قبل زمن طويل على ولادة الثورة ( آذار 2011) ولدت ثورة أخرى في ضمير الفنان "ثائر معروف"، الذي أدرك مبكرا "مدى الاحتقان المر الذي وصلت إليه المسائل في سوريا" مذ رفضته كلية الفنون الجميلة في دمشق، فاتجه نحو بيروت ليدرس الفن ويتخصص به عبر حصوله على الدبلوم والماجستير، ليكون بذلك "واحدا من أولئك الذين لم يتلقوا فرصة تعليم جيد أو حياة كريمة أو أدنى درجات الحرية"، كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
الصدمة المبكرة للفنان باستبداد وصل حد تدمير التعليم والجامعات، جعل منه دائم التطلع نحو حرية كانت نائية، إلى أن اندلعت الثورة التي جعلت السعادة تغمره وهو يرى "أولئك الضعفاء الذين وضُعوا في أسفل طبقات المجتمع والذين كانوا يتحملون المقدار الأكبر من الضغط ينتفضوا لا لشيء. بل لكرامتهم وإنسانيتهم، ولذلك قررت أن أرسم لهم لأنهم منسيون ولأنني منهم".
ورغم إدراك الفنان الواعي لضرورة أن لا يكون الفن مجرد صدى للثورة أو الحدث، وأن "يستخدم كأداة سياسيه أو عقائدية" فإنه من جهة أخرى يدرك صعوبة أن "تنأى بنفسك عما يدور في وطنك، فأنت بشكل دائم عرضة لضغط هائل من وسائل الإعلام ومن محيطك وأصدقائك ومشاهداتك المستمرة" الأمر الذي دفعه لإيجاد معادلته الخاصة بأن يكون وفيا لمشاعره المنحازة للثورة، وأن يكون بذات الوقت وفيا لفنه، فتوصل لأن يسخر "من الحرب لا وزيادة على ذلك. أن أظهر وجهها الضاحك لأنها قد أصبحت بشكل من الأشكال طريقة حياة".
هذه الحياة والحرب والدم كانت موجودة في أعمال الفنان قبل أن تجد طريقها إلى الواقع وهو ما يعزز رؤيته بأن "الفن لا يتعلق بالمرحلة"، ففي نهاية 2009 قدّم الفنان معرضه "فزاعات أم الرمان"، حيث تدور الأعمال عن رمز الفزاعة (وهي الفزاعة التي استخدمها المتظاهرون كآداة تظاهر) والغراب وشوارع الدم. "وهذا ما قيل عنه أنه نبوءة لما دار بعدها في سوريا. وأنا أُرجع ذلك إلى إحساسي المتفاقم حينها بأنه قد طفح الكيل"، الأمر الذي يجعل لوحة الفنان وحياته تبدو وكأنها توثيق للتراكمات التي أدت للثورة منذ لحظة رفضه في كلية الفنون إلى معرضه "فزاعات"، المستوحى من ذاكرته وقريته ( أم الرمان) التابعة لمحافظة السويداء، حين رسم "أول خربشات بقلم الرصاص على دفاتر المدرسة و جدران المنزل" دون أن يواجه "بقمع من أهلي"، حيث فتن منذ تلك اللحظة بلون الفحم مما جعل علاقته مع "الأبيض والأسود أقوى من اللون ويمكن أن يعود ذلك إلى طبيعة الأرض التي ترعرعت بها فقد كانت مفروشة بأحجار البازلت. وكان الناس في غالبيتهم يرتدون اللباس التقليدي وهو الأبيض والأسود".
لم يتجاوز الفنان الفحم إلا حين أحضر له والده ألوانا ليطلب منه رسم حصان وساقية ماء على جدران المضافة بعد أن كان رسم "صورة لجدي ولجمال عبد الناصر وعمي المتوفي" وهو في الخامسة عشر من عمره، لتبدأ رحلته مع الفن الذي أوصله لأن ينجز في عام 2011 معرض بعنوان "فيتو" كـ " صرخة بوجه كل ما يدور".
ورغم غرقه بالألم السوري وتنفيذه لأكثر من ثلاثين لوحة وأعمال تجهيزية كثيرة تدور حول ضفاف الربيع العربي والثورة، وعرضت في مدن كثيرة ( دبي، بيروت، سنغافورة، لندن، باريس..) لم يترك الفنان للوحته أن تنجرف نحو آنية اللحظة، بل سعى لأن "تدور حول الإنسان السوري ببعده الرمزي وببعده الكوني لأن المعاناة الإنسانية واحده فحيث هناك ظلم هنالك ثورة" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
وعدم ترك العنان للوحته لتغرق في تفاصيل الثورة السورية لا يعني إلا مزيدا من إيمانه بها، إذ "لم يخب أملي بالثورة لأنها بدأت بالفعل، وقد تأخذ وقتها لأنها حقيقية، ومهما ظهرت تشعبّات مشبوهة من هنا أو هناك، فإنها ستسقط لأنها لا تنتمي للأسباب الأولى التي خرج من أجلها الناس ولأنها لا تمثلنا ولا تمثل ثقافتنا".
ولهذا بدأ الفنان يقارب الثورة من زوايا مختلفة كما في المشروع الذي يعمل عليه الآن تحت عنوان "الإرهابي المحتمل"، و"هو الطفل الذي إن لم يتم إنقاذه فانه سيتشرب مفاهيم متطرفة، وسينمو على فكرة الانتقام والإرهاب"، معتبرا أن الأطفال "أكثر المتضررين، لأن حركة مستقبلهم قد حُدّت وقد أصبحوا عرضة للضياع".
الفنان الذي احتار بكيفية تقديم نفسه لنا قائلا "لا أستطيع أن أقدم نفسي كرسام، وكذلك لا أستطيع أن أقدم نفسي كفنان، فهذه الصفات تحمل محدودية كبيره ومرونة أكبر. أنا عين ويد وذاكره، ولكنني أطيل النظر وأحاول أن توصل يدي ما تراه عيني بصدق" يحدوه أمل كبير بأن يجلس يوما أمام فراغه الأبيض ليرسم دون "أية أفكار مسبقة، وبدون أن أنزف ألم الآخرين" متمنيا على طريقته بأن تدخل سوريا زمن الحرية الذي لا يزال يراه بعيدا "أقله الآن. لأن الصراخ يتعالى ويتعالى ونحن لسان حال البسطاء لا نملك إلا أن نصرخ لأجلهم ولأجل وجودنا ووجودهم".
أليس الفنان حال لسان الشعب حين يخذله الجميع؟
ولهذا يصر "ثائر معروف" على أن الشعب السوري هو "طائر الفينيق الذي سيصعد من الرماد".