تعددت في الأشهر الأخيرة من السنة المنصرمة المبادرات الدبلوماسية والمخابراتية والبحثية والاجتهادية والشخصية من كل حدب وصوب فيما يخص المقتلة السورية. وسعت في جلّها إلى إيجاد السبل لوقف القتل والخروج من نفقٍ مظلم المعالم وملوّث المكونات امتد بكارثة الشعب السوري دون هوادة ودون رأفة انسانية أو دينية او حضارية أو حتى مصلحية.وبالتأكيد، تختلف هذه المبادرات في مصادرها وفي منابعها وفي أساليبها وفي مقاصدها وفي طريقة التعبير عنها وفي طريقة إيصالها وتوصيلها ونشرها. ومن الواضح أنه ما زالت جعبة "بابا نويل" المبادرات مليئة وأن منها الكثير ممن لم تُكشف عنه قبعة الإخفاء، حيث ما زال "ينضج" أو "يفسد" في أروقة مظلمة أو أدراج مهملة. وبالمجمل، تعتبر المبادرة في أي أمرٍ هي فعل محمود. وعندما تكون المبادرة تسعى الى وقف العنف والقتل والدمار، فهي عملٌ لا يمكن إلا أن يحظى بالثناء وبالتقدير مهما كانت نقاط ضعفه واضحة وسذاجته صارخة وقصوره مزمن وتطبيقه غير ممكن وطرحه مؤلم.
في هذا الإطار، تصدّت بعض المجموعات البحثية والمؤسسات الحوارية ومختصو حل النزاعات إلى عصف الأذهان ومراجعة التجارب وتقريب الوجهات واجتراع السيناريوهات واقتراح الحلول. ومن المؤكد بأن الكثير من المشاريع قامت على قواعد علمية ثابتة تؤطّر العمل في هذه الحقول. وبالتالي، فمن المغالاة نقد المنهجية كما يحلو للكثير ممن لا يريد الخوض في المضمون سعياً الى تسجيل موقف ما. ومقترحات مركز كارتر تستند الى خبرة عميقة في العمل النظري والميداني في الحقل المُعالج على الرغم من سوء تحرير النسخة العربية التي أتيح لي الاطلاع عليها. وبعيداً عن المنهجية وعن الشكل، يبقى ما يهم السوريين أولاً ومن يسعى قلباً وقالباً إلى التخفيف من معاناتهم ثانياً، هو مضمون ما توصل اليه فريق العمل على هذه الوثيقة.
ومن خلال لغة مؤسساتية مبسترة معتادة تحاول قدر الإمكان الوقوف على الحياد الإيجابي تجاه "الأطراف المتصارعة" في المقتلة السورية، تعالج الورقة احتمالات ثلاث يبدو أن اجماع من جرت محادثتهم طوال فترة التنفيذ قد دار حولها او اقترب من محاورها. وهي قد حصرت الاحتمالات بالعملية الدستورية المؤّهلة لمسار انتقالي بأقل الخسائر نظرياً. وقد أتى كل ما عدا ذلك ضمن هذه المحاور "الدستورية" المقترحة أو المتشاور عليها.
ففي اقتراح أول، يمكن اعتبار الإبقاء على دستور 2012 "الإصلاحي" هو الصيغة التوافقية الأمثل إن جرت لقاءات موسكو المرتقبة بين معارضة نظامية أو فردية أو مشتتة من جهة، ونظام لن يُمثّله سوى تكنوقراط لا ناقة لهم ولا بعير لا في القرار ولا في الفرار. ومن خلال هذه الصيغة، يمكن العودة الى الحديث عن "إصلاحات" تجميلية مع أسوأ المواد الإيرانية والروسية الداخلة في تركيبتها. حيث يُمكّن هذا التوجه من إيجاد مخرج تقني للنظام القائم يستطيع من خلاله إيجاد فجوة مناسبة يُعيد من خلالها التسرّب إلى مقدمة المشهد بمساعدة كاتب سيناريو روسي ومخرج إيراني يسعيان الى انقاذ ما يمكن انقاذه من فصول مسرحيتهما بمعزل عن "أبطالها" من النظام، وجمهورها الضحية بمئات الألوف.
الحل الثاني المقترح هو اعلان دستوري أو دستور مؤقّت، وهو الأكثر رواجاً في مسارات العمليات الانتقالية في عديد من التجارب. وفي هذا الإطار، يبدو إيجابيا للغاية أن التقرير يستند إلى سرد تجارب قامت في أماكن متعددة من العالم في إطار التحولات السياسية، مركّزاً بالطبع على ما كان سبق للقائمين عليه من خبراء واستشاريين أن انغمسوا فيه. ويمكن اعتبار الاعلان الدستوري أو الدستور المؤقت أو الوثيقة الدستورية المؤقتة أو حتى الترتيبات الدستورية المؤقتة، ناتجين عن سيناريوهات حلول برعاية (أو حتى ضغط مباشر عسكري وسياسي) دولية.
أما الحل الثالث، فهو العودة إلى دستور 1950 الذي يعتبره السوريون الأكثر تعبيراً عن تطلعاتهم كونه نجم عن توافق ديمقراطي نادر بين مكونات المجتمع الفكرية والدينية والمذهبية المختلفة وفي ظل نظام ديمقراطي نسبي عرفته سوريا لفترة وجيزة سرعان ما تم اجهاضه. وبصورة مستغربة بعض الشيء، تستبعد الوثيقة الاعتماد على هذا الدستور كمرجعية جامعة وتعتبر أنه قد تم تجاوزه زمنياً وعملياً. وهو ما ينعكس في النص على أنه اجماع من تمت مقابلتهم من السوريين والممثلين عن توجهات متعددة على الرغم من أن وثائق سابقة أو تصريحات مختلفة أشارت الى التلاقي الأعم حول دستور 1950 لدى غالبية معتبرة من النخبة السياسية والفكرية السورية. مع الإشارة حتماً إلى أن الرجوع هذا مشروط بكونه مؤقت ومرحلي. أي أنه من الضرورة للدولة القادمة أن تعمل على صياغة دستور جديد مختلف. إن الاستناد إلى هذه الصيغة المؤقتة، يمكن أن يساعد على تعجيل عملية الاجماع على التبني، وهي ستكون من أصعب مهام القائمين على المسار الانتقالي.
إن في تحديد وتحليل التحولات السياسية يكون دائماً من الإيجابي التطرّق إلى نماذج سبق وطبقت للاستفادة من هفواتها وتجنب زلاّتها والسعي إلى تكرار نجاحاتها. وفي إطار هذا المقترح، يمكن الاستناد الى تجارب عديدة والاستفادة منها ولكن لا يجب الوقوع في فخ الفاشل منها واعتبارها ناجحة كما يحلو أحياناً للداعم الأوروبي القول، كأن تُعتبر تجربة اتفاقية دايتون مثالاً يحتذى به مثلاً، وهي التي أدارت نتائج المأساة البوسنية دون أن توجد لها الحلول.
جهد نظري استند الى تجارب عملية ولقاءات معايير انتقاء مستهدفيها غير واضحة ، أدى إلى وثيقة مساعدة على تحديد خطوط عريضة (جداً) لفهم المسارات المحتملة. وشابت العبارات المبسترة، تعابير مبهمة لم يكن توضيح معانيها ليُحمّل صانعي الوثيقة أية مسؤولية سياسية، كأن يتم الحديث عن "تخريب جهود المبعوث الأممي" دون الإشارة إلى حيثيات هذا "التخريب" ومن هم غالباً القائمين عليه. وكذلك، يبدو للقارئ المطلع على المشهد السياسي السوري منذ 1970 أن الحديث عن "الهيمنة المؤسساتية الطاغية لرئاسة الجمهورية" هو هروب من التحليل الدقيق لطبيعة النظام السياسي السوري. فالقول بهيمنة مؤسسة الرئاسة يُشير إما إلى جهل كامل بالطبيعة الأمنوقراطية للنظام القائم، المتجاوزة حتما لمفهوم المؤسسة والمتخطية عملياً لمفهوم رئاسة الجمهورية التقليدي، أو أنها محاولة للابتعاد عن بؤر الاشتعال والسعي الى ملامسة المشهد السوري بأقل ما يمكن من الانخراط في مسارات اتخاذ المواقف.
وكما تم التأكيد في مقدمته، يقتصر هذا التقرير على استعراض الخيارات الدستورية والتشريعية لعملية الانتقال السياسي بعيداً عن محاولة فهم أو تحليل المشهد ومسببات مآسيه وتداعياتها. وهذا ليس بالضرورة مطلوباً من أعمال مماثلة. ولكن من الضرورة في أي عمل جدي، الإحاطة بالموضوع المراد تقديم الحلول له. وهذه الإحاطة لا تكفي بأن تكون في النيّات أو في المسودات. كما أنها لا تقلل من موضوعية الوثيقة إن هي استعرضت، دون تقييم، أهم المحطات المؤسسة لأسطورة الدولة السورية الحديثة.
ما غاب عن التقرير هو أن مسار العملية يعتبر الأمر الأهم في صياغة أي نص دستوري. والدساتير ليست مقدسة ويمكن تعديلها بقدر الحاجة الى ذلك، فالبرازيل عدلت دستورها اكثر من 78 مرة منذ نهاية حقبة الديكتاتورية العسكرية فيها. كما أن المشاركة المجتمعية في صياغة ونقاش المحتوى هي أهم أحياناً من النص القانوني الوارد بحد ذاته. ومن خلال استعراض التجارب العديدة التي تلت انهيار أو زوال أو اندثار الدكتاتوريات من اسبانيا الى تركيا مروراً بالبرتغال والبرازيل، يتبين لنا بأن هذا المسار، وهو جزء من الحلم الإنساني، لعب الدور الأساسي.
ختاماً، من الممكن اعتبار الصيغ المبسترة مفيدة للمراكز البحثية أو للمؤتمرات العلمية أو للاسترشاد بالنسبة لموظفين أممين غير معنيين لا جغرافيا ولا عاطفياً، ولا حتى أخلاقياً، بموضوع نشاطهم المباشر. وفي هذا دلالة على أن العمل ما زال قائماً على استنباط الصيغ والحلول، وهو في حد ذاته مؤشّر إيجابي.