تغيير لا إصلاح: حول خيارات الانتقال السياسي في سوريا (5)


26 تشرين الثاني 2014

صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

في جميع النزاعات الأهلية، وبحسب العديد من الدراسات المقارنة، أشير في كثير من الحالات أن لا مجال لانتهاء هذه النزاعات بنصر عسكري حاسم لصالح أحد الأطراف المتصارعة؛ وأنه في أغلب الحالات كان "الحل السياسي" هو الخيار الوحيد، والمخرج الذي لا بديل عنه، لوضع حد لهذه النزاعات وإراقة الدماء.
لا تشكل الحرب الدائرة في سوريا منذ حوالي الثلاثة أعوام، استثناءً على هذا الصعيد، وما يؤكد ذلك، استمرار الصراع والحرب الطاحنة بين جميع الأطراف المكونين للمشهد السوري، لحوالي الثلاثة أعوام من دون أن يلوح في الأفق، إمكانية، أو توّفر فرص حقيقية لحسم عسكري مزعوم لأياً من الأطراف المتحاربة. وهو ما يجعل من "الحل السياسي" خياراً مرغوباً، بل لا بديل عنه للخروج من هذه الحرب الدموية ووضع حد للنزيف السوري.
والسؤال الذي من الجيد طرحه هنا: هل وصلت الأطراف المتصارعة في سوريا باختلاف مواقعها وتوجهاتها إلى هذه القناعة؟ في الحقيقة إن الجواب عن هذا السؤال هو ما سيحدد طبيعة المرحلة المقبلة لمستقبل سوريا.
خيارات الانتقال السياسي
في آب من العام الجاري (2014)، قدم مركز كارتر الدولي مسودة تقرير حول "خيارات انتقال سياسي" في سوريا، يضع حداً للنزاع الدامي فيها، والمستمر لأكثر من ثلاث سنوات.
ويعرض التقرير الخطوط العريضة للخيارات الدستورية والتشريعية لانتقال سياسي في سوريا، آخذاً بعين الاعتبار "توافقات الحد الأقصى" التي يمكن أن تجتمع عليها أغلب أطراف النزاع السوري، ويوضح ملامح الطريق إلى نهاية تفاوضية للحرب الأهلية الدائرة.
وهو يأتي في سياق سلسلة من الاستشارات مع قادة، وناشطين، ومحامين، وأكاديميين سوريين، إضافة إلى مسؤولين في الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي.
ويقدم التقرير ثلاث اقتراحات محتملة لعملية الانتقال السياسي، الاقتراح الأول والذي يعتمد على إعادة صياغة الدستور السوري لعام 2012، وهو خيار يفترض تغيير دستوري جذري في أربع مجالات، وهي: أولاً، تقليص حجم السلطات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية، ونقل هذه السلطات والصلاحيات إلى هيئة حكم وطني انتقالي ذات سلطات تنفيذية كاملة؛ وثانياً، ضرورة إجراء إصلاح قضائي جذري؛ وثالثاً، إجراء تغييرات وإصلاحات على القوانين والمراسيم وتحديداً تلك الصادرة عام 2011؛ ورابعاً، إلغاء العديد من القوانين والمراسيم التي تمنح الأجهزة الأمنية سلطات واسعة.
الاقتراح الثاني: ان تتفق الأطراف السورية على وضع دستور حكم مؤقت، مؤلف من مجموعة مبادئ وآليات حكم متوافق عليها، ممكن ان تحل محل الدستور السوري القائم.
والاقتراح الثالث: ويستند إلى عرض قدم من قبل بعض الحقوقيين السوريين بالعودة إلى دستور عام 1950 باعتبار أن صياغة هذا الدستور وإقراره، كانت الأكثر ديموقراطية في التاريخ السوري الحديث.
وفي الوقت الذي يبدو فيه أن التقرير شاملاً لأغلب الخطوات العملية التي تضع خطة السلام السورية على الطريق الصحيح، إلا أننا سنلاحظ أن خطة السلام هذه، والتي تتضمن حلاً سياسياً للحرب السورية، مشروط نجاحها بمجموعة من العوامل التي نرى بأنه لن يكتب لها النجاح من دون توفرها.
أطراف النزاع المكونة للمشهد السوري
خلال سنوات الصراع السابقة، تبلورت مجموعة من القوى التي ساهمت بتشكيل المشهد السوري بشكل عام، وباتت هذه القوى هي المحدد الأساسي لهذا المشهد.
أ‌. الأطراف المكونة للمشهد العسكري السوري:
على الصعيد العسكري، يتألف المشهد السوري من عدد من الأطراف المقررة، وهي: أولاً، التشكيلات العسكرية المندرجة تحت اسم "الجيش الحر" والتي تنخرط بمجملها في إطار تجمعات مرتبطة بشكل أو بآخر بالائتلاف الوطني السوري، وهذه التشكيلات عموماً تتبع سياسياً للمجلس الأعلى العسكري.
ولدينا ثانياً، التشكيلات العسكرية السلفية الجهادية السورية، والمنضوية في غالبيتها في إطار تجمعات كبيرة تنظم شؤونها، كتجمع الجبهة الإسلامية، والذي يضم سبعة من أقوى التشكيلات العسكرية المعارضة، وتجمع جيش الاسلام والذي يقوده زهران علوش ويضم أكثر من 50 تشكيلاً عسكريا، وتجمعات أخرى عديدة. هذا الطرف الفاعل في المشهد السوري، لا يتبع لأي جهة سياسية سورية، على الأقل على المستوى العلني، وأغلب هذه التشكيلات كان لها موقفاً معارضاً لمؤتمر جنيف2، حيث أصدرت أغلب هذه المجاميع العسكرية في تلك الأثناء بيانات تعلن فيها موقفها الرافض لجنيف2.
الطرف الثالث في المشهد السوري، يتمثل بالتيارات الجهادية الأممية، والتي تضم فصيلي جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية، وكلاهما يتبع بشكل أو بآخر لتنظيم القاعدة الدولي، ولا تربطه أيّ صلات مع القوى السياسية للمعارضة السورية.
ب‌. الأطراف المكونة للمشهد السياسي السوري:
على صعيد سياسي، يضم المشهد السوري، عدد من الهيئات السياسية التي تسعى إلى احتكار صفة تمثيل المعارضة، كالائتلاف الوطني السوري، وهيئة التنسيق (معارضة الداخل)، والمجلس الوطني السوري، والأحزاب والقوى الكردية كالمجلس السياسي الكردي في سوريا ويضم 8 أحزاب كردية، وحزب الاتحاد الديمقراطي القريب من حزب العمال الكردستاني، الذي يقوده حاليا صالح مسلم، وغيرها العديد من الهيئات السياسية الأخرى.
في مواجهة كل هذه الأطراف، يوجد الطرف المقابل لها، أي النظام السوري، والذي مازال رغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام على ثورة الشعب السوري، ما يزال طرفاً فاعلاً ومحدداً في الآن ذاته، في طبيعة خطة الانتقال وآليات تنفيذها، وهو طرف لا يمكن إغفاله في أي خطة للانتقال السياسي في سوريا.
تختلف جميع هذه الأطراف السابقة والمكونة للمشهد السوري، في توجهاتها السياسية والأيديولوجية، وتختلف تبعاً لذلك حول رؤيتها لمستقبل سوريا وطبيعة مرحلة الانتقال السياسي؛ وهي تتراوح بين قوى ذات توجهات علمانية وليبرالية، وصولاً إلى القوى ذات التوجه الأصولي السلفي، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى بروز العديد من التعقيدات حول صياغة خطة الانتقال السياسي.
ت‌. الأطراف الإقليمية المكونة للمشهد السوري:
بسبب طول فترة الصراع في سوريا، ودخول هذا الصراع في طوره المسلح، دخل على خط الصراع السوري العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، والتي كان لها دوراً محورياً على صعيد سياسي وعسكري واقتصادي.
إذ وقفت إيران وروسيا خلف نظام الأسد، مؤمنة الدعم له على كافة الأصعدة، حيث تكفلت روسيا بتأمين الدعم السياسي والعسكري للنظام، بينما أمدت إيران النظام، بالمقاتلين والعتاد إضافة إلى الدعم الاقتصادي الكبير.
على صعيد قوى المعارضة وقفت كل من قطر والسعودية وتركيا بشكل أساسي خلف دعم قوى المعارضة المختلفة، وبسبب الدور الحاسم الذي لعبه "التمويل" باتت هذه الأطراف مقرّرة على صعيد المشهد السوري، وباتت جزء أساسياً من هذا المشهد.
معيقات عملية الانتقال السياسي في سوريا
تواجه خطة الانتقال السياسي مجموعة مهمة من المعيقات، والتي تجعل من هذه الخطة أمراً مستحيل التطبيق من دون تذليلها ومعالجتها، ومن أهم هذه المعيقات:
أ‌. مرجعيات قانونية لا مرجعية واحدة:
أولى المعيقات التي تظهر على السطح، ما إن تطرح عملية الانتقال السياسي، تكمن في التعقيدات الكبيرة حول كيفية إيجاد حدّ أدنى ومقبول من الاتفاق يجمع جميع الأطراف المتصارعة في سوريا، والتي تملك سلطة القرار، إن كان لأسباب اقتصادية او عسكرية أو لغيرها من الأسباب، وتبرز أهم هذه التعقيدات حول تحديد طبيعة المرجعية القانونية الواجب اعتمادها كأساس لصياغة الدستور والقوانين المتعلقة به.
بالنسبة للتشكيلات العسكرية المعارضة والفاعلة بقوة على الأرض، فإن التشكيلات الجهادية السورية، كالجبهة الاسلامية على سبيل المثال، والتشكيلات الجهادية الأممية، كتنظيم الدولة الاسلامية، وجبهة النصرة، فهذه التشكيلات عبرت وبشكل لا لبس فيه عبر بياناتها وأدبياتها السياسية، عن اعتمادها للشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع، ولا تخفي هذه التشكيلات عدائها المطلق لوسائل الحكم الحديثة وعلى رأسها الديموقراطية، كما تؤكد على سعيها إلى إنشاء "دولة إسلامية" تكون بديل عن الدولة الحالية، وهي في هذا السياق لا تخفي عدائها ورفضها "للدولة المدنية" التي نادت بها قوى الثورة السورية في مرحلة سلمية الثورة.
لا يمكن تجاهل هذه القوى المختلفة، كما لا يمكن لأيّ خطة انتقال سياسية أن يكتب لها النجاح من دون مشاركة هذه القوى، والسؤال هنا: كيف سيتم تجاوز هذه العقدة في خطة الانتقال السياسي والمرتكزة أساساً على مرجعية قانونية وضعية، لا تقبل بها هذه التشكيلات على الإطلاق.
ب‌. هل ثمة إرادة دولية لوضع حد للحرب السورية؟
التعقيد الثاني الذي سيواجه تطبيق خطة الانتقال السياسي، يكمن في افتقاد خطة الانتقال للإرادة الدولية والإقليمية وحتى المحلية، والتي يمكن أن تضمن توفير فرص مقبولة لإنجاحها وتحويلها إلى واقع ملموس.
حتى اليوم لا يوجد أية مؤشرات تشير إلى توافر إرادة دولية وقرار مواز له على صعيد الأطراف المقررة في الشأن السوري، يمكن ان يضع حداً للحرب الدائرة في سوريا، لا على صعيد "أصدقاء الشعب السوري"، ولا على صعيد القوى الداعمة لنظام الأسد، وهو الشيء الذي يجعل من خطة الانتقال السياسي في مجملها عبارة عن حبر على ورق، وفي المقابل تستمر الحرب في سوريا، ويستمر "الداعمون" في دعم الأطراف المتحاربة وضمان استمرارها في القتال، وهو ما يحبط أي مساع لإنجاح خطة انتقال سياسية تفتح أفق على المستقبل السوري.
ويتضح مما سبق، أن لا حل سياسي في سوريا، ما لم تتوافر إرادة دولية وقرار على هذا الصعيد، يجبر جميع الأطراف المكونة للمشهد السوري، على الرضوخ والقبول بوقف الحرب والتوجه نحو الحل السياسي، والذي بات من الواضح لدى أفراد الشعب السوري على الأقل، أن لا سبيل آخر عداه لوقف الحرب، وفتح أفق على مستقبل سوريا، بكل مكوناتها.
خاتمـــة
بقدر ما يبدو أن السورييين اليوم أحوج ما يكونوا إلى "عقد اجتماعي" جديد، يؤسس لمرحلة مقبلة تتيح إمكانية بناء هوية وطنية سورية جديدة وتضع حداً للنزيف السوري، فإنّنا سنلاحظ وبالملموس، النقص الشديد والهائل للثقة بين جميع الأطراف المكوّنة للمشهد السوري، وقد يكون هذا عاملاً من جملة عوامل أخرى معيقة وبشكل أساسي للسير بالخيار السياسي لوضع حد للحرب السورية، وهو عامل ما لم يتوفر على صعيد جميع السوريين، لن يكن هناك من أمل على الأقل في المدى المنظور في تحقيق تقدم ملموس على صعيد وضع حل للأزمة السورية.
بينما يأتي الدور الإقليمي ليكون عاملاً مساهماً وحاسم الأهمية في إرساء وعودة الثقة بين السوريين وتعزيز من فرص التقائهم عند حدود التوافقات المقبولة والتي يمكن أن تؤسس لمرحلة انتقال سياسية تضع السوريين على الطريق الصحيح.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد