إعادة الإعمار: بين مؤسسات النيوليبرالية والاستبداد


01 شباط 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

الحديث المتواتر عن "إعادة الإعمار" الذي يقفز إلى واجهة الإعلام كل فترة، في الوقت الذي تغرق فيه سوريا يوما بعد يوم في دمائها، بما يعني ذلك تدمير ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، وخاصة العصب الأساس لاقتصادها أي البنية التحتية ( كهرباء، ماء، تعليم، صحة...)، يثير الكثير من الأسئلة والشكوك، خاصة أن من يطرحها متوّرط بطريقة أو بأخرى بكل ما يجري، ونعني بذلك كلا من الدردري والسلطة السورية ممثلة بشخص الدكتاتور الأسد الابن.

الملفت هنا أن الدردري الذي يعتبر مهندس السياسات الاقتصادية في سوريا خلال العقد الأول من حكم الدكتاتور الابن، كان أول من طرح خطة لإعادة إعمار سورية بعد أن غير موقعه من الحكومة السورية إلى مؤسسة الإسكوا، علما أنه راعي التحوّل من الاقتصاد الممسوك من قبل الدولة إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تحوّل بين يديه إلى اقتصاد بخدمة الرأسماليين الجدد في سوريا أو "المئة الكبار" كما يطلق عليهم الباحث محمد جمال باروت، والذي أدت سياساته إلى ما تشهده سوريا اليوم جراء السياسات النيوليبرالية التي سحبت يد الدولة من دعم القطاعات الأساسية التي تمس حياة المواطن السوري، فازداد الغني غنى والفقير فقرا، لتنفجر الثورة في الخامس عشر من آذار، الأمر الذي يطرح سؤالا: ماذا يريد الدردري من إعادة الإعمار، وهو الذي لم تجف يداه من دماء السوريين بعد؟

بعد الدردري كانت السلطة السورية ممثلة بدكتاتورها الأسد ورئيس حكومته وبعض الدائرين في فلكها هم من طرحوا موضوع إعادة الإعمار، سواء عبر ما قاله الدكتاتور لزواره، أو عبر مؤتمر "السوريون يبنون سوريا" الذي نظم بتاريخ 24/11/ 2014، من قبل المؤسسة السورية الدولية للتسويق "سيما" برعاية "وزارة الأشغال العامة" و بالتنسيق مع "اتحاد غرف التجارة السورية" الذي يمثل رأسمالية المدن المستفيدة من الاستبداد، في الوقت الذي لا تزال فيه طائرات النظام ومدافعه تدك المدن والقرى والبلدات التي سيعمرها لاحقا، وسط صمت دولي مريب!؟ لنكون أمام سؤال ثاني: ماذا يريد النظام من طرح هذا الأمر الآن؟

مشروع الدردري واضح الأهداف والملامح، فهو لا يخفي ميله نحو اقتصاد السوق المفتوح وفتح البلاد أمام الاستثمارات الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليكونوا شركاء في إعادة الإعمار بعد أن نجحت خطوته الأولى في إيصال البلد إلى ما وصل إليه، وهو ما نلمحه من استعداد صندوق النقد الدولي للتمويل، حيث قال رئيس إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لدى الصندوق "مسعود أحمد" أن " ان الصندوق يمكن أن يسهم في جهود إعادة إعمار سوريا بعد استقرار الأوضاع، من خلال وضع إطار للاقتصاد الكلي مما يضمن درجة من الاستقرار الكلي، أثناء المضي قدما في جدول أعمال إعادة الإعمار" كما نقلت صحيفة القدس العربي (1)، فأي توزيع أدوار هذا؟ أم أن الأمر معد مسبقا؟

هنا يقول المحلل الاقتصادي منير الحمش: "لكن من رسم ويخطط ورعى التنفيذ، لا يترك الأمور تفلت من يده فهو منذ اليوم الأول كان يفكر باليوم التالي، أي بمرحلة ما بعد الأزمة، وانقشاع غيومها، كيف سيصار إلى استثمار ما حصل ؟! وكيف يُستخدم لتحقيق المزيد من عمليات النهب والسرقة من جهة، وعدم السماح لسورية أن تشق طريقها من جديد بانتهاج سياسات أخرى، غير التي تحفظ له مصالحه وتحقق أهدافه من جهة ثانية .و( الدردري) المُصنع في أروقة المنظمات الدولية والذي قاد المرحلة الاقتصادية التي هيأت المناخ الملائم للأزمة هو الأبرع في عرض وتنفيذ السياسات الاقتصادية لمرحلة اليوم التالي" (2)، الأمر الذي يعني أن الدردري لا يفعل إلا استكمال ما بدأ به فعلا، لنكون أمام حقيقة يجب أن نعيها جميعا، أن من دمر البلاد لا يمكن له أن شريكا أو ساعيا لإعمارها!

أما هدف السلطة المستبدة من طرح ملف إعادة الإعمار الآن، فهو ليس أكثر من إيديولوجية أو جزرة يلّوح بها النظام لشركاء الداخل والخارج بغية البقاء في السلطة، فهو يقول لرجال الأعمال أو رأسمالية المدن التي لازالت إلى جانبه بأن الأولوية ستكون لهم في إعادة الإعمار لإبقائهم إلى جانبه، خاصة أن منهم من يموّل بعض عملياته ويدفع رواتب "شبيحته"، ناهيك عن الأدوار التي يؤدونها هنا وهناك، وما ذكر اسم "محمد حمشو" والدور الذي يلعبه في الغوطة إلا دليلا على ذلك، ولهذا يركز النظام في حديثه لوسائل الإعلام عن الدور الوطني في إعادة الإعمار، ولم يكن هدف مؤتمر "السوريون يبنون سورية"، والذي ضم أربعين شركة سورية "رفضت مغادرة البلاد رغم الأزمة التي تتعرض لها" كما قال المدير التنفيذي للشركة المنظمة (3)، في حين أن الحقيقة تقول أن هذه الشركات وقفت إلى جانب النظام ضد شعبه وهي تمثل الرأسمالية التجارية في المدن السورية، ولعل ما قاله المدير الفني لـ "شركة أساس للنفط والغاز" يوضح الدور الذي تؤديه هذه الشركات في دعم موقف النظام إذ قال: "إن آخر الأعمال التي قامت بها الشركة هي إصلاح الأضرار في حقل الشاعر النفطي من أجل عودة ضخ الغاز منه، ونسعى للقيام بعمليات الإصلاح بأقصى سرعة ممكنة رغم وجود العديد من العقبات التي تواجه عملنا، ومن خلال مشاركتنا بالمعرض نقدم رؤيتنا لقطاع النفط والغاز في سورية في مرحلة إعادة الإعمار"(4)، حيث يبدو واضحا أن هذه الشركات تنتظر حصتها من إعادة الإعمار التي يوهمها النظام بها من خلال هذا المؤتمر الذي يصعب إيجاد آلية تنفيذية له اليوم، لأنه يستحيل الإعمار في الوقت الذي لاتزال تدور فيه عجلة الحرب، وفي الوقت الذي أعلنت فيه واشنطن أن قتال داعش قد يستغرق ثلاث سنوات، وحتى لو كان النظام ينوي فعلا إعطاء هذه الشركات حصتها، فإن الأرقام تقوم باستحالة ذلك، لأن "تكلفة تشييد منازل تكفي لإيواء السوريين المشردين لن تقل عن 102.5 مليار دولار بالحد الأدنى، هذا ناهيك طبعاً عن تكلفة إعادة إعمار الطرق والمرافق والمؤسسات العامة المدمرة والتي قد تصل إلى ضعف هذا المبلغ. هذا الأمر يعني أن الشعار الذي رفعته الحكومة للمؤتمر "السوريون يبنون سورية" لا يتعدى أهداف الترويج المحلي، فالتمويل المحلي بشقيه العام والخاص عاجز تماماً عن توفير هذه المبالغ الهائلة لإعادة الإعمار" (5).

وفي نفس الوقت تغدو هذه الكلمات رسالة موجهة للشركات الغربية ومؤسسات المال والبنك الدولي، عبر رسالة واضحة مفادها من يريد حجز حصته من إعادة الإعمار عليه أن يعيد علاقته مع النظام أو يدعمه، في سعي واضح لاستغلال الأمر لإعادة الشرعية للنظام من بوابة إعادة الإعمار، حيث تكون الصفقة بقاء النظام مقابل منح عقود إعادة الإعمار للمؤسسات والحكومات والشركات الغربية التي يتبع بعضها لمن يدعم المعارضة السورية بالسلاح، لنكون أمام شركاء يقومون بعملية التدمير اليوم ليحصدوا الثمار غدا، خاصة أن الأرقام مثيرة إذ قدر البنك الدولي تكلفة إعادة إعمار بـ 200 مليار دولار، بينما قدرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا "الإسكوا" التي يرأسها الدردري بـ 140 مليار دولار، في حين يقدرها خبراء مستقلون بحوالي 80 مليار دولار (6)، علما أن كل هذه الأرقام تقديرية وغير دقيقة وهي تختلف باختلاف الجهة القائمة بها والأهم مصالحها، حيث يجيّر الرقم هنا تبعا للمصلحة، وما ارتفاع رقمي البنك الدولي والإسكوا إلا دليلا على ذلك.

إن تأمل ما سبق يقودنا إلى ما يلي: الدردري الذي كان جزءا من النظام وعرّاب السياسات الاقتصادية السيئة والمروّج لطروحات الصندوق والبنك الدولي في سوريا نجده اليوم يحتل موقعا وسطا بين تلك المؤسسات الدولية والنظام، فهل هذا صدفة؟ وهل وجوده في لبنان صدفة أيضا.

يقول "موريس متى": " يبدو أن القرار الدولي بإعادة الاستقرار إلى لبنان ووضع حد للتدهور الأمني الناتج من الخلاف السياسي الداخلي والأزمة السورية لم يُتخذ محبة باللبنانيين ورأفة بالمصاعب والأزمات التي تواجههم، وإنما لهذا القرار الجيوسياسي والاستراتيجي أبعاد اقتصادية ومصالح تتصل بصفقات حول إعادة إعمار سوريا وبدأت تُكتب بنودها منذ أشهر"، ويتابع متى قائلا: " وتشير المعلومات إلى أن لبنان سيشهد في الأشهر القليلة المقبلة مؤتمراً خاصاً حول إعادة إعمار سوريا يجمع رجال الأعمال الخليجيين والأجانب وكبرى شركات المقاولات، المصارف، شركات التأمين، وعدد من الخبراء، لوضع تصور لكيفية إشراك كل القطاعات اللبنانية والعربية والأجنبية بعملية إعادة الإعمار. وأيضاً، من المتوقع أن يُعلن منتصف الربع الرابع من السنة الجارية بحسب ما علمته "النهار" عن إنشاء عدد من الشركات اللبنانية - الخليجية وتحديداً شركات لبنانية - سعودية تتشارك في عملية الإعمار".(7).

التدمير الممهنج بقصد الاستثمار في إعادة الإعمار:

تحت ستار الحرب على الإرهاب يقوم النظام بشن حرب على بلده ومدنه وقراه من جهة، مع ملاحظة أن أغلب ما يهدمه النظام ينتمي للعشوائيات والأرياف الغير منظمة، حيث قال تقرير الاسكوا أن النصيب الأكبر من عمليات التدمير هو للمناطق الغير رسمية، التي يعيش فيها الفقراء مثل حمص، ريف دمشق، حلب، درعا، ودير الزور(8)، وهي مناطق طالما كان لعاب المستثمرين يسيل لها قبل الثورة ( مشروع حلم حمص، وإعمار مناطق العشوائيات في دمشق وريفها نموذجا). من هنا قد نفهم سر تدمير ثلثي مدينة حمص! بحيث يبدو أن هذا التدمير ممنهج، وهو ما نقرأه فيما أصدرته السلطات من قرارات لاحقة، "ففي فبراير/شباط الماضي تم إصدار القرار رقم 18905، باستملاك عقارات في بعض المناطق من أجل القيام بمشاريع الطاقة الكهربائية، وهو ما وصفه سكان تلك المناطق بأنه بعد قصفنا لعدة أسابيع، يأتي النظام اليوم ليكمل هدم ما نجا من صواريخه، ويسلبنا رزقنا. في حين صرح رئيس مجلس محافظة دمشق في مارس/آذار الماضي، بأنه تم وضع خطة لإعادة تخطيط المناطق العشوائية، ولن يكون هناك تمليك للمساكن في المناطق العشوائية"(9).

نفهم قرارات السلطة تلك جيدا حين نربطها بما تدمره اليوم من جهة، وبما قد يطرح لإعادة الإعمار من جهة أخرى، ففي تقرير هام يقول "علي دياب" في صحيفة الحياة اللندنية: " نبدأ من ريف دمشق حيث نرى أن الزبداني وداريا والمعضمية كانت صاحبة النصيب الأكبر من الدمار، فتراوحت نسبة الدمار فيها بين ٧٥-٨٠ في المئة. أما في دمشق فقد كانت المنطقة الجنوبية هي المتضرر الأكبر، حيث تم محو منطقة التضامن بالكامل تقريباً، بالإضافة إلى منطقة الحجر الأسود ويلدا ومخيم اليرموك. في حمص صارت حمص القديمة مدينة مدمرة بالكامل، ودمرت حلب الشرقية بزمن قياسي. تعرضت دير الزور- المدينة القديمة لدمار هائل فيما بقيت أحياء الجورة والمطار بعيدة من الدمار.ما سبق كان توصيفاً لخريطة الدمار الممنهج في سورية، وكل ما ذكر سابقاً يقودنا في اتجاه واحد هو مفتاح الحل وخاتمة الحل ألا وهو إعادة الأعمار."، ليختم بالقول: " فهل يكون كل هذا الدمار الهمجي وكل هذه الأرواح التي أزهقت هي الثمن الذي دفعه الشعب السوري، ليقبضه رأس النظام رصيداً في صفقات إعادة الإعمار كمكافأة نهاية الخدمة عند القوى الدولية؟"(10).

تدمير النظام هذا  يلاقيه التدمير الذي تقوم به طائرات قوات التحالف الدولي مدمرة ما لم يدمره النظام بعد، ليتلاقى هنا الاستبداد الشمولي مع النيوليبرالي العابر للحدود في الفتك بالجسد السوري إلى حين الوصول إلى لحظة تقاسم ملف إعادة الإعمار كجزء من الكعكة السورية الكبرى التي تتضمن: الحلف الذي ستلتحق به سوريا، وموقعها كطريق عبور للنفط والغاز، وثرواتها في ظل الحديث عن مصادر طاقة لم يعلن عنها بعد في المتوسط، حيث يجري التنافس على حقوق التنقيب عن الطاقة التي وضعتها الحكومة السورية بتصرف الروس.

وإذا عرفنا أن المستبد لا يهمه سوى البقاء في السلطة، وأن النيوليبرالية بمؤسساتها العابرة للحدود لا تبحث إلا عن الربح نكون أمام اكتمال الدائرة التي يقدمها الدردري بصيغة "الاسكوا"، معالجا الداء بالداء حين يطرح مرة أخرى ما جربه هو نفسه في سوريا وكان سببا في اندلاع الثورة السورية، مع ملاحظة أن كل الدول التي تتصارع على سوريا اليوم، مع أو ضد النظام، باتت محكومة من الامبرياليات الامبراطورية المتمددة خارج أراضيها والمؤمنة باقتصاد السوق بعيدا عن أية رؤية اجتماعية: فروسيا وإيران وخلفهما الصين لا تختلفان اليوم مع تركيا وأمريكا وأوربا والخليج على شكل وجوهر النظام الاقتصادي المؤمن بأهمية السوق على حساب تدخل الدولة، في حين تختلفان على المكاسب والمغانم والمصالح والأدوار الإقليمية وطرق إمداد الطاقة وأسعارها، وما النظام السياسي الذي يجري الصراع بشأنه ظاهريا لأجل الحرية والديمقراطية، إلا الإطار الذي يغطي على نهب تلك القوى لاقتصاديات الدول الصغرى وثرواتها ومواقعها، وهو ما يجعل نقاط التقاطع بينها قوية رغم اختلافها، وهذا ما يدفع النظام للاستثمار في ملف إعادة الإعمار لإعادة تأهيل شرعيته، التي تعززها بعض القوى المعارضة التي تطرح رؤيتها الاقتصادية على أساس نيوليبرالي، حيث تتلاقى هنا طروحات الدردري وبعض أطياف المعارضة السورية التي طرحت "رؤيتها لاقتصاد ما بعد الأزمة تحت مسمى "مشروع مارشال السوري"، الذي طرحته «مجموعة عمل اقتصاد سوريا» التابعة للمجلس الوطني السوري المعارض، والتي يديرها كل من أسامة القاضي وفرح الأتاسي" (11)، ففي الوقت الذي يقول فيه الدردري :"إن الكثيرين يخافون من شروط البنك الدولي لكن الواقع يقول إننا لا نستطيع الإعمار من دون قروض" (12) ، فإن مشروع "مارشال السوري" المقدم من المعارضة، يستند في "جوهره إلى المدرسة الليبرالية في الاقتصاد، ومن حيث التطبيق فإنه يستند إلى قروض على دفعات من البنك الدولي تصل إلى 20 مليار دولار، مشروطة باستكمال تحرير التجارة والخصخصة، وبرفع الدعم كلياً وإنهاء دور الدولة في السوق، وبتشريعات تسمح للاستثمارات الأجنبية باستقدام ما يصل إلى 40% من عمالتها من خارج سوريا، إضافة إلى سياسات ضريبية شديدة التساهل مع الاستثمار الأجنبي"(13).

ما العمل؟

ولكن إذا كان واقع الحال كذلك، فما هو السبيل الناجع لقطع الطريق على تلك القوى التي قد تتحالف بعد انتهاء الحرب على حساب الشعب السوري مجددا وهي التي تتحارب على حسابه وظهره اليوم.

(2): أول الطريق يبدأ بتحديد شكل النظام الاقتصادي الذي يجب أن يسود سوريا الجديدة، وهو طريق لا يتقاطع مع كل الطروحات السابقة، إذ لابد أن يكون نظاما يأخذ بعين الاعتبار الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي ثار ضدها السوريون، بحيث يتم وضع نظام اقتصادي يقترب من نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي بصيغته الحقيقية وليس بتلك التي طرحها ونفذها الدردري، من حيث حصر مجالات البنية التحتية وذات الصلة المباشرة بحياة المواطن بيد الدولة، مثل الكهرباء والنفط والطاقة والفوسفات والمناجم والماء والتعليم والصحة، مع ترك المجال مفتوحا للقطاع الخاص في بعضها ( الصحة والتعليم مثلا) شرط أن يكون بإشراف الدولة المباشر، مع فسح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في كل المجالات الأخرى، أي وضع نظام اقتصادي لا يحجم دور الدولة وفق صيغة "دولة الحد الأدنى" كما يطلب النيوليبراليون ولا وفق صيغة "الدولة التدخلية" التي تحتكر كل شيء كما كان سائدا في بلدان "التحول الاشتراكي"، أي العمل على "طريق ثالث" يضع مصلحة المواطنين السوريين المهمشين منهم في قائمة أولوياته وخلق اقتصاد ذي قاعدة إنتاجية تعتمد توسيع التصنيع والاهتمام بالزراعة على حساب القطاعات الاستهلاكية والريعية والخدماتية التي تم التوسع بها خلال العقد الأول من حكم الدكتاتور الابن (14).

هنا، تعمل القوى الرافعة لبعض المعارضة على تحويل سوريا إلى سوق استهلاك لمنتجاتها، وهو ما تشي به طروحات المعارضة الدائرة في فلك "أصدقاء سوريا" الذين يمثلون دول النهب النيوليبرالي، في حين تفتقد المعارضات الأخرى لأي رؤية اقتصادية جدية حتى اليوم، في حين أن النظام وشركائه لا يفعلون إلا تمييع كل شيء في سبيل المقايضة لإبقائهم في السلطة. ولعل ما قاله الدردري في مقابلة أجرتها معه Syrian pages، من أن "السؤال حول شكل الاقتصاد هو اليوم خارج سياق البحث، لأننا بحاجة لإعادة الإعمار أولاً" (15) يدل على نوايا هذا الفريق الذي يريد أن يضع العجلة قبل الحصان لكي يمرر مشروع إعادة الإعمار الخاص به، بعيدا عن أية رؤية اقتصادية تضبط الأمر وتحدده. ومن هنا تكمن أهمية أن تحدد المعارضات الوطنية الديمقراطية رؤية اقتصادية موحدة لسوريا تواجه بها الرؤية الاقتصادية لاتجاهات من السلطة والمعارضة والمؤسسات الدولية التي تريد تسويقها تحت ستار إعادة الإعمار وأولويته.

(2) على ملف إعادة الإعمار أن يكون تحت سقف الرؤية الاقتصادية السابقة، وأن يكون عبر مجلس خاص وتحت إشراف الحكومة الجديدة ذات الشرعية، بحيث يبقى خاضعا لإشراف الحكومة وبعيدا بنفس الوقت عن التجاذبات السياسية التي قد تشله، على أن يتم اعتماد الكفاءة الفعلية للعاملين في هذا المجلس بعيدا عن المحاباة والقرابة لإعطاء إيحاء واضح بأن ثمة مرحلة جديدة بدأت، بهدف كسب دعم شعبي لعملية إعادة الإعمار، لأن من شأن فقدان الثقة الشعبية أن يدمر كل مشاريع إعادة الإعمار ويعيد نشر الفوضى، خاصة أن إعادة الإعمار ستأخذ وقتا حتى تؤتي ثمارها في ظل وجود قطاعات مفقرة جدا وتنتظر نتائج، الأمر الذي يعني أن الشفافية والبعد عن الفساد أمر هام هنا، والأهم أن يكون ثمة رؤية تفصيلية لكل شيء كي تكون جاهزة بمجرد ما توقف عجلة الحرب والانخراط بعملية البناء.

(3) الاعتماد في تمويل إعادة الإعمار على القوى الاقتصادية الوطنية السورية سواء في الداخل أو الخارج لإعادة الإعمار، عبر عملية بعيدة عن التسييس بحيث يفسح المجال للجميع للمشاركة سواء من رجال الإعمال الذين وقفوا مع النظام أو مع المعارضة، لكي يشعر الجميع أنهم ممثلون، بما يعطي فكرة عن أن ثمة مرحلة جديدة قد بدأت فعلا، بما يدفع البلاد نحو مناخات الاستقرار ويقلل عدد المتضررين الذين قد يعرقوا العملية السياسية والاقتصادية لحرمانهم من المكاسب، ولأن الاعتماد على المال السوري يبقى أرحم من القروض والشروط الدولية. وهنا قد يكون أحد مهمات الاقتصاديين أو الجهات المعارضة اليوم، تجهيز خارطة حقيقية لكل رؤوس الأمور والمستثمرين ورجال الأعمال لدراسة ما يمكن تقديمه في إطار هذه العملية شرط قبولهم العمل تحت إطار الرؤية الاقتصادية السابقة، علما أن الدردري يقول أن على الدولة أن توفر ستين مليار دولار من خلال الاقتراض (16)، الأمر الذي يشير إلى مدى خطورة الأمر ومدى محاولة البعض دفع سوريا في طريق الديون التي ستدفع من دخول المواطنين لاحقا في نهاية المطاف.

ويجب العمل بنفس الوقت عن البحث عن كل الممكنات الداخلية للتمويل "من خلال وضع اليد على جزء من مقدرات الفساد المتراكمة، إضافة إلى التركيز على القيم المطلقة الكامنة في قطاعات عديدة غير مستثمرة بعد" (17) كما يقول سلام الشريف.

(4) نظرا لحجم الدمار السوري فإن تكاليف إعادة الإعمار ستكون كبيرة جدا، ولهذا فإن رأس المال الداخلي لن يغطيها كافة، الأمر الذي يجعل من الحاجة للتمويل الخارجي أمرا لا بد منه، الأمر الذي يحتم وجود رؤية اقتصادية واضحة لكيفية طلب التمويل ومن هي المؤسسات التي يمكن أن تموّل بعيدا عن رهن الاقتصاد السوري لها أو فرض شروط معينة. وطالما أن لكل مموّل شروطه فلا بد من البحث عن أقل الشروط تكبيلا للاقتصاد السوري، مع ضرورة السعي لتنويع مروحة التمويل دون حصرها بحلف واحد أو دولة واحدة أو مؤسسات ذات توجه واحد، بمعنى أنه يجب السعي للحصول على قسم من مؤسسات دول بريكس وقسم من مؤسسات الغرب مع إعطاء الأولوية دائما لمن يقدم شروطا أفضل وبما يجعل سوريا خارج المحورين المتصارعين: بريكس وحلف الناتو.

(5): يجب رفض أي إعادة إعمار قد يقترحها البعض في ظل استمرار الحرب، فالنظام طرح في موازنته الأخيرة بدء إعادة الإعمار في المناطق التي عادت إلى سيطرته، بهدف إغراء المستثمرين لإعادة الشرعية لنفسه من هذه البوابة. كما أن خطة المبعوث الدولي "دي مستورا" فيما يخص تهدئة النزاع في حلب، والبدء بتحسين وضع تلك المناطق يبقى أمرا غير واضح الملامح والنوايا، لجهة إن كان المقصود البدء بإعادة إعمار جزئية في تلك المناطق أم فقط تأمين احتياجات الناس. في حال كان الهدف بدء إعادة إعمار من نوع ما، فإن هذه الرؤية مرفوضة لأنها تأتي استكمالا لخطة النظام من جهة، وخطة الشركات المتعددة الجنسيات التي تمثل الرؤية النيوليبرالية في وضع اليد على البلد قبل الوصول إلى التسوية الشاملة واستغلال ظرف الحرب، بما يعني العمل على عدم إعطاء أي شرعية سياسية لهذا الأمر، في ظل الخشية من أن تكون مبادرة دي مستورا مجرد غطاء سياسي للأمر خاصة أن معلومات تقول بتحوّل بيروت إلى مستقر لكل الشركات التي بدأ لعابها يسيل، وأن جهات معارضة تدور في فلك دول أخرى قد تتقاسم الأمر مع النظام، وما مطالبة البعض بالاعتماد على الليرة التركية والخطوط الهاتفية التركية في الشمال السوري إلا دليل ذلك، بحيث تصبح تلك الشركات مستثمرا بحكم الأمر الواقع.

المراجع:

(1): مسؤول بصندوق النقد: لا نملك تقديرا لتكلفة إعادة إعمار سوريا ولكنها هائلة، القدس العربي: 12 اكتوبر 2014، الرابط: http://www.alquds.co.uk/?p=233966

(2): متطلبات إعادة الإعمار والتنمية: الدردري «ملكاً»، منير الحمش، صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد ٢٠٢٦ الأربعاء ١١ حزيران ٢٠١٣، الرابط: http://www.al-akhbar.com/node/184863

(3): معرض غير مسبوق بدمشق لإعادة إعمار سوريا، الجزيرة نت: 25/11/2014، الرابط: http://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2014/11/25/%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%B3%D8%A8%D9%88%D9%82-%D8%A8%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82-%D9%84%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

(4): أربعون شركة سورية تعلن استعدادها لمرحلة إعادة الإعمار، محمد وائل الدغلي، مجلة الاقتصادي: 25 نوفمبر 2014، الرابط: https://sy.aliqtisadi.com/489335-%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/

(5): سوريا: مؤتمر إعادة الإعمار.. لتغطية الدمار، مروان أبو خالد، صحيفة المدن الالكترونية: 12/11/2014، الرابط: http://www.almodon.com/economy/a5a3319c-aaaa-44ec-9679-9c68bdeec055

(6): الأسد يغسل جرائمه بملف إعادة إعمار سورية، عدنان عبد الرزاق، العربي الجديد، تاريخ 31 اكتوبر 2014، الرابط: http://www.alaraby.co.uk/economy/6648eda3-ef1a-42c6-945a-4b097102fe9e

(7): مصالح وصفقات اقتصادية خليجية - دولية تفرض الاستقرار في لبنان طريق إعادة إعمار سوريا تمرّ ببيروت والشركات الأجنبية أعدّت العدَّة للمرحلة المقبلة، موريس متي، صحيفة النهار، تاريخ 3 حزيران 2014، الرابط: http://newspaper.annahar.com/article/138440-%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9--%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%81%D8%B1%D8%B6%D8%AA%D9%81%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1

(8): برامج إعادة الإعمار الصراع القادم في سوريا، مجلة أحوال الأرض، الإصدار الحادي عشر: نوفمبر 2014، الرابط: http://landtimes.landpedia.org/newsdesa.php?id=pGhn&catid=ow==&edition=qQ==

(9): المصدر السابق.

(10): التدمير الممنهج للمدن طريقاً لصفقات إعادة الإعمار في «سورية الحلم»، علي دياب، الحياة الثلاثاء، ١٣ مايو/ أيار ٢٠١٤، الرابط: http://staging.alhayat.com/Articles/2312220/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D8%B5%D9%81%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A--%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%85-

(11): إعادة الإعمار: القطبة السورية المخفية!، علاء أبو فراج، صحيفة الأخبار، العدد 2006، الرابط: http://www.al-akhbar.com/node/183310

(12): المصدر السابق

(13): المصدر السابق

(14): لمزيد من المعلومات حول هذا الأمر يمكن قراءة مايلي:

اقتصاد السوق الاجتماعي، هل يناسب سوريا المستقبل، محمد ديبو حكاية ما انحكت/ سيريا تكتب، 13 آب 2014، الرابط: http://www.syriauntold.com/ar/2014/08/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7/

و أي نظام (سياسي اقتصادي اجتماعي) نحتاجه في سوريا مستقبلا، سمير سعيفان، حكاية ما انحكت/ سيريا تكتب 29 نوفمبر 2014، الرابط: http://www.syriauntold.com/ar/2014/11/%D8%A3%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%86%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC%D9%87/

(15): إعادة الإعمار: القطبة السورية المخفية!، مصدر تم ذكره سابقا.

(16): الاحتذاء بالنموذج اللبناني. الدردري: إعمار سوريا بالاستدانة والقطاع الخاص، فراس أبو مصلح، صحيفة الأخبار اللبنانية ، الرابط: http://www.al-akhbar.com/node/207966

(17): إعادة الإعمار: القطبة السورية المخفية!، مصدر تم ذكره سابقا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد