مأساة شارلي تذكر السوريين بمعتقليهم وشهدائهم المنسيين


11 كانون الثاني 2015

ربما بعد الفرنسيين، ليس هناك أحد مثل السوريين يدرك اليوم المعنى العميق لجريمة مقتل الصحفيين الفرنسيين على يد مجرمين ادعوا الدفاع عن الإسلام والانتصار للنبي محمد، ردا على قيام الصحفية بنشر كاريكاتيرات ناقدة، فهم يعانون منذ عام على الأقل من تداعيات صعود "دولة العراق والشام الإسلامية" التي تحكم باسم الإسلام وتقتلهم وتسجنهم وتدمر ثورتهم باسمه، ليصبحوا محشورين بين حجري رحى الاستبداد والإرهاب، الأمر الذي جعل تفاعلهم مع مقتل الصحفيين الفرنسيين كمن يتفاعل مع مأساته، وكأنهم وجدوا في وجوه الضحايا وجوه شهدائهم ومعتقليهم المنسيين في سجون الاستبداد وداعش ( أبو مريم، رزان زيتونة وسمير الخليل، سمر صالح ومحمد العمر...)، حيث قال "نائل الحريري": "نفس الإيد ونفس العقلية بيوم من الأيام فاتت على حلب وقطفت زهرة الشباب الإعلاميين والصحافيين بسوريا، بنفس الحجة وبنفس الفكر. عبد الوهاب الملا... بتعاطف معك بباريس، متل ما تعاطفت معك بحلب"، ليختلط بذلك الحدث الفرنسي في سجالاتهم مع أحداث ثورتهم، إلى درجة أن الفرنسي " Wladimir Glasma" كتب:
"En Syrie aussi, "ils étaient tous Charlie
"في سوريا أيضا.. الجميع كانوا "شارلي"،
وأن البعض الآخر رأى أن ثمة أصابع للنظام السوري في هذا الأمر!، مذكرا بتهديدات الدكتاتور أكثر من مرة، وبما قاله مفتي الجمهورية "بدر الدين حسون" المؤيد للاستبداد والمدافع عنه مرة في سياق رده على الغرب حين هدد بنقل التفجيرات إلى قلب أوربا!

ولم لا، طالما أن الصحيفة لها موقف واضح من الإرهاب الذي يمارسه النظام المستبد بحق شعبه، حيث تناقل السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي، كنوع من التعاطف والتضامن ورد الجميل الكاريكاتير الذي رسمه "تينوس" أحد فناني الجريدة حيث يظهر الدكتاتور، متعيشا على أشلاء سوريا المدمرة، مترافقا مع عبارة "أنا شارلي" المكتوبة على سواد الحداد.

لوحة رسمها الفنان "تينوس" في صحيفة شارلي. وقد تداولها السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي كنوع من التضامن مع الصحيفة. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان فارس الحلو على الفيسبوك
لوحة رسمها الفنان "تينوس" في صحيفة شارلي. وقد تداولها السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي كنوع من التضامن مع الصحيفة. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان فارس الحلو على الفيسبوك

التعاطف الواضح من قبل السوريين مع الصحيفة وما تعرضت له، تخلله اعتراض البعض على الطريقة التي عرضت فيها رسومها، حيث قال ياسر أحمد: " أنا ضد كم الأفواه والتعرض لأي شخص سواء كان رساماً أم صحفياً أو سياسياً بسبب رأيه، وأن تصل إلى حد القتل فهذه جريمة شنعاء بغيضة لا يقبلها أي عاقل على وجه البسيطة. وبنفس الوقت لم أكن مع طريقة تناول هذه الصحيفة للكثير من القضايا وبالأخص التعرض للمقدسات (سواء الإسلامية أو المسيحية) عدا عن الإفراط في تناول الكثير من القضايا من خلال إيحاءات جنسية على هيئة كاريكاتيرات بذيئة"، وهو نفس موقف الكاتب السوري "فاروق مردم بك" إذ قال: " يحقّ لنا أن نُحبّ أو أن نكره مجلّة "شارلي إيبدو" ( لم أكن من المعجبين بها منذ أن طُرد منها كبير رسّامي الكاريكاتور الفرنسيّين، سينيه). و يحقّ لنا أن نستحسن أو أن نستهجن هُزأها بالمقدّسات الدينيّة، و بالأخصّ المُقدّسات الإسلاميّة (و كنت أستهجنه). و لكنّ تبرير الجريمة، صراحةً أو مواربةً، بقلم بعض الصحفيّين العرب، يُثير الاشمئزاز و يؤكّد عمق الأزمة الأخلاقيّة التي نتخبّط فيها. نعم، أنا اليوم "شارلي إيبدو"، و أنا كابو و شارب و فولينسكي و تينيو و برنار ماريس".

بعد التعاطف الأولي برز سجال حاد بين السوريين، بين من اتهم الإسلام الجهادي بأنه يقف خلف الجريمة معتبرا أن بعض نصوصه وإيديولوجياته تحض على العنف، حيث قال الكاتب طارق عزيزة: "لا شيء يمكن أن يخفي عنصريّة وإرهاب إسرائيل وتآمرها، ولا حاجة للتذكير بطبيعة نظام الكارثة المستمرّة في دمشق وارتكاباته. غير أنّ هذا لا يلغي حقيقة الإرهاب الإسلامي السائد حالياً. وأيّاً يكن من يقف وراء عملية باريس الإرهابية ثمّة متّهم جاهز بسبب سلوكه الإرهابي في غير مكان، ونصوصه المقدّسة التي تحضّه على هذا الإرهاب: الإسلام السياسي- الجهادي، ولا فرق إذ لا داعي للتمييز بين الجذع والفرع"، في حين رد بغضب الكاتب "ملاذ الزعبي" على أصحاب هذا الرأي مطلقا سلسلة من الأسئلة، منها: "هل المذبحة التي ارتكبها شبيحة علويون بحق أطفال بلدة الحولة دليل على أن المشكلة بالطائفة العلوية، ونصوصها الدينية؟ ما هو النص الديني الذي اتكأ عليه الجنرال السيسي في مصر لاجتياح ميدان رابعة وقتل المئات من المعتصمين؟ هل اقتحام مسلمين لمقر صحيفة في فرنسا وقتلهم موظفي الصحيفة دون تمييز دليل على أن المشكلة بالإسلام، وبالنص القرآني أو أقوال وأفعال نبي المسلمين؟ هل الجرائم التي ارتكبها النازيون الألمان بحق اليهود دليل على أن المشكلة بالعرق الألماني؟".

لوحة للفنان يوسف عبدلكي تضامنا مع الصحفية. المصدر: صفحة الفن والحرية على الفيسبوك
لوحة للفنان يوسف عبدلكي تضامنا مع الصحفية. المصدر: صفحة الفن والحرية على الفيسبوك

وانتقد البعض الطريقة التي دافع بها البعض عن الإسلام وكأنه متهم، لأن من قام بالفعل من وجهة نظره إرهابي بغض النظر عن انتمائه إلى أي دين، إذ قال "ياسين سويحة": "نبرة موقف الدفاع اللي متخذينها أصدقاء كثيرين تجاه جريمة شارلي إيبدو شنيعة باعتقادي. يعني المهاويس المجرمين اللي اقترفوا الجريمة دواعش. يا عمي دواعش. من هذول اللي لو يمسكوا أي واحد من غالبيتنا يحطوه بماكينة الكبة. ليش لحتى أشعر بالذنب عنه؟ أمثله؟ يمثلني؟ يا عمي هذا عدو وجودي الي! اللي ما قادر يشوف هالفرق من إخواننا الأوروبيين نشرحله ياه، واللي ما حابب يشوف هالفرق (وبصراحة هنا الموضوع الرئيسي أصلاً) بستين جهنم لا يفهمه، من الآخر يعني".

الحدث والسجال قاد إلى منطقة أعمق حيث تساءل البعض عن الطريقة المثلى لمحاربة الإرهاب، حيث رأى البعض أن الاستبداد هو أصل المشكلة ولا بد من إزاحته، حيث قال الكاتب "دلير يوسف": لازم ينقضى على أصل الإرهاب واللي هو الأنظمة الفاشية والاستبدادية. الأنظمة اللي بتخلق من الفقر والجهل جو للتطرف والتعصب. الأنظمة اللي بتستعمل الإرهاب كوسيلة للحفاظ على مصالحها وحقوقها وقوتها. على حساب الفقرا والمستضعفين. وبتدفشون ليصيرو قطيع ما بيقدر يشغّل مخو". في حين رأى البعض الآخر أن النصوص الدينية المحفزة على العنف هي السبب، ولابد من إصلاح ديني يطال النصوص الدينية التي تحض على القتل والعنف، حيث تناقل السوريون عددا كبيرا من أقوال رجال الدين السنة والشيعة التي تحض على العنف، مبينين مدى التناقض في أقوالهما وفي التعاطف الكاذب مع الضحايا، مركزين هجومهما على معقلهما في الرياض وإيران أو أتباعهما، حيث قال "عمر البحرة": "قال حسن نصر الله: إن المتشددين الإسلاميين أساؤوا للإسلام أكثر مما أساءت إليه أي رسوم كاريكاتورية. حسن نصر الله ذات نفسه قال في 2006: لو قتل سلمان رشدي لما تجرأ أحد على إهانة الرسول"، ونشر بذات الوقت صورة لرجل الدين "نايف العجمي" تظهر قولين متناقضين له، إذ يقول في الأول: "هل يستتاب من سب الرسول عليه السلام؟ الذي عليه أكثر الفقهاء أنه لا يستتاب، بل يجب قتله، أما توبته فبينه وبين ربه"، والثاني يقول: "منفذو حادث باريس حمقى، بل مجرمون، أجرموا بقتل الأنفس عدوانا، وأجرموا بتصوير صورة الإسلام، وأجرموا بجلب الأذى للمسلمين في فرنسا بل وفي أوربا".

لوحة للفنان موفق قات تضامنا مع الصحفية وضد الإرهاب. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك
لوحة للفنان موفق قات تضامنا مع الصحفية وضد الإرهاب. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك

البعض ذهب نحو اتهام أجهزة استخبارات تتحكم بمصير العالم، لإبقاء هيمنة الغرب على الشرق قائمة، معتبرا أن المنفذين ليسوا أكثر من أدوات، حيث قال الفنان "وسام الجزائري": "منذ الحرب العالمية الثانية العالم الغربي محكوم بفكرة العدو القادم من الشرق: النازية , الشيوعية , الإشتراكية , المافيا , الجهادية. هي فكرة بتساعد الحكومات الغربية بسيطرة على شعوبها و على منابع النفط. هي فقط بحاجة مجموعة من المجانين، ودائماً بكل دين أو جماعة سياسية هناك مجموعة من المجانين هن بحاجة فقط لتمويل حتى ينشروا الفوضى يلي من خلالها بتكون هي الفوضى الخلاقة يلي قائمة عليها السياسات الغربية منذ سقوط برلين عام 1945 حتى الآن".

خلف هذا السجال، كان الفنانون السوريون كعادتهم يرسمون لوحات متضامنة ومعبّرة عن هول الفجيعة والجريمة، حيث رسم الفنان السوري "يوسف عبدلكي" في لوحة له سهما غادرا يخترق صحفيان، في حين رسم سعد حاجو كاريكاتيرا يمثل أربع صحفيين يرفعون الأقلام التي اتخذت شكل شموع تضامنا، في حين ذهب الفنان "موفق قات" نحو إدانة الإرهاب محاكيا لوحة قديمة للفنان "ناجي العلي".
الإرهاب الممتد من فرنسا إلى سوريا لم يتمكن من قتل حس السخرية لدى السوريين، حيث تناقلوا صورة غرافيتي يقول: "بلشوا يفردوا حواجز بفرنسا. بكرا بس يوقفوا على الحاجز بونسوار ياغالي. كيسكليان ياحبيب.." في سخرية من الحواجز التي نصبها النظام السوري ولا يزال.

لوحة للفنان وسيم الشريف. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك
لوحة للفنان وسيم الشريف. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك

أول سبل القضاء على الإرهاب، يبدأ من نبذه ورفضه وعدم تبريره، وهو ما يعطي الأمل بأنه إلى زوال مهما ضرب، وهو ما عبّرت عنه لوحة الفنان "وسيم الشريف" حين رسم لوحة تظهر رجل متطرف يقطع رأس صحفي فيخرج له اللسان ساخرا، دلالة على أن أصوات الحرية ستبقى مستمرة مهما رفعت بلطات الموت.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد