنا لغتها: يعني بناء جدران ثقافية تُشكّل تسوّراتٍ مغلقة؛ كل تسوّر ثقافي يمتلك ألوانه المميزة، حيث يستطيع أهل السوار من خلال هذه الألوان خلقَ «أنا»ـهم، لكن أيضاً ومن خلالها يستطيعون خلق «آخر»ـهم. مثل هذا الكلام ينطبق بالضبط أنثروبولوجياً على المجتمعات السورية التي تعيش اليوم شكلاً فريداً من أشكال الحروب الأهلية (ليست الصورة تماماً أنّ الحرب اليوم هي حرب هويات في كل سورية، بيد أنها تأخذ في معظم سورية هذا المسار)، شكلاً تُعتبر فيها مسألة الآخرية من أهم الباثولوجيات التي لفظتها الأزمة.
تاريخياً، لم يكن يعني، وجود هيكل الدولة في سورية أنه ليس ثمة خلف الهيكل «هياكل». ولأنّ مثل هذا الهيكل كان ورقياً في هشاشته، صلباً في تسلّط سلطته، ولأنه قام أساساً على الضد من فكرة الدولة نفسها، فليس من المستغرب اليوم أنْ تقول هذه الهياكل أو «الجماعات السورية» كلمتها مع انقشاع رُقاقات الدولة. كلمة هذه الجماعات تعني، وبكلمة: هوياتها، الممزقة منها والمضربة، وكذا الغائصة عمقاً في تأزم ثقافاتها الدينية والمناطقية والإثنية. هكذا، فإنه و مع انهيار الدولة السورية اليوم، تتنفس الجماعات أمراض ثقافاتها التاريخية «المختلفة»، التي قيل لها يوماً أنها «واحدة».
لكن ما المعني بلفظة «المختلفة»؟ ثمة في الواقع أبعاد كثيرة احتوتها الأمراض السورية على عمومها قبل اندلاع الأزمة فيها، والتي لم تفعل سوى أنْ كشفت المستور؛ وهو مستور كما أنه مشكلة تتعلق بالثقافات الدينية المتعصبة، فهو أيضاً مشكلة تتعلق بالأبعاد الأنثروبولوجية لهذه الثقافات. وربما تقف على رأسها مشكلة الريف والمدينة (ثقافة الأدنى والأعلى)، والتي تخالطها اليوم على نحو شديد "مسائل الطائفية". وللأسف فقد غدت هذه الأخيرة هي لبّ الصراع، وغدا الانتماء الطائفي في الشوارع السورية هو ما يحدد المواقف الأخلاقية والاجتماعية، لتتحول الطائفية لا إلى مسارٍ يُسيّر مناخ الأزمة فحسب، بل إلى بوصلة سياسية لأيّ حل سياسي يمكن أنْ يقوم بين الأطراف المتصارعة.
لا بد من الأخذ دائماً بعين الاعتبار أنّ بنية المجتمعات السورية هي بالأصل بنية هشة وطنياً، مثلها مثل بقية مجتمعات المشرق عموماً. إنها قائمة أنثروبولوجياً على الذهنية الجماعاتية لا على الفردانية. وما مشكلة الطائفية الآن سوى وجه من وجوه هذه الذهنية العصابية. وتعتبر، بالفعل، إشكالية «الآخر» من أهم قوام هذه الذهنية في سورية. وما الآخر، في نهاية المطاف، سوى «العدو». غياب العدو في التعبير عن الآخر في أوقات الهدوء لا يعني انعدامه كلياً، بل نومه. وغالباً لا تظهر العداوة أو التعبير عنها إلا في الأوقات التي تتهدد فيها الهويات الزائفة (لكن لنسارع هنا بالتشديد على نقطة حذرة: لا يعني حديثنا هنا عن ثقافة الآخرية في الشوارع السورية أننا نتحدث بلغة عضوانية...الخ. على الإطلاق لا. لكن، إذا كان من المستحيل الحديث نقدياً عن هويات ثابتة أبدية تطبع المجتمعات السورية، عن تنميط هوياتها، وكأنها معطيات جامدة، لا حل لها إلا أنْ تبقى هكذا...الخ، إلا أنه من الثابت أيضاً أنّ هناك أعشاش دبابير تاريخية تقبع وراء تلك الهويات المزيفة. هذا لا بد من الاعتراف به).
من هنا، فإنّ الاختلاف في سورية لم يكن يعني التميّز فقط، بمقدار ما كان يعني العداوة الكامنة خلف الأسوار الثقافية العميقة: إنها أسوار تستند إلى إعادة بناء صور عن «المختلف»، بيد أنّ مثل هذه الصور أيضاً تستند إلى الحواضن الثقافية الجمعيّة التي تسكن بها كل طائفة أو جماعة. فمثلاً، إنّ الصور التي يتم إنتاجها من خلال الأحاديث الشعبوية، كل جماعة عن الأخرى، ربما تؤخذ في أوقات الهدوء على سبيل التشويه، وربما الفكاهة، لكن في أوقات الأزمات وحينما يفعل مقدس الجماعة فعله، تتحوّل مثل هذه الصور إلى محرضات عنف، فقط لأنها تلبس لبوس المقدس.
لكن لنا أنْ نتفكر بنفس الوقت، أنّ هذه الصور عن «الآخر» السوري، لم تكن تعني إلا إعادة بناء صور «أنا» سورية أخرى كذلك (وهذه يقتضيها حكماً الاستناد إلى فضاءات توتاليتارية). مثل هذا الحال كان قائماً ومتجذراً في بنية هذه المجتمعات. وبالفعل، فقد كان مجيء الأزمة أحد أهم العناوين الذي اختصر عمقية الذهنية الجماعاتية، ولتُخرج كلُّ ذاتٍ عنفها إلى حدوده القصوى ضد «العدو»! هكذا، فحينما صُوِّر النظامُ السوري منذ بداية الأزمة على أنه «عدو» بألف ولام التعريف، وعلى أنه «محتل»...الخ، وحينما صَوَّر النظام نفسه معارضيه على أنهم «إرهابيون» وأعداء الوطن...الخ، فإنّ ذلك لم يكن يعني استمرار خلف ثقافي، لا في ثقافة تلوين الآخر والتسوّر خلف السياجات الآخرية فحسب، بل في إعلان الحرب بين الأطراف المتعادية: حرب الأعداء على الأعداء.
لهذا، فإنّ الغزل الذي كان يمارس من قبل الإعلام، ومن مثقفي سورية عموماً، عن الوحدة السورية لم يكن سوى تكريس للمشكلة ذاتها وتجاهل الأمراض العميقة التي تعتاش عليها المجاميع السورية في القاع، لا بل أكثر من ذلك لم يكن هذا الغزل سوى برهان على استمرارهم في سلوك النظام السياسي نفسه: فمن جهة يؤكد على الوحدة، ومن جهة أخرى لا يثنيه جهد إلا ويستخدمه في تكريس العصبيات القبلية، الريفية منها والطائفية، أو كليهما مجتمعتين؛ هذا إنْ لم نقل أنّ مثل هذه الأصوات، وتحديداً المثقفة، لم تُمثل إلا غطاء أو بالأحرى مظلّة واسعة لما هو خراب في العمق. هكذا، فمع اندلاع الأزمة بدأت تتشكل داخل شوارع المثقفين بارادايمات إقصائية، من كلا الطرفين المعارض والموالي، تحولت مع مرور الوقت إلى أشبه بكانتونات، أو بالأحرى إلى «قبائل مثقفين»، كل قبيلة مثقفة ضد الأخرى.
من هنا، فإنّ حديثاً عن الوحدة الوطنية في سورية ضمن مسارِ أيّ هيكل سياسي يمكن أنْ يُقام ويتجاهل بنفس الوقت مسألة الانقسامات الآخرية، والتي عززتها الأزمة، يعني حكماً فشله. لقد غدت الآن الحاجة ملحةً أكثر من أي وقت مضى لبناء مؤسسات ثقافية، لا جماعات، مؤسسات تقوم على بنىً جديدة ورؤى تبتعد عن الذهنيات الإقصائية التي عبّرت عنها الأزمة بأعنف السلوك. الجهد الآنْ ربما يجب أنْ يتكرس بالتوجه إلى الشوارع السورية بإعادة بنائها، لا التغزّل لها، وبعد أن نال منها الموت والدمار مستوى فظيعاً، وبعد أنْ أخذ التطرف يتكرس أكثر فأكثر في هذه الشوارع، وبخاصة في المناطق الشمالية والشمالية-الشرقية.
وربما ما هو ملحّ أكثر في هذا الشأن، هو مسألة إعادة بناء أجسام إعلامية غير متحزبة تستطيع الخروج من الإطارات الإعلامية التي كرستها قوى النظام، ومن بعده قوى المعارضة. فإذا كانت الحرب السورية هي أيضاً «حرب الروايات Battle of Narratives»، فإن كسر مثل هذه الحرب يقتضيه تأسيس مؤسسات إعلامية، وتحديداً تلك التي تركز على الصورة، هذا فضلاً عن بناء مواقع شبكات على الإنترنيت تركز على ثقافة التعدد ضمن إطار بناء هوية فردية. وهذه جهود، وإنْ بدت عامة جداً، إلا أنها مهمة في مسار بناء خط ثقافي جديد. لكن أيضاً من المهم الانتباه هنا، إلا أنّ مثل هذا التوجه يجب أنْ يأخذ بعين الاعتبار لا الأنماط الشعبوية التي تعيشها الجماعات السورية فحسب، بل كذلك مسألة الاختلافات العميقة. بمعنى آخر، مؤسسات إعلامية تركز على معالجة هذه الانقسامات الاجتماعية القائمة، هذا فضلاً أنه يجب العمل على إعادة تأهيل «قبيلة المثقف» نفسها بما يقتضيه عمله، بكونه المظلة المفترضة التي يجب أن تمثل المجتمع وترشده.
لقد عاشت المجتمعات السورية على مدار تاريخها الحديث ككيانات منفصلة، حيث كان لسلطة النظام السياسي في هذا الانفصال يدٌ طولى، عبر تكريسه والعمل على مأسسته (ولا حاجة للقول أنه يعتبر مسؤولاً عن إدارة هذه البوصلات بحسب ما يقتضيه مسار الصراع، بيد أنّ الشوارع السورية أيضاً التي انتفضت ضده، وتلك التي تواليه، تعتبر حواضن كبرى له). إلا أنه الآن وبعد انتشار ثقافة التطرف وثقافة القتل على الهوية وقتل كل من «تختلف» ألوانه عن القاتل، أصبحت هذه الشوارع تتغذى أكثر فأكثر على ثقافة المقدس القاتلة. من هنا فإنّ الاستمرار بالنهج القديم في مقاربة المسألة الثقافية، يعني الاستمرار في تكريس الآخرية في الشوارع السورية، وبالتالي التأكيد على ثقافة الإقصاء والتوتاليتارية.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
المراجع :
(١) : Douglas, Mary, Seeing Everything In Black And White, Semiotics Online Institute, 2006.