مستقبل الطائفية في سورية؟ (1)


17 كانون الأول 2014

سلامة كيلة

مفكر سوري/فلسطيني ولد في مدينة بيرزيت بفلسطين عام 1955. عمل في صفوف المقاومة الفلسطينية واليسار العربي. وسجن ثمانية سنوات في سجون النظام السوري. له أكثر من عشرين كتاب منها: الثورة السورية واقعها صيرورتها وافاقها عن دار أطلس و "مصائر الشمولية" عن دار الريس و "ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية" عن دار نون

بعد الثورة التي تفجرت في 15 مارس/ آذار سنة 2011، وبعد كل التعقيدات التي دخلت فيها نتيجة العفوية الشعبية وعبء المعارضة وضررها، وأيضاً التدخلات الدولية التي كانت تريد تدمير الثورة من خلال أسلمتها والدفع نحو نشوب صراع طائفي، وكذلك الصراعات المسلحة التي حدثت، ودور النظام في الدفع نحو أسلمة الثورة وتطييفها، بات يطرح السؤال حول مستقبل الطائفية في سورية؟

والسؤال مطروح في سياق الصراع الذي تطوّر بعد دخول حزب الله وإيران وميليشيا طائفية عراقية من جهة، وكذلك نشوء جبهة النصرة وجيش الإسلام، ثم داعش من جهة أخرى، وظهور الصراع كصراع طائفي مع ميل نخب في المعارضة إلى تصعيد نغمة طائفية النظام والميل لقبول طائفية النصرة وداعش وأخواتهما. وبالتالي يُطرح السؤال في سياق ما يمكن أن يفضي إليه الحل الذي يمكن أن يجري التوصّل إليه.

لا شك في أن البحث في هذه المسائل يفرض العودة إلى الوضع قبل الثورة لتحديد واقع وجود طائفية أم لا، ومن ثم ما نتج عن الصراعات التي نشأت بعد الثورة واتهام النظام بالطائفية مع نشوء قوى طائفية سنّية، ومن ثم فهم الشكل الذي يمكن أن يتحقق الحل فيه، لكي نبحث أخيراً في نتائج الصراع الذي نشأ خلال الثورة على البنى الاجتماعية وتعايش الشعب. وربما يحتاج الأمر إلى بحث طويل، لأن كل من هذه المسائل بحاجة إلى أن تُستوفى، لكن سوف يجري الاختصار هنا كمدخل للبحث في مسائل هي أعمق من تناول حالة عيانية، وتتعلّق بطبيعة الفهم الذي يحكم تناول الواقع، والأسس المنهجية التي تحكمه.

هل كان هناك مسألة طائفية في سورية قبل الثورة؟
لا بد من التمييز هنا بين المنظور الديني الذي يرى المجتمع كطوائف وأديان، والمنظورات التي كانت سائدة وتنطلق من فهم قومي أو طبقي، في مجتمع كان يتسم بتعايش "طبيعي" بين أديان وطوائف، لا شك في أنه قد حدث فيما بينها حساسيات ما أو احتكاكات في بعض اللحظات، لكنها لم تخلّ في التكوين المجتمعي، ولم تؤسس لاصطفافات على أساس ديني أو طائفي. فبينما كان صراع الأحزاب القومية والاشتراكية مع جماعة الإخوان المسلمين ينطلق من أنها "قوى رجعية" متحالفة مع "الإمبريالية" والرجعية العربية، أو أنها تمثّل الإقطاع والبنى القديمة التي كانت تحتاج إلى إزالة في سياق تحقيق التطور، كان صراع الجماعة ينطلق من منظور "ديني" (أي طائفي)، وهذا ما مارسته بشكل واضح نهاية سبعينيات القرن العشرين (بالتوافق مع تنظيم الطليعة المقاتلة المنشق عنها أصلاً)، حيث خاضت صراعاً مسلحاً ضد السلطة التي كانت تعتبر أنها سلطة علوية. وهذه نظرة "تقليدية" للجماعة ما دامت تنطلق من المنظور السلفي الذي يكرّس السنّة كـ "الإسلام" ويعتبر الطوائف خارجة عن الإسلام أو مرتدة. ولهذا تسعى إلى فرض سلطة "الإسلام" بالمعنى المشار إليه، والذي يعني التمييز بين المواطنين على أساس الدين والطائفة، ويندفع إلى اعتبار الطوائف الإسلامية الأخرى كمرتدين أو مارقين أو كفرة.

ذلك الصراع الذي خيض نهاية سبعينات القرن العشرين فرض نشوء ميلين، الأول تمثّل في ميل السلطة إلى مركزة المواقع الحساسة في الدولة بيد "علويين"، رغم وجود عدد مهم من المسئولين من مختلف الأديان والطوائف. وهذا أمر يحتاج إلى تحليل من زاوية أنه نتاج "وعي طائفي" لدى السلطة (المتمركزة حول حافظ الأسد) أو هو نتاج البيئة الاجتماعية كما يمكن أن يشير تحليل سوسيولوجي؟

ولقد تعمّمت نزعة لدى بعض النخب والأحزاب تنطلق من "طائفية النظام"، وهذا هو الميل الثاني، حيث بات الفهم "الطائفي" يخترق النخب، وظهرت تحليلات تشير إلى مفهوم الأغلبية والأقلية بالمعنى الديني الطائفي، أي تشير إلى الأغلبية السنية والأقلية العلوية (والأقليات عموماً). وبالتالي أخذت تفسّر تلك الخطوات من منظور طائفي، أي أنها باتت تحدِّد بأن النظام يمثّل "الأقلية العلوية". وأخذت كثير من تصرفات السلطة، أو العديد من المظاهر، تفسَّر من منظور طائفي. سواء تعلّق الأمر بالبعثات التعليمية أو التوظيف في الدولة (حتى وإنْ كان في وظيفة فراش)) و"التمييز" لمصلحة "مثقفي الطائفة"، أو طبعاً الهيمنة على المراتب العليا في السلطة. وكان كل ذلك يتجاهل الحرمان التاريخي الذي عاناه الساحل (وهنا الطائفة العلوية)، وهو الحرمان الذي قاد أصلاً إلى أن ينخرطوا في الجيش نتيجة الفقر الشديد وسوء التعليم والتهميش، وأن يمثّلوا حجماً أكبر في بنيته، وفي مراتب الضباط كذلك. بمعنى أن هذا الحرمان هو الذي دفعهم للتمكن من السلطة، وهو الأمر الذي كان يفرض إعادة توزيع "الثروة" والتكوين المجتمعي بهدف تجاوز هذا الحرمان.

وهنا ليس الطائفي هو المحرّك لكل ذلك بل البيئة، كما في كل البلدان الأخرى التي شهدت حالات مشابهة من التغيير، حيث كانت الفئات الريفية المهمشة تحاول تعديل الوضع من خلال السلطة، رغم أن المصير لم يكن موفقاً نتيجة استئثار فئة من الطائفة (أو المنطقة) بالثروة واستمرار تهميش المنطقة. كما نلمس في الساحل، الذي ظل مفقراً وقليل الخدمات ومهمشاً، وبالتالي يستخدم كل ذلك لتوظيف الشباب كأدوات قمع بيد السلطة. فقد نهبت فئات من "الطائفة" (من العائلة الحاكمة، ومن حاشيتها وأدواتها) لتصبح من "رجال الأعمال الجدد" بينما ظلت الطائفة مفقرة ودون خدمات. كيف نفسّر ذلك؟

لم يجرِ البحث في هذه المسألة، حيث ظل التوصيف الشكلي هو الحاكم. فقد كانت تفسّر كل تلك الممارسات من قبل السلطة انطلاقاً من أنها مؤسسة وفق منظور طائفي. حيث أن نسبة "العلويين" تتزايد في وظائف الدولة والبعثات، وفي "التحيّز الأدبي"، ولا شك في أن كل هذه الممارسات كانت توجد حساسيات "شعبية"، بمعنى نشوء حساسيات في البيئات التي تلحظ هذه الممارسات، والأكبر فيها لدى النخب. وربما كانت تفضي إلى ردود فعل "شعبية" في المؤسسات التي تمارس فيها، و"شعبية" هنا تعني الحيّز الذي تجري فيه، لكن هل يمكن أن نستنتج أنها نتاج "عصبية طائفية" لدى السلطة؟

في كل الأحوال كانت هذه النظرة تحكم بعض نخب المعارضة، لكن لم تكن "عميقة الجذور" في المجتمع، بل ظلت سطحية و"محلية" كما أشرنا للتو، وتظهر في كثير من الأحيان كتبرير لتنافس وظيفي أو "أدبي"، أو تفسّر طائفياً نتيجة ذلك التنافس. فالتفضيلات تحال إلى الطائفية وليس إلى القرابة أو الطابع المناطقي، أو حتى شعور التهميش التاريخي. ورغم كل "الطنين" بالديمقراطية الذي حكم المعارضة في مواجهة السلطة الاستبدادية الشمولية، ظل التفسير منحكماً للمنظور الطائفي، النافي أصلاً للديمقراطية.

نلخص إذن، بأن المركزة التي أوجدتها الدولة فرضت الاختلاط بين فئات المجتمع، وكانت تؤسس لنمو وعي مجتمعي يتجاوز الانقسامات السابقة، رغم بعض الحساسيات التي تظهر في سياق تحقيق ذلك. وهذا أمر يتعلق بتكوين دولة ممركزة وتشكيل مجتمعي على أسس اقتصادية جديدة، وليس نتيجة نوايا السلطة. وحيث كان الصراع ضد السلطة يتأسس، أولاً، على مواجهة الاستبداد من أجل الديمقراطية، وهذا ما حكم نضال أحزاب المعارضة "الديمقراطية" منذ سنة 1980 على الأقل، وتصاعد في "ربيع دمشق" بعد استلام بشار الأسد السلطة. وحيث كان الطموح هو "الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية". لكن كان، ثانياً، يتصاعد شعبياً بعد تحقيق اللبرلة، وحالة الانهيار المعيشي التي طالت كتلة كبيرة من الشعب (ربما 80%)، وكان يهدف إلى "تحسين الوضع المعيشي"، رغم أن استبدادية السلطة لم تجعل الطبقات المفقرة تنزع إلى التعبير عن مطالبها سوى في شكل ضعيف. لهذا كانت مطالب الثورة هي الحرية والديمقراطية وتحسين الوضع المعيشي بعد أن تمركزت الثروة بيد أقلية عائلية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد