الثورة والمسألة الطائفية:
إذا كان لدى بعض النخب والأحزاب هواجس حول طائفية السلطة فقد ظهر منذ بداية الثورة أنّ الشباب الذي لعب دوراً مهماً في إطلاقها لم يكن كذلك، حيث أن"المحركين الأولين" لم يلتفتوا إلى الطائفة والطائفية بل طالبوا بالحرية، وكانوا من "كل الطوائف". هذه النخب الجديدة كانت قد تجاوزت المنظور الطائفي، والهواجس الطائفية، التي سكنت بعض أطراف المعارضة، وهي تسعى إلى تحقيق الحرية. وكان تأثيرها واضحاً في الأشهر الست الأولى (وربما بعد ذلك أيضاً إلى عام من الثورة)، لهذا كان ردها على خطاب السلطة الاتهامي بأن الثورة "سنية" و"إخوانية" هو "لا سلفية ولا إخوان الثورة ثورة شبان". فهي نخب من الأطباء والمهندسين والمحامين والصحفيين والأساتذة مختلطة "طائفياً ودينياً"، حيث عاشت مراحل حياتها في هذا التشابك دون التفات إلى تمييز، التمييز الذي كان يعتبر تبعية للسلطة.
هذا ما كان يظهر في التظاهرات في الفترة الأولى من الثورة، لكن كان هناك ميل لدى طرفين لتكريس "طابع ديني" للثورة، أولاً السلطة التي كانت تعرف بأن الشعب سوف "يحتل الساحات" في كل المناطق فأرادت أن تقسمه بين "أغلبية" (هم السنة) و"أقليات" (العلويون والدروز والمسيحيون والإسماعيليون)، لكي تظهر كحامي لهذه الأقليات من السلفية التي تزحف للسيطرة على السلطة، والأخوان القادمون للانتقام مما حدث لهم سنوات 1980/1982، وهنا ضد العلويين تحديداً، المتهمين بأنهم من "ارتكب المجازر" بحقهم (مجزرة حماة سنة 1982). وكان هدف السلطة هو بالأساس تخويف العلويين لكي لا ينضوو في الثورة فتخسر السلطة البيئة التي شكّلت منها "بنيتها الصلبة" (أي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والمخابرات الجوية وعديد من الفروع الأمنية). حيث اعتقدت بأن تحقيقها الانقسام بين "الأغلبية" و"الأقليات" مع ضمان تماسك "بنيتها الصلبة" أنها قادرة على سحق الثورة. ولهذا لعبت بالمسألة الطائفية لتخويف العلويين خصوصاً والأقليات عموماً، وحتى العلمانيين. هذا ما جعل خطابها منذ اللحظة الأولى يركز على المجموعات السلفية والعصابات المسلحة، وعلى دور الإخوان المسلمين فيما يجري.
وثانياً، جماعة الإخوان المسلمين والنخب التي أشرت إليها قبلاً التي كانت ترى النظام كنظام يمثّل العلويين. ولا شك في أن وجود الإخوان المسلمين في الخارج كان يجعل خطابهم يميل إلى سبغ الثورة بطابع "إسلامي" لتأكيد حضورهم أولاً، ثم للعمل من أجل قيادتها ثانياً. ولهذا عملت صفحات كثيرة لأعضاء الجماعة على إظهار الموقف الطائفي، وظهر العديد من المعارضين يكرر موقفاً طائفياً. لكن ربما الأهم هنا هو أن الفضائيات الخليجية عملت على تعميم صورة "إسلامية" للثورة عبر "تزوير" في شعارات التظاهرات من خلال أفراد "مشاركين". كما سعت دول خليجية، خصوصاً السعودية إلى مقاربة خطاب السلطة، فعملت على ما يُظهر صحته، أولاً عبر إظهار أفراد طائفيين كممثلين للثورة (عدنان العرعور"، ثم عبر "شراء" الكتائب المسلحة وفرض أسلمة أسماءها أولاً، ثم بالتالي أسلمتها. ويمكن القول بأن هدف "أصدقاء سورية" كان أسلمة الثورة وليس انتصارها، في سياق العمل الجدي لتخريبها وتحويل الصراع إلى صراع طائفي.
كل ذلك قاد إلى "خوف أقلوي"، خصوصاً لدى العلويين، وميل بالتالي للتمسك بالسلطة كحامية لهم، هذا من طرف، ومن طرف آخر تعميم السلفية على الكتائب المسلحة، وتعزيز المجموعات "السلفية الجهادية". هذا الوضع هو الذي بات يُعتبر التعبير عن "الانقسام الطائفي"، وحتى الصراع الطائفي، و"الحرب الأهلية". وهو الوضع الذي بات يطرح السؤال حول مستقبل سورية كلها.
ففي مواجهة العلويين جرت استعادة لمجازر حماة سنوات 1980/1982 على أساس أنها من فعل العلويين، وبالتالي فإن الإخوان المسلمين يريدون الانتقام، وهذا ما كان يعززه خطاب إخواني على مواقع النت، وهو الخطاب الذي أنتج شعار "بدنا نبيد العلوية"، وردده كثير من شباب الإخوان في الخارج. كما جرت استعادة وضع العراق بعد الاحتلال الأميركي، وكيف أدى إلى حروب طائفية وقتل ودمار، خصوصاً كذلك أن أطراف المعارضة الخارجية كانت تدعو علناً لتدخل أميركي من أجل إسقاط النظام كما جرى في العراق ثم في ليبيا. وتكفي فتاوى العرعور ضد الروافض الشيعة والنصيرية لكي تؤلِّب على الثورة بعد أن أصبحت صوره تُرفع في التظاهرات. ونتيجة كل ذلك انساق قطاع كبير من العلويين خلف السلطة حتى "دون تفكير"، وبدو في موقف الدفاع حتى وهم لا ينظرون للسلطة كحامي. خصوصاً بعد "المجازر" التي ارتكبتها السلطة في حمص من أجل تسعير الصراع الطائفي، وشدّ العلويين خلفها، مع دفع "السنة" للتقوقع الطائفي.
في المقابل مارست السلطة كل أشكال العنف والوحشية ضد المتظاهرين وعائلاتهم، فقتلت وانتهكت وأهانت بشكل فظيع. وإذا كانت ردود المتظاهرين في المراحل الأولى تتسم برفض الانجرار لهذا المنزلق، حيث كررت شعارات مثل "لا سلفية ولا إخوان الثورة ثورة شبان"، وعاندوا من أجل إظهار الطابع المدني للثورة في مواجهة سلطة تسعى لتفجير الصراع الطائفي، فقد أدت الوحشية إلى الانقلاب إلى تبني خطاب السلطة عملياً، أي الميل للتدين والأسلمة، خصوصاً بعد تصاعد الموت وفظاعته. هذا المسألة التي ارتبطت بالانتقال إلى السلاح، أدت إلى بدء تأثير "الخارج" في وضعية الكتائب المسلحة، والدفع نحو أسلمتها، و"سلفنتها"، ووضعها في حالة تفرض عليها الالتحاق بالقوى السلفية، و"السلفية الجهادية" نتيجة نقص المال والسلاح. لكن في الواقع باتت بعض البيئات تميل إلى "التطرف الديني"، والى النظر للصراع كصراع ضد "النصيرية".
بهذا يمكن القول بأن شكل تمظهر الصراع قد أخذ منحى "طائفياً" في صيغة ما، خصوصاً من قبل القوى السلفية بشقيها، ولدى بعض الفئات العلوية. لكن دون أن يفقد الصراع طابعة كثورة ضد سلطة مستبدة ونهّابة.
الآن يمكن التوصيف كالتالي:
هناك ميل طائفي لدى قطاعات شعبية فرضته وحشية السلطة، ودعم قوى طائفية "شيعية" للسلطة (إيران وحزب الله والميليشيا العراقية التي لا تختلف عن داعش أو النصرة أو جيش الإسلام أو أحرار الشام،،،،،). وهناك قوى طائفية مسلحة، من داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام وغيرها، إلى حزب الله وفيلق بدر وكتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وحزب الله العراق، والحرس الثوري، وكثير من المتشيعين من باكستان وأفغانستان وغيرها. لكن لا بد من ملاحظة أن "حكم" هذه القوى يدفع إلى الرفض نتيجة أنه لا يتوافق مع "الوعي المجتمعي"، حتى الديني منه، لهذا سيكون من المؤمّل أن يتصاعد التناقض ضد "الدولة الدينية" التي تفرضها هذه القوى، حتى وإنْ تم ذلك تحت عنوان الصراع مع السلطة، وهو الأمر الذي سيدفع إلى تجاوز التعصّب، ورفض هذا الشكل من "الدين" الشكلي المتعصِّب والمتخلف. مما يجعلنا نتوقع أن المسار الممكن في هذا المجال يتأسس على الابتعاد عن التعصّب الطائفي لدى كل القطاعات المجتمعية التي لمست لوعة "سلطة الدين". وإذا كانت سلطة الأصولية الآن في ظل الفوضى القائمة، وعجز الكتائب المسلحة وقوى الثورة عن تأمين المناطق التي خرجت من تحت سلطة النظام، وإذا كانت الأموال التي تمتلكها تسمح بتوظيف لقطاعات كذلك، والعنف الذي يفرض التزام المنطق الأصولي المتطرف، فإن كل ذلك يختزن رفضاً سيتوضّح في سياق الصراع، ويكون أساس الميل العلماني. إن التخلّف الذي يفرض انخراط فئات خلف الأصولية، والخوف الذي يجعل قطاعات أخرى تلتزم السستم الذي تفرضه، لن يدوم طويلاً لأنه في الواقع يؤسس لحالة متصاعدة من الرفض "الداخلي" سرعان ما يمكن أن تتفجّر ضد القوى الأصولية وسلطتها وممارساتها.
هنا الشعب يستخلص نتائج واضحة، هي أن التزام الدين لا يعني التزام سلطة دينية وقبول ممارساتها ومنطقها. ولهذا فإن التفكير بما هو مستقبلي يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة وليس من التفكك القائم، أو الصورة التي تنقل عن الواقع القائم. يجب أن ينطلق من الأثر الذي يحدثه وجود سلطة أصولية، وهي في غاية التعصّب والبدائية والشكلية، في مجتمع ينزع إلى التحرر والتطور والحداثة.
في المقابل سنلمس أن "التماسك خلف السلطة"، الذي نتج عن الخوف من الآخر "السلفي"، والذي تناولناه قبلاً، ينهار أمام تصاعد موجات القتلى من الطائفة العلوية، التي جرى استخدام الكثير من شبابها كأداة قمع وتدمير مجتمعي تحت حجة خطر السلفية. حيث أظهرت مسارات الصراع أن السلطة لا تسأل عن حجم المعاناة التي تظهر في الساحل السوري، وأنها معنية فقط ببقاء سلطتها وتحكمها بالاقتصاد، ونهب البلد. وهو الأمر الذي سيفرض فك العلاقة التي بُنيت على الخوف مع السلطة، والتمرُّد عليها. وهو ما يسهّل عملية الانخراط في موقف مضاد للسلطة، لكنه يفرض النظر إلى الآخر ليس من منظار سلطوي كما حدث في السنوات السابقة بل من منظار التضاد مع السلطة التي تضحي بكل شيء من أجل الاستمرار.
هذه جملة عناصر يجب أن تُحسب بدقة، بالضبط لأنها ما يشكّل الأساس الذي سوف يفرز المستقبل. فالأهم هنا هو "الوعي المجتمعي" الذي سينتج عن كل هذه التجربة بكل آلامها، والذي سوف ينحكم لمطالب الشعب الأساسية أولاً، أي لمطالب العمل والأجر والحاجة لنمط اقتصادي آخر، ولكن، ثانياً، لما تفرزه التجربة من تلمسات، هي كما أشرنا مضادة للتعصّب الديني والطائفي، وتلمس الحاجة للتعايش، وتركيز الصراع ضد السلطة التي دفعت إلى كل ما جرى.
خيارات الحل:
لقد دفعت قوى إقليمية ودولية بأعداد "كبيرة" من "الجهاديين" إلى سورية، كما دفعت السلطة لكي تمارس كل وحشيتها، وهدفت إلى ما هدفت السلطة إلية، أي إظهار الصراع كصراع طائفي، وتعزيز الميل لافتعال شرخ مجتمعي يقوم على أساس الدين والطائفة. وإذا كان الهدف من كل ذلك هو إجهاض الثورة فإن الوضع على ضوء ما تبلور واقعياً يفرض السؤال عن المآل الممكن، خصوصاً هنا على صعيد "التعايش الطائفي"، أو "استمرار النزاع الطائفي"، أو حتى، كما يعتقد البعض، الوصول إلى التقسيم.
ما أردت تبيانه في الفقرة السابقة هو أن الواقع لم يؤسس تكتلات طائفية متضادة، حيث أدخل شكل الصراع المجتمع في تناقض مع القوى التي من المفترض أن يلتفّ حولها انطلاقاً من منظور "إنتماء طائفي". فـ "السنة" في تناقض مع المجموعات السلفية "الجهادية"، وكل المجموعات التي تحاول فرض "الشريعة" من منظور سلفي. و"العلويون" انتبهوا إلى أن السلطة تستخدمهم في صراع من أجل الحفاظ على سلطة ليست لهم أصلاً، ولم تقدّم لهم سوى التهميش وسيطرة الشبيحة. وبالتالي بات من الممكن أن يعاد ترتيب الصراع على أسس مختلفة غير طائفية، وغير "دينية"، وتنطلق من إسقاط النظام وتحقيق مطالب الشعب عموماً. وهذه مهمة واقعية لا بد من القيام بها، لكن لا بد من لمس شكل الحل الذي يُطرح من قبل القوى الإقليمية والدولية التي باتت هي وحدها الآن من يستطيع تحقيق حل في حال توافقت. وأقصد هنا أميركا وروسيا كطرفين دوليين، وإيران والسعودية كطرفين إقليميين، فهذه القوى هي التي تتحكم في الصراع الآن، ويمكن لتفاهمها أن يفرض حلاً.
ولا شك في أن مبادئ جنيف1 ما زالت هي الأساس، وإذا كان الخلاف يتمحور حول بقاء أو رحيل الأسد، فإن الأمر الذي يخص المسألة الطائفية يتعلق بصيغة تشكيل الهيئة الانتقالية، والمنظور الذي يحكم كل طرف فيما يتعلق بأساس الحل. بمعنى هل يجري الانطلاق من تشكيل هيئة هي تمثيل لطوائف، وتخضع للمحاصصة الطائفية (كما حدث في العراق، وقبله في لبنان) أو يجري تمثيل أطراف في السلطة وأطراف في المعارضة بعيداً عن المنظور الطائفي للمجتمع وللصراع؟
فإذا جرى الانطلاق في الحل من المحاصصة الطائفية كما ترغب أميركا والسعودية، وينشط بعض المعارضين لمأسسة الطوائف في هيئات كمقدمة لمشاركتها في الحل، سيجري العمل على تعميق التشقق الذي حدث، والذي بات من الممكن ردمه بعد أن بات التناقض واضحاً بين الشعب والتمثيلات السياسية القائمة (القوى السلفية لدى السنة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، والسلطة لدى العلويين)، من خلال تشكيل سلطة قائمة على أساس تمثيل طائفي، وهي المقدمة لفرز المجتمع إلى تكتلات طائفية متنافسة وكذلك متصارعة، على السيطرة في الدولة كما على الاستحواذ على المصالح. هنا سنلمس أن شكل "الدولة الجديدة" سيلعب دوراً في تجاوز التشققات التي حدثت والتي أشرت إليها قبلاً أو استمرارها و"مأسستها" أملاً في تعميقها. بالتالي لا بد من رفض كل ميل لتأسيس سلطة جديدة قائمة على أساس محاصصة طائفية، ورفض كل فرز على أساس الطوائف.
ما حاولت الوصول إليه هو باختصار أن الواقع رغم ما حدث لا يحتمل التأسيس على أساس منظور طائفي، وأن الأمر أبعد من شكل السلطة الجديدة التي هي نتاج بنى قائمة، حيث أن المطلوب هو حل مشكلات مجتمعية كبرت بعد الثورة رغم أنها كانت في أساس الثورة، وهو الأمر الذي سيعمل على "تصحيح" مسار الثورة في مرحلة قادمة رغم كل التدخلات الخارجية التي أرادت تشويهها، ورغم ميل السلطة لتشويهها، والآثار التي نتجت في المجتمع نتيجة ذلك.