نتحدث عن "دولة الخلافة" كونها تجاوزت مفهوم التنظيم وانتقلت إلى "الدولة"، فلم يعد ثمة مقارنة بينها وبين التنظيمات الإسلامية الأخرى في سوريا، كـ"جبهة النصرة" أو "جيش الإسلام"، إذ أن مشروعها لا يقتصر على الجهاد بل تهدف بالدرجة الأولى إلى تطبيق "الشريعة الإسلامية" على الأرض التي تقع تحت سيطرتها.
منذ الإعلان عنها في 29 يونيو/ حزيران 2014، تتزايد أعداد السوريين المبايعين لهذه "الدولة"، بعضهم كان من الفاعلين في بدايات الحراك السلمي ضد نظام البعث، وبعضهم كان مقاتلاً في إحدى التنظيمات الجهادية. لا توجد إحصائية دقيقة لعدد المنضمين إليها من عامة الشعب السوري، لكن مجموعة من المؤشرات تؤكد أن "الدولة" أصبحت جزءاً من حياة السوريين في عدد من المدن السورية، بالمقابل نجد رفضاً عالمياً على المستوى السياسي لوجودها، وتحالفاً عسكرياً لاستئصالها. كل ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن مصير هذه "الدولة" التي تسيطر حتى الآن على 35% من الأرض السورية، بناء على مرجعياتها الدينية، إستراتيجيتها، إمكانياتها الراهنة، وردود أفعال السوريين على وجودها، هل ستكون جزءاً من مستقبل سوريا؟ أم أنها في طريقها إلى التفكك والزوال؟.
ثمة اختلافات اجتماعية وجيوسياسية بين المناطق لا تسمح لنا بأن ننظر إلى مستقبل هذه "الدولة" من منظار واحد على كافة الأراضي السورية، ففي حين نرى أن "تطبيق الشريعة" شديد الصعوبة في محافظات متنوعة الانتماءات الدينية والعرقية أو ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى النظام: ريف دمشق، حمص، طرطوس، نجده مستساغاً في المناطق التي تحوي إرثاً إسلامياً "سنياً" مغلقاً، "عشائرياً" على الأغلب، لا سيما في الأرياف، على سبيل المثال، كانت القرى والمدن التابعة لدير الزور، "موحسن" و"البوليل" و"البوعمر"، من أول المناطق التي دخلتها "داعش"، ليس لسهولة السيطرة عليها عسكرياً فقط، بل لعثوره على نوع من الحاضنة الشعبية أيضاً، وهي أحد الأسباب التي تفسر عدم قيام انتفاضة شعبية تطالب بإسقاطه، حتى تلك المظاهرات التي خرجت في مدينة "الرقة" (عاصمة دولة الخلافة)، كانت تطالب غالباً بالإفراج عن المعتقلين وليس إسقاط "الدولة"، ومع الوقت أصبحت ممارسات "داعش" أمراً واقعاً بالنسبة إلى السوريين القاطنين في حدودها، فعمليات الإعدام يشاهدها الناس ومنهم الأطفال حدثاً شبه يومي، كما نلاحظ في الفيديوهات التي يبثها التنظيم، أما المحاكم الشرعية والمناهج الإسلامية واللباس الشرعي فقد أصبحت أموراً اعتيادية.
من جانب آخر، لا تنفصل المرجعية الدينية التي تعتمدها هذه الدولة عن ما كان يُدرَّس في المناهج الشرعية السورية، أكثرها شهرة الحديث الذي رواه "أحمد" في مسنده، والذي ينتهي بعبارة "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، وبسبب السلوك التبشيري الذي تنتهجه "الدولة"، والمرتبط بحلم "إعادة الخلافة" الذي يراود عموم المسلمين–والسوريين ضمناً-منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1922، إضافة إلى خيبة الأمل التي أصابت النشطاء السوريين من المجلس الوطني ثم الائتلاف والوعود الدولية الوهمية بإسقاط النظام؛ فإن كثيراً منهم وجد نفسه أمام خيارين: الانسحاب أو مبايعة "دولة الخلافة".
ومن خلال تتبع صفحات هؤلاء "النشطاء" نرى أن غايتهم لم تعد "إسقاط النظام"، بل إقامة الخلافة العالمية، ما يعني أن انتماءهم لم يعد إلى سوريا، كما أن تخليهم عن التنظيم لا يبدو مسألة محتملة، لقوته ومرجعيته العقائدية من جهة، واستمرار فشل المعارضة السياسية من جهة أخرى.
لكن أكثر ما يحدد مصير "دولة الخلافة" في سوريا هو مصير نظام البعث، فاليوم نرى أن ثمة توازن قوى مفتعل ينم عن اتفاق غير معلن بينهما، سواء من الناحية العسكرية أو الجغرافية، من الملاحظ أن "داعش" ليست لديه مصلحة في التوغل إلى عمق النظام، فهو ليس عدوه الأول، أما النظام فقد قام من جانبه بالتساهل في منح "داعش" عدة مناطق مهمة دون أن يرسل المزيد من التعزيزات لاسترجاعها، منها مطار "الطبقة" في مدينة "الرقة"، إضافة إلى شراء النظام للنفط من "داعش" حسبما أعلن "ديفيد كوين" وزير الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب، وتمثل مدينة "حلب" نموذجاً واضحاً لهذا الاتفاق، ففي بدايات عام 2014 اقتحمت قوات النظام الفئة الثانية من "المدينة الصناعية" بالتزامن مع اقتحام "داعش" للفئة الثالثة من المدينة التي كان يسيطر عليها "الجيش الحر"، علماً أن سقوط "حلب" بيد التنظيم الإرهابي سيحدد مصير "دولة الخلافة" في سوريا بسبب أهميتها الاقتصادية والجغرافية، كما يعني القضاء على آخر معاقل المعارضة المسلحة غير المتطرفة.
التواطؤ بين "النظام" و"داعش" يرادفه تواطؤ دولي على عدم الجدية في محاربة التنظيم، بسبب تضارب المصالح وعدم وجود حل يرضي جميع الأطراف، واستخدام "الدولة" ورقة ضغط بينها، لذلك اقتصرت عمليات التحالف على ضربات جوية غير ناجعة، وبالمقارنة بين هذه الضربات وإمكانيات التنظيم من الغنائم العسكرية والمساحة والتخطيط والإيديولوجيا نستطيع ترجيح بقائه لسنوات طويلة، أما ما يراهن عليه بعض المحللين من حتمية زوال "داعش" بسبب أعماله شديدة التطرف، فإننا نرى عبر التاريخ أن الجريمة كثيراً ما كانت مرافقة لصعود الدول ذات الطابع الإيديولوجي، ويكفي أن نتتبع كيفية نشوء الخلافة وتمددها والحروب التي خاضتها منذ العصر الأول للإسلام لنستنتج أن ما يرتكبه "داعش" اليوم ليس مؤشراً على اقتراب نهايته.
أي حل للأزمة السورية لا بد أن يراعي بالدرجة الأولى القدرات الكبيرة لـ"دولة الخلافة" اليوم، لا سيما في الثلث الشرقي من الأرض السورية، وفي حال تم تفكيك هذه الدولة فسوف تخلِّفُ بؤراً إرهابية في المجتمع السوري، لن تكون بمعزل عن الحكومات التي تحرّك نشاط الإسلام السياسي في سوريا تبعاً لمصالحها، فكافة المؤشرات تدل على أن هذا الكيان لن يزول في المستقبل القريب، وهو يوماً بعد يوم يزداد رسوخاً في المناطق التي يسيطر عليها.