أي نظام (سياسي-اقتصادي- اجتماعي) نحتاجه في سوريا مستقبلا؟


29 تشرين الثاني 2014

سمير سعيفان

خبير اقتصادي سوري

قد يبدو الحديث اليوم عن أي نظام نحتاجه في سوريا مستقبلاً في غير أوانه، مع استمرار هذا القتل والدمار لكل شيء في سوريا، التي يتهددها خطر التقسيم والفوضى لأسباب عدة،أولها اعتماد الحل الأمني من قبل النظام، والإصرار عليه، ثم قدوم مقاتلين متطرفين مذهبيين للقتال لأجندات خاصة بهم، سواء كانوا يقاتلون إلى جانب النظام أم ضده، إضافة إلى تدخلات عربية وإقليمية ودولية بطريقة أدّت لتعقيد المسألة وليس إلى حلها.

لكن وإن كان هذا صحيحاً، فإن ذاك اليوم الذي يتوقف فيه القتال سيأتي، حيث يتوقف القتل والموت والهدم. عندها سيتجه السوريون لإعادة إعمار بلدهم، بعد كل هذا الدمار الهائل، وسيطرحون السؤال على أنفسهم: أي نظام سياسي، وأي نظام اقتصادي، وأي نظام اجتماعي، وأي نظام ثقافي نحتاجه في سوريا.

الإجابة على هذا السؤال ستقوم على تحليل الماضي والانتفاع بدروسه، وتحليل واقع العالم المتقدم والانتفاع بدروسه. وأهم هذه الدروس هي أن تكلفة أي نظام شمولي مستبد، سواء كان باسم قومية أم باسم دين أم بأي اسم آخر، هي تكلفة هائلة فظيعة. وبالتالي ضرورة تجنب ورفض أي نظام شمولي يقمع الحريات العامة، التي تخلق المناخ الضروري الملائم لتفتّح الشخصية السورية، وتفتّح المجتمع السوري، وإطلاق قدراته الإبداعية، وهذا يشترط ضمان الحريات العامة في التعبير والتنظيم بشتى الطرق. ورغم أن هذا الشرط بات متفقا عليه لدى الغالبية العظمى من السوريين، فيوجد اليوم من يهددنا باستبداد أشد ظلاماً،ممن ينصّبون أنفسهم ممثلين لإرادة الله على الأرض،مستغلين تعلّق الناس بالدين، وقدرتهم على خداع البعض من أصحاب العقول الغائبة.

لكن وحتى لو تحقق نظام ديمقراطي يقوم على تداول السلطة عبر صناديق الانتخاب، وفصل السلطات، ويضمن الحريات العامة، ويقوم على دستور عصري يعتمد القانون الوضعي الخ، فإن هذا لا يكفي لوحده، ما لم يتعزز بثقافة المواطنة وقيمها، وأن يؤمن بالعقل وقيمة العقل وقدرته على المحاكمة الصحيحة، واعتماده مرجعاً، ورفض كل ما لا يقبله العقل. أي رفع شأن العقلانية في المجتمع ولدى الفرد في حياته اليومية، والإيمان بالعلم والمعرفة على أنهما هما قاطرة التطوّر، وليس أيّ شيء آخر وأن يعي كل فرد حقوقه ومصالحه الفردية والشخصية، ولا يتنازل عنها ولا يجيّرها لشيخ عشيرة، أو لرجل أعمال،أو لرجل دين، أو لزعيم يطمح لركوب الجماهير، وأن يدرك كل فرد مصلحته الجمعية في خلق نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي عصري وأن يكون ابن العصر والمستقبل.

إن الديمقراطية السياسية لا تكفي لوحدها ولا بد من أن تكون الديمقراطية شاملة، فلا تتحقق الديمقراطية والمساواة بين جميع المواطنين، إن وجدت فروقات كبيرة في الثروة، فالفقير سيجد حينها نفسه يتنازل عن حقوقه أو يرهنها لمن يقدم له بعض احتياجاته، وسيكون الغني أقدر على التأثير، ليس عبر ثقافة احترام الأغنياء المتوارثة وحسب، بل عبر قدرة الغني على التأثير في الآخرين ممن يعملون لديه، فهو رب عملهم، (سيطرة على فرص العمل ومورد الرزق)، وقدرة كبار الأغنياء على التأثير في الرأي العام عبر السيطرة على وسائل الإعلام، وعلى مؤسسات التعليم وعلى المؤسسات الدينية التي تلقن مفاهيم تخدم سيطرة كبار الأغنياء، وبالتالي ستكون المساواة أقرب للنظرية منها من المساواة فعلية.

في الواقع تشكل الديمقراطية بمفهومها السائد اليوم مكوّناً واحداً فقط من مكونات الديمقراطية الشاملة الثلاث وهي: 1) الديمقراطية السياسية، 2) الديمقراطية الاقتصادية، 3) الديمقراطية الاجتماعية. ولا تكتمل الديمقراطية بدون تحقيق أقانيمها الثلاث كي تطير، فإن صح التشبيه، ستكون الديمقراطية السياسية بمثابة الجناح الأيمن، والاقتصادية ستكون بمثابة الجناح الأيسر، بينما الديمقراطية الاجتماعية بمثابة الذيل الذي يوجه الطيران.

الديمقراطية الاقتصادية تضمن إنتاجية مرتفعة كما تجعل الفروقات في الثروة بين البشر ليست مستقطبة بين قطبين فقير جداً وغني جداً، أي مجموعة صغيرة غنية جداً، وقطب واسع يمثل الفقراء جداً. ورغم أننا لا نعني بهذا قيام مساواة ميكانيكية بين الناس في الثروة، ولكن يجب أن يتم ضمان حد مقبول من العيش لجميع أفراد المجتمع، يجب أن يكون حق العمل مضمون، وحق الحصول على دخل كاف للعيش الكريم مضمون، وأن يكون حق التعليم المجاني للجميع في جميع مراحله مضمون، مع وجود تعليم خاص لمن يريد، وأن يكون حق حصول غير القادرين على الدفع على طبابة مجانية مضمون، وإن كان غالبية المشتغلين مؤمن عليهم في شركات تأمين حكومية أم خاصة، عبر مؤسسات عملهم. فبدون ذلك سيتم استقطاب المجتمع بين قطبين أو دائرتين مغلقتين على الخارج، دائرة مغلقة على فئة تملك الثروة والتعليم والصحة وأماكن العمل الجيدة، ودائرة واسعة مغلقة على الفقر والجهل والمرض وفرص العمل السيئة.

ولكن يجب ألاّ تتحقق الديمقراطية الاقتصادية عبر تطبيق إجراءات اشتراكية كما كان في السابق، فهذه التجربة قد فشلت، وكبحت القدرة الإنتاجية للفرد والمجتمع. ولكن يجب إقامة نظام اقتصادي اجتماعي يجمع بين الجانبين: 1) جانب الإنتاج والقدرة الإنتاجية المرتفعة، 2) جانب التوزيع بحيث يضمن توزيعاً أكثر عدالة للدخل، بحيث يحصل كل فرد على حصة من الدخل تعادل مساهمته في إنتاجه، وأن يتحقق هذا عبر اقتصاد السوق الحر مع تدخل ذكي للدولة.

حول جانب الإنتاج والقدرة الإنتاجية المرتفعة، يجب أن يضمن هذا النظام حرية الاستثمار وحرية الدخول للسوق والخروج منها، وتشكيل الأسعار عبر العرض والطلب، وخلق مناخ صديق للاستثمار، ويساعد في خلق عائد جيد، لأن العائد الجيد هو شرط لإعادة الاستثمار الموّسع، وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، والاهتمام بالقطاعات ذات القيم المضافة المرتفعة التي تخلق تراكم أكبر، مع إقامة تبادل متكافئ مع دول العالم يحقق مزيد من الدخل وفرص العمل، وأن يكون للدولة دور توجيهي وتصحيحي قوي للتدخل لتصحيح اختلالات السوق الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك أن يكون لها وللبلديات والنقابات والجمعيات قطاع اقتصادي منتج (قطاع خاص جماعي) يعمل وفق قوانين السوق السائدة أسوة بالقطاع الخاص.

أما على جانب التوزيع العادل للدخل، فيجب ألا يتم عبر التأميم وسيطرة الدولة على الفائض، بل عبر مجموعة من السياسات التي تتوافق مع اقتصاد السوق، وخاصة سياسات توسيع قاعدة الملكية الفردية والصغيرة والمتوسطة والكبيرة الجماعية.

الدخل الوطني يوزع بحسب قاعدتين: 1) قاعدة الملكية، 2) قاعدة الأجور، وكلما كانت الملكية مستقطبة كان توزيع الدخل مستقطباً، وكلما كانت حصة الأجور من الناتج منخفضة كلما كانت العدالة الاجتماعية منخفضة، والعكس بالعكس. وبالتالي فإن استهداف توسيع قاعدة الدخل بسياسات مناسبة، ستؤدي لتوسع قاعدة توزيع الدخل، وزيادة حصة قطاعات أوسع من الدخل، كذلك استهداف زيادة حصة الأجور والتعويضات بسياسات أجرية وسوق عمل مناسبة، ستؤدي لتحسين العدالة الاجتماعية. وبالتالي فإن رسم سياسات تعليم وتدريب وسوق عمل وتشغيل وسياسات ضريبية ونقدية وتجارية وغيرها، تسهم في توسع قاعدة الملكية بحيث يكون أكبر جزء من الشعب يملك ملكيات عينية أو أسهم في شركات أو حقوق الخ، وتسهم في تحقيق أجر وتعويضات عادلة تربط الأجر بالإنتاج، كلّما تحقق مجتمع ديمقراطي سياسياً واقتصادياً. وبالطبع فإن الديمقراطية الاقتصادية يجب ألا تجعل المؤسسات الاقتصادية جمعيات خيرية تخلق فرص عمل وهمية وتدفع أجور وتعويضات مبالغ فيها لا ترتبط بتطوّر إنتاجية العمل مما يؤدي إلى الانهيار مستقبلاً.
لا بد أن يكون للمرأة دور أكبر بكثير من دورها الحالي في سوريا القادمة، فعلى نحو عملي مباشر نقول أن المرأة نصف المجتمع، وتعطيلها عن الإنتاج يعطل نصف طاقة المجتمع، وتقدم المجتمع لا يتم بدون المرأة، ووضع المرأة في المجتمع هو مقياس لتقدمه، وأحد مقاييس تقدم المجتمع هو عمل المرأة التي تشكل نصف المجتمع. سيكون للمرأة بخاصة دور كبير في إعادة الإعمار، لأن مئات آلاف الرجال قد قتلوا من الطرفين وستجد مئات آلاف النساء أنفسهن وحيدات يعلن أطفالهن.

ولكن على نحو تاريخي، فقد ورثنا وضع المرأة الحالي من نظام اجتماعي أقيم قبل آلاف السنوات يوم كانت البشرية تتحوّل من الغابة حيث الترحال والصيد والالتقاط إلى الاستقرار وبناء القرى والبلدان ثم المدن المستقرة وقيام المدن الممالك، حينها فرض هذا النمط من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي ونشأت العبودية من الرجال العبيد والنساء الإماء، ووضعت المرأة "الحرة" في بيت زوجها للإنجاب وخدمة البيت. وقد مضى عصر العبيد والإماء، وبقي الكثير من بقايا وضع المرأة السابق، وقد حان الوقت للبدء ببناء نظام اجتماعي جديد يكون للمرأة فيه وضع مساو للرجل وإن اختلفت الأدوار. أي يجب التطلع لبناء نظام سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي هو ابن الحاضر والمستقبل.

وبالطبع أعلم وأنا أقول ذلك كم هو صعب هذا بينما تنمو بين ظهرانينا قوى ماضوية تدعو لإعادة الماضي، سواء كان على نحو معتدل مثل الأخوان المسلمين والجمهورية الإيرانية وأتباعها، أو على نحو متطرف مثل داعش.

قد تكون هذه الرؤية مكثفة جداً ولكن لا يتسع المجال لشرح أوسع الآن، وربما فعلنا هذا مستقبلاً.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد