لم تبق آداة من أدوات النضال ضد الدكتاتورية لم يجربها السوريون طيلة ثلاث سنوات ونيف، من الحراك السلمي المدني إلى المقاومة العسكرية والسياسية والاجتماعية، إلى الصمود الذي – بحد ذاته- يعتبر مقاومة جراء عوامل الهتك والدمار والقتل والتخلي المسلّطة على السوريين.
ثلاث سنوات ونيف، اختلف فيها السوريون حول كل شيء، تقاربت دروبهم في الحراك السلمي وهم يهتفون "حرية إي بدنا حرية"، وتباعدت فيما بعد جرّاء تعدد أدوات النضال لمواجهة آلة قمع جهنمية، وهو تباعد أوصل البعض منهم إلى أحضان التطرف والبعض الأخر إلى مغادرة الساحة والتفرج على هذا الخراب العميم.
ولكن رغم هذا الاختلاف والتشتّت لم يختلف السوريون يوما ولا زالوا (خاصة الثائرون منهم كي لا نصادر رأي المولاة)، على أن الاستبداد يجب أن ينتهي وأن دولة القانون يجب أن تبنى مكان دولة الأتاوات والفساد والأمن والقتل والاستدعاءات الأمنية والسجن والاعتقال، أي يجب أن تنتهي دولة السلطة المحاربة للشعب لصالح دولة الشعب الذي تكون فيه السلطة مجرد منفذ لطموحاته وحارس لأحلامه.
اليوم يكتشف السوريون مجددا قيمة الحراك المدني السلمي الذي آمن فيه فريق "سيريا أنتولد Syria untold" منذ تأسيسه، دون أن يصادر أو يدين حق الخيارات الأخرى التي ولدت بطبيعة الحال من رحم الصراع السوري المعقد، فهاهي مؤسسات المجتمع المدني التي ولدت في ظل الثورة السورية تعمل اليوم على البحث عن آفاق الخيار السلمي مجددا، وهاهي تعمل على الأرض لإعادة تفعيل الحراك السلمي مجددا، رغم كل هذا اليأس والدمار والقمع، سعيا لتفعيله وتطويره وإعادة الدور له، لنكون أمام سؤال: لماذا هذا الإصرار على أهمية الحراك المدني السلمي في الوقت الذي تقصف فيه طائرات التحالف الدولي أوهاما في سوريا، وتقصف فيه طائرات النظام المعارضة المسلحة والمدن والقرى دون أن تميّز بين منزل آمن أو نقطة عسكرية؟ والاثنان يتذرعان بقصف وضرب وتجفيف منابع الإرهاب!
الحقيقة كما نراها تقول: الطرفان التقيا في نهاية المطاف على حساب آمال الشعب السوري وحقه بالحياة والحرية.
الطرفان عملا معا، وكل وفق أجندته ومصالحه ( وبغباء أطياف معارضة مع الآسف بغض النظر عن النوايا الطيبة)، على تجفيف الحراك المدني السلمي وليس لتجفيف الإرهاب، وما تعرّض "مركز مزايا" في كفرنبل الذي نسجت نساؤوه أطول علم للثورة السورية، للاعتداء اليوم من قبل جهات متطرفة إلا دليل على معاداة الجميع لهذا الحراك، ولكن لماذا؟
لأن دولة ديمقراطية مدنية علمانية في سوريا تهدد أمن جميع القوى الإقليمية في المنطقة، بدءا من الخليج الخائف من امتداد الربيع إليه وهو سيمتد مهما طال الزمن، وليس انتهاءا بأمريكا وإسرائيل، مرورا بإيران التي تخشى سقوط حصانها السوري فتخسر كل الإقليم.
من هنا، كان الحراك المدني السلمي عدوا للجميع، فعمل الجميع على إغراقه بالحرب والدمار وتضييق بيئاته الاجتماعية، مستندين في ذلك على بنية اجتماعية هشّة أساسا لم يتح لها الواقع السوري تاريخيا بفعل الاستبداد أن تكون أفضل من ذلك. ومن هنا العناد مستمر من قبلنا، والمعركة مفتوحة، إنها معركة الحرية التي لا نزال نؤمن بها، ولا نزال نرى أن الحراك المدني طريقنا إليها بوجه تلك القوى، التي تريد إجهاض حلمنا هذا.
ولكن ما الذي يمكن أن يفعله الحراك اليوم كي نفعله مجددا؟
هنا بالذات تكمن أهمية الحراك المدني السلمي، وهو ما غاب عن ذهن الجميع، أي بأن مفاعيل الحراك ليست آنية مباشرة بل بعيدة المدى عبر تراكم الوعي والخبرات والمقاومة وتعضيد قوة المجتمعين المدني والأهلي بمواجهة جميع القوى العاملة على إعادته إلى حظيرة الاستبداد، سواء أكان استبدادا داعشيا أم إسلامويا أم أسديا. ولعل تراكم عملنا وتطوّرنا نحن في الموقع يؤكد هذا الشيء، فبعد أن انطلق الموقع (2012) من فكرة أن يكون ذاكرة توثيقية للحراك المدني بكامل مبدعيه وفعاليته ومجموعات عمله الثورية، ومن تسليط الضوء على "حكاية ما انحكت" تلك التي تهملها وسائل الإعلام في سوريا، بات اليوم إضافة لذلك يختزن مشروعا يفكر بالمستقبل السوري تحت اسم سيريا تكتب، وهو المشروع الذي أطلق بالتعاون مع مؤسسة سمير قصير سعيا لمعرفة أية دولة وأي نظام وأيّ اقتصاد وأيّ مستقبل يريده السوريون، مترافقا مع مشروع "الانتفاضة نظرة نقدية" الذي أطلق أيضا بالتعاون مع مؤسسة "أوبن ديموكراسي" لتسليط الضوء نقديا على مسارات الانتفاضة السورية.
في الوقت الذي تهدم فيه طائرات التحالف والنظام كل شيء، وفي الوقت الذي لا يهتم فيه المسلحون بأبعد من بنادقهم ونصرهم العسكري، ثمة ناشطون يرممون جروح المجتمع والبشر والمتعبين والمرضى.
ثمة آمال وأحلام لا تزال تقاوم في البيوت المعتمة.
ثمة لافتات لا تزال تقول: "خاين يلي بيقتل شعبو".
ثمة نساء لازلن يصرخن ضد هيمنة الذكوريات السلطوية والمعارضة في آن.
ثمة من لا يزال يحلم بالحرية، ويراكم أدوات نضاله ويعزز خبراته انتظارا للحظة الخلاص القادمة دون ريب، ولهذا ما زلنا نؤمن بالحراك المدني السلمي ونعمل على تعزيزه، لأن معركتنا طويلة وليست مجرد يوم أو يومين، ولن تنتهي مع انتهاء النظام.
هل ننجح في هذا الواقع الصعب؟
لست مهزوما ما دمت أقاوم.