محمد ديبو ورولا علي
إذا كان جواز سفر أي مواطن في العالم هو رمز كرامته وتكثيف مختصر لفكرة الوطن، فإنه بالنسبة للسوري أضحى خيمة وخيبة ووصمة عار، حين "أصبح القفص الكبير الذي يسجننا جميعا بمكان تواجدنا أينما كنّا ولا ينفذ من قضبانه الحديديّة إلا ذو حظ عظيم" كما يقول الفنان السوري "مصطفى يعقوب"، أو "وسيلة السفر الوحيدة التي نملكها وترفضها المطارات"، كما يقول الفنان "تمام عزام"، فلم هذا؟ وما هي الحكاية؟
مع اختلاط الثورة السورية بالإرهاب والحرب الأهلية والنضال ضد المستبد، تحوّلت الكثير من المدن السورية إلى قبور موت يسكنها أحياء، الأمر الذي دفع أغلب سكانها للهرب من الموت نحو السفارات أو مخيمات اللجوء، التي تحوّلت بدورها مؤخرا إلى أماكن موت جرّاء سياسات بعض دول الجوار ( كما يحدث في لبنان على سبيل المثال لا الحصر)، الأمر الذي دفع السوريين للبحث عن منافذ آمان تضيق يوما بعد يوم، خاصة أن اسم بلادهم اقترن بالإرهاب الذي تمثله داعش، مما خلق أفكارا مسبقة و نمطيات كثيرة تُسقط عليهم وهم الخارجون من براثن الموت لتسدّ كلّ سبل الهجرة الشرعية في وجوههم، مما دعهم نحو الهجرة غير الشرعية بحثا عن آمان توهموه، ليجدوا أنفسهم إما غرقى في بحار منحتهم توابيتا على عجل أو مرحلين من بلد إلى آخر، أو لاجئين في خيام الذل، أو في سجون تحوّلت وطنا لهم وهم الهاربون من سجون الدكتاتورية والإرهاب والحرب في آن.
ورغم أن الفن لا يستطيع التعبير عن برد اللاجيء ولا عن جوعه ولا عن غرق البحر" كما يقول الفنان "تمام عزام"، إلا أنه بنفس الوقت يبقى (الفن) أقدر الفنون على التقاط الأوجاع والتحولات والتفاصيل الصغيرة وسط حمّى هذا الموت الجماعي الذي يفتك بالسوريين، ظهرت أعمال كثيرة لفنانين سوريين تمحوّرت حول فكرة جواز السفر المنبوذ عالميا، أي هذا الجواز الذي تحوّل لعنة، إذ "أصبح الشيء البديهي في أي سفارة هو رفض منح فيزا السفر فقط لمجرد رؤيتهم جملة الجمهورية العربية السورية على الجواز...جنسيتنا السورية أصبحت في الدرك الأسفل في سفارات العالم ومطاراته ..يتعامل الجميع معك وكأنك مجرم أو إرهابي خارج من كهوف التاريخ والحضارة . لقد أصبحنا بشر درجة عاشرة باختصار" كما يقول الفنان "مصطفى يعقوب" لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
عن تحوّل الجواز نفسه إلى تيمة أساسية في أعمال عدد كبير من الفنانين يقول الفنان "خالد مالك": "كل فنان استخدم رمزية جواز السفر بزاوية مختلفة وعبر عنها من وجهة نظره. لكن كل هذه الاستخدامات تصب في مسار واحد وهو تصوير معاناة الشعب السوري خارج الأراضي السورية سواء كان لاجئ أو مغترب أو لأي سبب آخر وبرأيي جميعها أعمال فنية معبّرة وصادقة"، في حين يرى "يعقوب" أن "الأعمال الفنية التي عالجت فكرة جواز السفر السوري رائعة جدا, كلّ واحدة تحمل معنى أجمل من الأخرى ..وكل واحدة تعبر عن جانب عميق في وجدان السوريين".
هكذا تنوعت التعبيرات عن الألم السوري من خلال جواز السفر الذي تحوّل تارة إلى غريق في بحر ككناية عن غرق السوريين الهاربين من الموت إلى موت آخر، أو إلى سفينة يبحر على متنها السوري أو شنطة سفر أو خيمة لجوء أو قفص، وهي كلها معاني وتعابير تحيل إلى الأوضاع الصعبة والقاسية التي يعانيها السوري ويحاصر داخلها، بين موت رؤوم أو سجن كبير اختصره الفنان "مصطفى يعقوب" بقفص يحتوي النسر السوري، إذ يقول عن لوحته تلك: "الجواز بالنسبة لي هو كالنسر المرسوم على غلافه. يجب أن يحملنا ويطير بنا إلى أيّ بقعة في هذا العالم, لكنّه للأسف أصبح اليوم القفص الكبير الذي يسجننا جميعا بمكان تواجدنا أينما كنّا ولا ينفذ من قضبانه الحديديّة إلا ذو حظ عظيم"، خاصة أن النظام السوري يرفض تجديد جوازات السوريين المعارضين، مستخدما الأمر وسيلة ضغط عليهم لتسليم أنفسهم مما يجعل أغلبهم بلا جواز سفر، في حين يقول "خالد مالك" عن لوحته التي جعلت من الجواز مجرد خيمة يستظل السوري بظلها "عندما رسمت لوحتي قصدت إرسال رسالة للعالم بأن وطن الشعب السوري أصبح الخيم و مخيمات اللجوء بسبب الدمار الهائل الذي لحق بالوطن واستحالة البقاء فيه, وأن الوجهة الوحيدة أمام الشعب السوري في ظل تخاذل جميع الدول أصبت المخيمات فقط".
هكذا يغدو الجواز السوري في لوحات الفنانين تعبير مكثف بطريقة غير مباشرة عن فردوسهم/ وطنهم السوري المفقود، فهو يحضر بكثافة كناية عن وطن غاب وبات نائيا، فهو "بداية الغربة والمعاناة، هو البعد وخط النهاية لأيام الطفولة، النهاية لذكريات الوطن الدافئة, هو نهاية لضحكات طالما سمعتها في أي بيت في الوطن، وما هو الا بداية للعيش المر... ورحلة الشقاء لمطاردة أي حلم بحياة أفضل لا أحد يعلم ما هي نتيجتها" كما يقول خالد مالك.