التحول الأخطر في السنوات الأربع المنصرمة


29 كانون الثاني 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

أربعة أعوام توشك أن تمضي على تلك الحادثة التي ألهبت سوريا، ربما لأول مرة بهذا الشكل في تاريخها الحديث، ضد النظام الديكتاتوري فيها.

أربعة أعوام توشك أن تنقضي بعد أن تجرأ أطفال درعا أن يكتبوا على حائط مدرستهم كلمات أكبر من أعمارهم، وكذلك أكبر من أعمارهم كان رد فعل أجهزة القمع عليهم. بدل أن يعالج الأمر في المدرسة، عولج في فرع الأمن العسكري، وبدل أن يؤنبهم المدير مثلاً ويطالبهم بمحو ما كتبوا كما يمكن أن يتوقع مراقب عادي، جرى اعتقالهم واقتحمت براءتهم كرابيج الجلادين وشتى وسائل تعذيبهم. لنا أن نتخيل موقف التلميذ الذي يخشى مسطرة الموجه، وهو يقف أمام جلادين مهنتهم التعذيب. ولنا أن نتخيل موقف أم أو أب حين يعلم أن طفله معتقل في أحد الفروع الأمنية التي يخشاها السوريون أكثر مما يخشون ملك الموت.

بين ذلك اليوم واليوم، تبدلت أشياء كثيرة تحت الإصرار المتواصل للنظام على تحطيم إرادة السوريين بكل ما أوتي من أسلحة: تسلحت الثورة ثم مالت أكثر فأكثر باتجاه التطرف الإسلامي، تشكلت هياكل سياسية تتكلم باسم الثورة دون أن يكون لها أي دور قيادي، عجزت المعارضة عن توحيد صفها وراحت في طريق التشرذم والاستسلام لإرادات "الداعمين"، برزت لغة وممارسات طائفية على ضفتي الصراع، "تحررت" مناطق ولكن تحت راية سوداء جعلت الناس في حال أسوأ، استخدمت المناطق المحررة كمنصة لإمطار المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام بصواريخ عشوائية تحصد المزيد من أرواح مدنيين أبرياء .. الخ. من جهة النظام حدث تطور غير مسبوق في مدى استخدام الأسلحة ضد المعارضة المسلحة وضد "بيئتها الحاضنة"، المصطلح الذي استخدمه النظام لتبرير قصف المدنيين. في السجون يترك السجناء دون طعام ودون دواء ودون اكتراث لموتهم. هذا التطرف من جهتي الصراع كان سبباً ونتيجة للتحوّل الأهم الذي شهدته السنوات الأربع المنصرمة، أقصد التحول الفاشي على جانبي الصراع، حيث بات جمهور كل معسكر يقبل ويبارك الإجرام الذي يمارسه معسكره.

سعى النظام منذ البداية إلى دفع الثورة باتجاه إسلامي ثم إسلامي متطرف أكثر فأكثر، سواء عبر إطلاق سراح معتقلي القاعدة من سجونه، أو عبر القمع التمييزي الذي حرص على ضرب العناصر العقلانية وتوفير العناصر المتطرفة، أو حتى عبر دعم مادي غير مباشر لأشد هذه التنظيمات الإسلامية تخلفاً، وكان هدفه من ذلك طمس مشروعية الثورة تحت ركام من اللاعقلانية والعنف الاستعراضي العجائبي الذي برعت فيه التنظيمات الإسلامية التي سيطرت على المشهد، ومن وراء هذا الهدف كان غرض النظام تشويه الثورة وبروزه على أنه الخيار الأفضل لأمريكا في سوريا. وقد أنجز النظام الكثير من هذا، على خلفية الضعف الشديد للعناصر الثورية العقلانية وغياب أي داعم لها. لكن ترافق مع هذا "الإنجاز"، تحول في طبيعة علاقة الجمهور مع ممثليه على ضفتي الصراع.

فبطش النظام وتدميره العشوائي للمناطق التي يتواجد فيها مسلحو المعارضة وإغلاقه الباب أمام أي حل سياسي جدي، قاد الناس إلى الالتفاف حول أكثر تشكيلات المعارضة تطرفاً وإلى إلغاء أي مسافة نقدية معها، ما يعني الإيمان بهذه التنظيمات التي تقوم على جمع القوة والعنف المعمم، إلى مختزلات سياسية شديدة البساطة لا تتعدى العداء الجذري "للنظام النصيري" وللعلويين قاطبة، فلا يجرؤ أي علوي، بصرف النظر عن موقفه أو تاريخه السياسي، أن يتواجد في منطقة سيطرتها، مع تطبيق نسخة سطحية ومباشرة عما يسمونه الحكم الإسلامي على شكل "خلافة" أو "إمارة". لتتحوّل هذه التنظيمات إلى بؤر فاشية في مناطق تواجدها. هناك آخر شرير بطبيعته (علوي أو مجوسي أو رافضي ..الخ) والصراع هو للتخلص منه ومن المقبول ممارسة كل عنف في هذه الغاية.

من جهة النظام، أدى بروز هذه التشكيلات الإسلامية العنيفة والمغلقة وإقدامها على ممارسة مشهدية في تطبيق الحدود وفي القتل على أسس طائفية صريحة، إلى دفع الجمهور الموالي ولاسيما العلوي منه إلى المزيد من الالتحاق بالنظام والاندماج مع نظرته للأمور وصولاً إلى قبول جرائمه على أنها "ضرورات وطنية". كل معارضة للنظام ما هي إلا تنويعات متدرجة من العمالة والوهابية والخيانة ..الخ ويجب سحقها. على سبيل المثال يكتب أحد الموالين (وهو يحمل شهادة دكتوراه وشغل يوماً منصب سفير) على صفحته في الفيسبوك: "نعم لمسح دوما عن الخريطة وحرق زملكا وجوبر وحرستا وكل بؤرة عهر. كل خيار متاح ....وكل سلاح مباح".ولا غرابة إذن أن يسمي كل طرف مناطق تواجد أنصار الطرف الآخر بأنها "مستوطنات".

بات النظام اليوم، مثله مثل خصومه، يجمع العنف الرهيب والقمع اللامحدود، إلى مختزلات سياسية تقوم على فكرة المؤامرة وضرب مرتكزاتها (أي ضرب كل شكل من أشكال الاختلاف مع النظام، سواء المتطرف أو المعتدل، السلمي أو المسلح) مع أفق سياسي لا يتجاوزالوعد بالعودة إلى ما كان عليه الحال قبل اندلاع ما يسميه "الأزمة".

في نجاح سعيه ورهانه على التحول الإسلامي المتطرف في الثورة السورية، حقق النظام "نصران"، الأول هو شراء القبول الأمريكي مجدداً، والثاني هو التحول الفاشي. غير أن هذين "النصرين" عنيا هزيمة المجتمع السوري الذي تفكك بما لا يسمح للنظام أن يستثمر "انتصاراته" على كامل الأرض السورية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد