قراءة في قانون المحكمة الدستورية العليا في سورية


25 أيلول 2014

ميشال شماس

محامي سوري وناشط حقوقي في عدد من الملفات الحقوقية أبرزها: الدفاع عن المعتقلين السياسيين

 

النص في الدستور على احترام حريات وحقوق الإنسان لا يكفي لوحده ما لم تتوفر الحماية لهذا النص الدستوري من العبث به أو الانتقاص منه، أو تعطيله بقوانين ومحاكم استثنائية تحد كثيراً من هذه الحقوق وتجعلها فاقدة لأثرها ولا تساوي إلا قيمة الورق الذي كتب عليه.‏ دون أن تتمكن الهيئة المكلفة بالرقابة على دستورية القوانين (المحكمة الدستورية العليا)  من حماية تلك الحقوق  من خلال دورها المفترض في منع إصدار تلك القوانين أو إلغائها بسبب محدودية سلطاتها الممنوحة لها  وعجزها فعليا عن تأمين هذه الحماية، وبالتالي من أن تـمارس دورها الرقابي المنوط بها  في مواجهة ومنع أي نص غير دستوري من التسرّب وأن تقف حائلاً أمامه كي لا يرى النور.‏

 

 لقد انتظرنا عشرات السنين حتى نحظى بمحكمة دستورية عليا مستقلة فعلاً وتملك صلاحيات واسعة ابتداء من فسح المجال أمام المواطن والأحزاب وهيئات المجتمع المدني الطعن بدستورية القوانين وليس انتهاء بمحاكمة رئيس الجمهورية، إلا أن أملنا خاب بعد صدور المرسوم 35 لعام 2012 الذي قضى بتشكيل المحكمة الدستورية العليا في سورية والتي تملك فيها السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية سلطات واسعة.

صحيح أن المادة الأولى من المرسوم المذكور اعتبرت أن المحكمة الدستورية العليا "هيئة قضائية مستقلة"، ولكن هل يكفي هذا النص للقول أنها مستقلة فعلاً؟

فالفقرة الأولى من المادة /2/ تنتقص من استقلالية المحكمة حين أعطت رئيس الجمهورية حق تسمية رئيس وأعضاء المحكمة: ( أ/ تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء يكون أحدهم رئيسا يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد ..).. مع أنه كان يُفضل انتخاب أعضاء المحكمة من قبل مجلس الشعب لفترة غير محددة.

كما أوجبت المادة (6) بأن "يؤدي رئيس المحكمة وأعضاؤها أمام رئيس الجمهورية وبحضور رئيس مجلس الشعب اليمين الآتية قبل توليهم عملهم: " أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها وأقوم بواجبي بتجرد وأمانة". مع أنه كان يجب أن يؤدي رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية وأعضائها اليمين القانونية أمام مجلس الشعب بحضور رئيس الجمهورية.

كما منحت الفقرة (ب) من المادة العاشرة لرئيس الجمهورية أن يقرر الإقالة بمرسوم وتصفى حقوق المفصول وفقاً للقوانين النافذة. وأوجبت المادة (11) من المرسوم أن يقدم رئيس المحكمة وأعضاؤها استقالتهم من مناصبهم أو أحالتهم للتقاعد إلى رئيس الجمهورية.  والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف ستحاكم المحكمة الدستورية العليا رئيس الجمهورية إذا كان رئيس الجمهورية هو الذي يسمي رئيسها وأعضائها ويقيلهم ويحيلهم على التقاعد..!؟.

ومع إننا كنا نفضّل أن يُمنح حق الطعن بدستورية القوانين للمواطنين والأحزاب وهيئات المجتمع المدني ، إلا أن المادة (147) من الدستور حصرت هذا الحق برئيس الجمهورية وخُمس أعضاء مجلس الشعب، وإذا دفع أحد الخصوم في معرض الطعن بالأحكام بعدم دستورية نص قانوني طبّقته المحكمة المطعون بقرارها، ورأت المحكمة الناظرة في الطعن أن الدفع جدي ولازم للبت في الطعن، أوقفت النظر في الدعوى وأحالت الدفع إلى المحكمة الدستورية العليا أي أن إحالة الطعن إلى المحكمة الدستورية هنا ليس إلزامياً للمحاكم بل اختياري، مما يؤدي إلى حرمان المواطن والأحزاب وهيئات المجتمع المدني حق الطعن بدستورية القوانين بشكل مستقل. كما يحرم مجالس الشعب اللاحقة الطعن بدستورية قوانين صدرت سابقا.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا إذا لم يمارس أعضاء مجلس الشعب أو رئيس الجمهورية في الطعن بدستورية أي قانون مخالف للدستور، فمن سيطعن بعدم دستوريته؟

 كما حرم المرسوم في المادة (18) منه المحكمة الدستورية العليا من النظر في دستورية القوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي وتنال موافقة الشعب.استناداً لنص المادة (148) من الدستور. فكيف تستقيم الأمور مع قانون يخالف الدستور حتى ولو أن هذا القانون حاز على موافقة الشعب؟  

كنّا نأمل أن نحظى بعد كل هذه السنين بمحكمة دستورية عليا مستقلة فعلاً وتملك صلاحيات واسعة بعيداً عن هيمنة السلطة التنفيذية، إلا أن صدور الدستور السوري الجديد قد حدّد سلفاً الإطار العام لهذه المحكمة لاسيما في المواد(140) وحتى المادة(149) منه. وقيّدها بجملة من القيود التي تمس باستقلاليتها. والمرسوم (35) القاضي بتشكيلها لم يستطع ولا يستطيع الخروج عن ذلك الإطار المحدد لها سلفاً في الدستور السوري الجديد الذي كرّس هيمنة واسعة للسلطة التنفيذية على باقي السلطات في البلاد، و بالتالي خسر النظام الذي يواجه والبلاد أزمة حادة فرصة إثبات أنه يسعى فعلاً لإجراء تغيير ملموس وجدي في البلاد يخفف على الأقل من سيطرته واستئثاره بمقاليد السلطة، وبما يؤدي إلى فتح الباب واسعاً أمام مشاركة سياسية حقيقية واستقلال فعلي للقضاء في سورية.

أملنا في المستقبل بإعادة النظر بقانون المحكمة الدستورية العليا، بما يحصن استقلالها  ويمكنها من أن تكون رقيباً حقيقياً في ضمان احترام حريات الإنسان وحقوقه وفي مواجهة ومنع أي قانون أو نص قانوني ينتقص من تلك الحريات  والحقوق  المكتسبة من أن يرى النور أو يستمر في الحياة. والتي للأسف  بوضعها الحالي وبالصلاحيات المحدودة الممنوحة لها لا تستطيع من التصدي لأي قانون ينتهك حريات الناس وحقوقهم، فهو يمر بمرأى منها دون أن تستطيع أن تحرّك ساكناً حياله رغم عدم دستوريته ورغم وظيفتها في مراقبة دستورية القوانين وإلغاء النصوص غير الدستورية منها.‏

إن تعزيز وتوسيع رقابة المحكمة الدستورية على القوانين وإشراك أفراد المجتمع بهذه الرقابة من خلال نقاباتهم ومؤسساتهم واتحاداتهم التي تمثلهم يساهم في إضفاء مبدأ المشروعية على مختلف نواحي الحياة في المجتمع، ويبعث الطمأنينة في نفوس المواطنين ويشجع على التنمية والاستثمار.

 

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد