قد يكون من الترف الحديث عن عدالة انتقالية في سوريا، والوضع السوري يزداد تعقيداً على الجانب السياسي، وشلال الدم السوري المتدفق لأكثر من ثلاث سنوات لم يتوقف بعد.
استناداً إلى تجارب الدول التي خاضت تجربة العدالة الانتقالية والتي تجاوز عددها الثلاثين، يمكن الجزم أن العدالة الانتقالية ليست مفتاحاً سحرياً تتحقق من خلالها الغايات، وإنما لكل تجربة خصائصها المختلفة تاريخياً وسياسياً، ودرجة نجاح كل تجربة مرهونة بموازين دولية وقوة الأطراف المشاركة فيها، والإرادة السياسية لإنجازها من قبل الفرقاء السياسيين.
وإذ نُقر بعدم وجود تعريف جامع مانع للمفهوم نظراً لخصوصية كل تجربة، إلا أنّ المتفق عليه بحسب معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان تعني العدالة الانتقالية "مجموعة من الإجراءات التشريعية والاجتماعية والقضائية والإدارية التي تعالج ما حدث في بلد ما خلال فترة معينة تخللتها انتهاكات لحقوق الإنسان من قبل أجهزة الدولة وجماعات منظمة أو غير منظمة، عبر خمسة أركان أساسية هي إظهار الحقيقة، وجبر الضرر على المستويين الفردي والجماعي، ومحاسبة المنتهكين، والمصالحة، وإصلاح المؤسسات".
من خلال التجارب الماضية برزت أمام العاملين في هذا المجال من منظمات دولية وهيئات مجتمع مدني ومؤسسات وطنية حاجة ملحة لوضع المنظور الجنساني (الجندر/ النوع الاجتماعي) في أي برنامج للعدالة الانتقالية، وقد أكدت عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ضرورة الانتباه إلى الانتهاكات التي تطال النساء في النزاعات بسبب الجنس، وعلى أهمية دورهن في بناء السلام وحل النزاعات، إذ سلّم مجلس الأمن في قراره 2122 عام 2013 بضرورة بذل المزيد من الجهد لكفالة أن تتصدى تدابير العدالة الانتقالية للانتهاكات والتعديات التي تمس الحقوق الإنسانية للمرأة.
فالمرأة التي وقعت ضحية الكثير من الانتهاكات في مواقع ومناطق مختلفة، يفترض أن تساهم في حل الصراعات ومنعها في مواقع أخرى، لتصبح شريكة في بناء السلام، ويكون لها دور فعال وحقيقي في إنجاز العدالة الانتقالية. ولكن هل تستطيع المرأة السورية التصدي لهذا الدور وتحقيقه؟
لا يمكن في هذه العجالة الإحاطة بكافة جوانب الموضوع، بل لعل أسئلة جديدة ستُطرح. غير أنّ استشراف مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا في ظل معطيات الواقع الراهن، ودور النساء السوريات فيها، يوحي بأن تجربة مختلفة للعدالة الانتقالية ستتبلور في سوريا، شأنها في ذلك شأن الدول التي عاشت نزاعات وانتهاكات لحقوق الإنسان.
كشفت التجارب السابقة عدم وجود أولوية لركن ما من أركان العدالة الانتقالية على الآخر، فالمقاربة المعتمدة تتوخى تحقيق كل الأركان وإنما وفق الترتيب الذي يفرضه السياق الذي يعيشه البلد المعني وظروفه، وإنّ تحديد نقطة البداية التي تقتضيها الظروف الراهنة مسألة أساسية.
في الحالة السورية يبدو أنّ البداية الممكنة هي الشروع بالإصلاح المؤسساتي والتشريعي، ليس فقط لأنه الركن المؤسس لمعالجة كثير من الأسباب التي أدت لانفجار الواقع السوري، إلا أننا نعتقد بصعوبة، بل واستحالة البدء بأركان أخرى للعدالة الانتقالية، في ظل ازدياد قوة الأطراف المتنازعة المسيطرة على الأرض ودعم القوى الخارجية لكل طرف وفق مصالحها وتوازناتها، ما يعني الحيلولة دون محاسبة المسؤولين الرئيسيين عن الانتهاكات. بالتالي لن يكون هناك جبر للضرر في المرحلة الأولى، ولا حتى مصالحة يستدعي إنجازها كشف الحقيقة ومعاقبة المنتهكين.
على ذلك قلنا بأولوية الإصلاح المؤسساتي كخطوة ممكنة تستطيع الحكومة الانتقالية الخوض فيها، بالتوازي مع إجراءات البحث عن الحقيقة لمحاسبة المنتهكين وتحقيق بقية الأركان في وقت لاحق. فما مدى إمكانية تحقيق إصلاح مؤسساتي حقيقي يعزز الانتقال الحق إلى العدالة؟ وما نصيب النساء من هذا الإصلاح، باعتبار أن القوانين التي تحدد مستوى مواطنة المرأة في بلد ما وإلغاء جميع أشكال التمييز ضدها، هي أحد المقاييس على بناء دولة القانون والمواطنة المنشودة؟
نعتقد أن إقرار دستور علماني يملأ الثغرات التي شوّهت الدساتير السابقة في سوريا، حلٌ لا مناص منه، ولكنه حلٌ يواجه تحديات جسيمة، تهدد فعالية العملية الانتقالية برمّتها، وتزرع الشك في إمكانية تحققها. تأتي هذه "التخوفات" إن جاز التعبير، في ظل اتفاق معظم الأطراف المتنازعة - رغم اختلافاتها - على اعتبار "الإسلام أحد مصادر التشريع". هذا "الاتفاق الضمني" على "روح" الدستور سينعكس على النساء ويبقيهنّ الضحايا الأقل استفادة والأكثر تضرّراً والأبعد عن الانخراط في عملية المشاركة في تحقيق العدالة المنشودة.
يتعزز هذا الاعتقاد بالنظر إلى أن الصراع الدائر في سوريا كان له أثرٌ كاشفٌ أكثر منه منشئاً لكثير من الظواهر السلبية والمشكلات التي يعانيها المجتمع السوري، خصوصاً مشكلات النساء السوريات ومعاناتهن. والمعيقات الجمّة أمام تحقيق مشاركة كاملة لهن في المجتمع تضاعفت وازدادت صعوبة بعد احتلال العنف بجميع أشكاله معظم الساحات السورية.
أضعف الإيمان أن "الحاجة الماسة إلى التطبيق الكامل للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان اللذين يحميان حقوق المرأة والفتاة أثناء الصراعات وبعدها"، كما تضمّن القرار 1325 وغيره من القرارات السابقة واللاحقة الصادرة عن مجلس الأمن، لم تتحقق على صعيد حماية الإنسان في سوريا، بالتالي في ظل عدم تطبيق هذين القرارين اللذين يحميان جميع الأطياف السورية عامة والمرأة والطفلة خاصة، ستبقى مشاركة النساء السوريات في صنع السلام قاصرة وغير ناضجة بعد.
وضعف مشاركة النساء في العملية السياسية، ومشاركتهن السياسية ضعيفة أصلاً، تزيد من إمكانية وخطورة تعرضهن للانتهاك، فالأطراف المتصارعة لا تحترم القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهذا ما نجده على جانبي النظام والمعارضة وخصوصا ذات الصبغة الدينية. وللانتهاكات أشكال متعددة (الاعتقال، الخطف، الاغتصاب، التشهير، القتل، التعذيب..) وعانت منها مؤيدات ومعارضات بنسب تتفاوت تبعاً لقوة الجهة التي تناهضها المرأة سياسياً وحسب سيطرتها الفعلية عليها.
ويزداد الأمر سوءاً بعد أن تصدرت القوى الظلامية متمثلة بالجهات الإسلامية المتطرفة مراكز القوة في الصراع، مما يساهم في بقاء وترسيخ العادات والتقاليد البطريركية المقوننة باسم الشريعة والدين.
فإن اعتبرنا تعديل القوانين والتشريعات السورية التي لا تراعي في جوانبها حقوق الإنسان ضرورة واجبة، فإن قانون (الأحوال الشخصية) يتصدر قائمة القوانين الواجب تعديلها، بل إلغاؤها لحساب إصدار قانون مدني يلغي التمييز المشرعن قانونياً ضد النساء السوريات، مما ينعكس سلباً على حياتهن وأدوارهن في المجتمع وبالتالي يحد من مشاركتهن الفعالة ويلغي مواطنتهن في بلد تحتاج لصياغة الكثير من قوانينها لصالح "المواطنة".
في المقابل، ضعف القوى العلمانية الحقة (غير العلمانوية المدّعية) سينعكس على قدرتها في الضغط لإنجاز المطلوب. كما أنّ المنظمات النسوية التي ائتلفت وأنجزت في بعض تجمعاتها مشروع بناء دستور يؤدي إلى احترام وتعزيز حقوق النساء، لا تملك من القوة ولا الأدوات الفعالة ما يكفي لطرح مشروعها حتى بين النساء اللواتي تدافع عنهن. ولا أدلّ على ذلك من أنّ معظم النساء لا يعرفن عن هذه المنظمات شيئاً.
وفي وقت خصصت هذه المنظمات جهدها الأكبر للعمل على الصعيد الدولي من خلال حضور المؤتمرات والاجتماعات الدولية، والورشات التدريبية والدورات (على أهميته)، اقتصر وجود أغلبها بشكل محدود بين النساء في مخيمات اللجوء، أو مراكز الإيواء على بعض خدمات الإغاثة، والدعم النفسي، دون العمل على خلق قاعدة واسعة بين النساء تعي حقوقها وتدركها وتعرف كيف تطالب بها، في ذلك الوقت كانت العديد من قوى التطرّف الديني تعمل على توسيع قاعدتها الشعبية بسبل مختلفة بين النساء حتى من خلال أعمال خيرية، فتوزّع مع سلاتها الغذائية مفاهيمها الإيديولوجية خدمة لمصالحها، جاعلة من النساء ذواتهن أعداء لحرياتهن، وواهمات بسعادة يعشنها ضمن القيود المفروضة عليهن "شرعاً".
في انتظار بدء مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا، هناك الكثير من الجهد والعمل الحثيث للتوعية بأهميتها، وللتوعية بالأدوار المنوطة بجميع فئات المجتمع لإنجازها على الوجه المطلوب، ويقع على عاتق الأطراف جميعها، والجهات العلمانية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية على وجه الخصوص العبء الأكبر في إنجاز هذه التوعية، لتحقيق الغاية المنشودة في بناء الدولة الديمقراطية دولة المواطنة والقانون.