تعتبر الثورات العربيّة ظاهرة "ميديائيّة" إعلاميّة منذ انطلاقها في تونس ومصر عام2011 وامتدادها إلى دول عربيّة أخرى كاليمن و ليبيا، وسوريةـ و ينطوي هذا التوصيف على بعدين رئيسيين أولهما؛ اهتمام وسائل الإعلام العربيّة والعالميّة بمتابعتها وتغطيتها. وثانيهما؛ الاستفادة من ثورة المعلومات، وتطور وسائل الاتصال لإنتاج إعلامٍ "بديلٍ" له وظيفيّة تعبيريّة كاشفة نجح في نقل "الحدث" إلى المجال العام وكسر التعتيم المفروض سلطويًّا، وشكل "حالة" إعلاميّة تنظيميّة (إطلاق الدعوات للاحتجاج)، وانطوى على خصائص " تحريضيّة تحفيزيّة" أسهمت في التعبئة الإيديولوجية ضد الأنظمة الاستبداديّة.
تتشابه الثورة السوريّة مع الثورات العربيّة الأخرى في دور وفاعليّة وسائل التواصل الاجتماعي كونها الحاضن الرئيس لتفاعلات النشطاء باعتبارها "فضاءً" خارج التحكم السلطويّ. لكنّ تأثير الشبكات الاجتماعيّة، وبخلاف الثورات الأخرى، اختلف في كل مرحلة من مراحلها. تأسيسًا على ماسبق، نقف في هذا المقال على دور الشبكات الاجتماعية في الثورات العربية بشكل عام، والثورة السورية خاصة.
جدل الواقعي والافتراضي
فرض التطور التقنيّ الهائل في قطاع تكنولوجيّا المعلومات وانتشار الانترنت حقائق جديدة جعلت الناس يتلاحمون في "مجتمع" افتراضيّ. ولعل أبرز إفرازاتهما بات يعرف بـ"الشبكات الاجتماعيّة" التي يشترك فيها ملايين البشر كلٍ حسب اهتماماته وميوله. ودفع الاستخدام الفعال لهذه الشبكات بعض علماء الاجتماع للحديث عن "عالمٍ"، أو "مجال عام"، أو "واقع" افتراضيّ، وذهب بعضهم مثل هووارد رينغولد (Howard Rheingold) في كتابه المجتمع الافتراضيّ عام 1994 إلى وصف الكيانات الناشئة في وسائل التواصل الاجتماعيّ بـ"المجتمعات الافتراضيّة. وبناء على الفرضيات السابقة، والزيادة الملحوظة في عدد المشتركين والمتفاعلين في شبكات التواصل الاجتماعية العربية، سارع مختصون ومراقبون عرب وغربيون عند انطلاق الثورات إلى المبالغة في تأثير دور هذه الشبكات في إطلاق الثورات، وإخراج المحتجين للشوارع. قد يصح التوصيف السابق نظريّا إذا ما وضعت بعض المنتديات والتجمعات الافتراضيّة "حالة للدراسة"، لكن من الغبن معاملة الثورات العربيّة كما لو أنها كذلك، فلا أسباب انطلاقتها تعود إلى تيّسر وسائل الاتصال وتطوّر التقانة المعرفيّة، ولا ظروف تبلورها ميدانيًّا يؤكد هذا الفرضية. فالمجتمعات العربيّة إبان انطلاق الثورات عكست تفاعلاتها الاحتجاجية في مجتمعات مصغرة هي "ساحات التغيير" كميدان التحرير في القاهرة، وميدان الستين في صنعاء، شارع الحبيب بورقيبة في تونس. وما اضطلعت به وسائل التواصل الاجتماعي هو نقل الأخبار، والدعوات إلى الاحتجاج، والمساهمة في انتشار القيم والرموز السياسيّة ومخرجات هذه الكيانات المجتمعيّة المصغرة ( الساحات) إلى المجال العام الأوسع.
أما في سورية فالحالة مختلفة واستثنائية، فغياب ساحات الاحتجاج الكبرى نتيجة القمع الأمنيّ والعسكريّ الممنهج، وتجذر الاحتجاجات في مراكز الأطراف والهوامش، وتأخر المراكز المليونية ( حلب ودمشق) جعل من وسائل التواصل الاجتماعي الفضاء الوحيد خارج تحكم السلطة، والذي يستطيع المواطن السوري التفاعل مع الآخرين بحرية من خلاله.
لم يتردد الرئيس بشار الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب في 30 أذار/ مارس 2011، في وصم الاحتجاجات بأنها "موجة افتراضيّة" أو "صرعة" نشأت في وسائل التواصل الاجتماعي وترتبط بأجندات خارجيّة تهدف إلى تقويض النظام السياسي. بدا واضحًا أنّ إنكار الأسد لوجود الاحتجاجات مرده تحليل خاطئ عن أن الثورات العربية لا وجود لها إلا في عوالم افتراضية متخيلة. إنّ "الواقعيّ" كما يظهر في الفهم السلطويّ هو أمر حقيقي ممتلئ واضح المعاني والتجليات يمكن التحكم به. أما الافتراضي فهو "وهم" فقط لأن النظام لا يستطيع الإمساك به، أو "القبض عليه عند الضرورة". وبالتالي فإن أي حراك مناوئ له تتوافر لديه القدرة على الاتصال بحريّة، يشكك في الواقع الذي تفهمه السلطة، ويزيل البساطة والسطحية عنه، ويفككه أو يتحكم به ويعيد تعريفه وتشكيله وتوجيه هو "واقع افتراضي".
لمن الغلبة ؟ الافتراضي أم الواقعي ؟
بداية الثورة كان فيسبوك ( ما يزال ولكن بدرجة أقل) الأكثر متابعة وتفاعلا بين السوريين. وقد سعى نشطاء بعد انطلاق الثورة المصرية إلى استنساخ بعض وسائلها، فأنشئت صفحات ( الثورة السورية، ويوم الغضب السوري، أما آن لجوري دمشق أن يزهر .. الخ)، وحدّدت مواعيد للاحتجاج ودعت الجمهور السوري للثورة، لكن هذه الدعوات بقيت أسيرة صفحاتها ولم يستجب لها أحد. بدا واضحًا أنّ ترجمة الاحتقان الشعبي ضد تسلّط النظام يحتاج إلى مثير غير تقليدي لا يمكن استحضاره بنشر فيديو لمعتقل في السجون السورية أو انتهاكات قديمة مصوّرة تنشر في هذه الصفحة أو تلك. لكن استحضار هذه المعطيات الإعلامية أثرت على النشطاء ودفعتهم إلى زيادة نشاطهم الافتراضي، والواقعي أيضاً بكتابة الشعارات على الجدران في أكثر من مدينة سورية، وهي حملة انتهت بمأساة أطفال درعا ليكون معها العامل الأمنيّ المثير الحقيقيّ "المسبب" لخروج الاحتجاجات فيها وانتشارها إلى مدن أخرى.
يمكن القول إنّ الافتراضيّ بداية الثورة كان تأثيره محدودًا، وكان ناقلاً للواقع وشارحًا لصورته. كما أنّ صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد2011، والتي كانت أكبر تجمع افتراضي مناوئ للنظام لم تسطع آنذاك فرض رموز خطابها السياسيّ في البداية، إذ لم يتجذر شعار إسقاط النظام التي رفعته الصفحة منذ تأسيسها في 18 كانون الثاني/ يناير 2012 إلا مطلع شهر أيار/ مايو 2011 بعد زج مؤسسة الجيش في معركة قمع الاحتجاجات في درعا، وحمص.
لذلك فإن العمليات العسكريّة هي التي رجحت تأثير الافتراضيّ على الواقعيّ في تحديد شكل ومعالم الخطاب السياسي المرافق للثورة، وذلك بعد أن أنهت الاعتصامات وتأثير الساحات فانتفت معها إمكانية إنتاج برنامج احتجاجيّ سلميّ ذو أهداف ومطالب وشعارات واضحة يخرج من رحم هذه الساحات. فتولت الصفحات التعبيرية والكاشفة هذه المهمة وأناطت بنفسها دور تحديد القيم والرموز السياسية كقيمٍ جامعة للحراك الاحتجاجيّ الذي توّحد على شعار إسقاط النظام. وأسهمت في صناعة اتجاهات جديدة في الرأي العام لم تكن حاضرة مع بدء الاحتجاجات.
يعتبر عالم النفس غوستاف لوبون في كتابه "سايكولوجيّة الجماهير" أن "الأفراد المنفصليّن عن بعضهم بعضًا يمكن أن يكتسبوا صفة الجمهور النفسيّ في لحظة ما تحت تأثير بعض الانفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قوميّ عظيم". في سوريّة نجد أن التفاعلات الافتراضيّة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي أنتجت جمهورًا نفسيًّا لأفراد لا يعرفون بعضهم، جمعهم حدث قومي عظيم هو " الثورة"، وما نتج عنها من انفعالات وارتدادات عنيفة لشرائح كانت قانعة بالواقع الحقيقيّ السابق ولم تعد قانعة بذلك اليوم. وعلى اعتبار أنّ صفحة الثورة السوريّة في الفيسبوك تشكل أكبر جسم افتراضيّ فإنّ تفاعلات "جمهورها النفسيّ" هي التي حددت خصائص ومعالم واتجاهات الثورة بشكل كبير والسبب كما ذكر سابقًا يعود إلى انتفاء وجود "ساحات التغيير"، وتبني وسائل الإعلام العربيّة والعالميّة لمخرجاتها السياسيّة والرمزيّة.
كانت تسمية أيام الجمع وأيام التصعيد الثوريّ أبرز مفاصل صناعة الرأي العام في سوريّة، والذي لعبت فيه وسائل التواصل الاجتماعيّ دورًا رياديٍّا من خلال صفحة الثورة السورية التي ابتدعت وخلقت الآليّة اللازمة لإنضاج تسمية الجمعة افتراضيًّا من خلال التصويت الذي تطرحه أسبوعيًّا. إنّ تسمية الجمعة وإن نجحت الصفحة في كثيرٍ من الأحيان في دعم الخيارات التي تحبذها كعناوين وشعارات للحراك الثوري، إلا أنها عكست النقاشات التي كانت تدور في الواقع، وخاصة لدى الطبقة المثقفة والنخب الفكرية. لذلك كان الافتراضيّ يحدد مدخلات النقاش على مدى أربعة أيام في الأسبوع قبيل إغلاق باب التصويت في الفيسبوك. ويعكس التجاذبات الفكريّة واختلاف الرؤى السياسية في الثورة ضمن الوسط المعارض. وأبرز هذه التجاذبات حصلت في جمعة العشائر، وجمعة أحفاد خالد، وجمعة الحماية الدولية، جمعة المجلس الوطني يمثلني، والاستفتاء على علم الاستقلال. يمكن الاستدلال على تأثير الافتراضي الكبير في السنة الأولى من تغيير رموز سياديّة وطنيّة مثل "العلم السوري"، إذ تبنى الحراك الثوريّ بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 علم الاستقلال كرمز سياديّ يتمايز به الجمهور الداعم للثورة عن العلم السوري الحالي.
تظهر المعطيات السابقّة ريادة الافتراضيّ في الثورة السوريّة خلال السنة الأولى منها، لكن انتقال الثورة إلى الجانب الكفاحيّ المسلح وتبني هذا الجانب من قبل المحتجين والمعارضين بغالبيتهم حدّ من تأثير الافتراضيّ ليقتصر دوره على الناقل للمعارضة المسلحة والجيش النظامي. أما اليوم فيكاد يكون تأثير الافتراضي معدوما.