في إحدى التظاهرات الكُرديّة قبل ثلاثة أعوام من الآن انفرد بعض الشباب في مدينة درباسيّة (الجزيرة)، برفع لافتات مغايرة عن اللافتات المعروفة ، وردد هؤلاء شعارات تدين قيادي كُردي كان قد تحدث في إحدى ندواته بـ"أنّنا لا نريد الفيدراليّة"، ولعل الشعارات واللافتات التي رفعت ضد هذا القيادي كانت توازي اللافتات والشعارات التي كانت تدين الاستبداد وقمع الثورة والناس، ما يعني أنّ الكثير من الكُرد يرغبون بالفيدراليّة، وأنّ الفيدراليّة همّ أساسيّ من همومهم الثوريّة؛ و يرون في الثورة فرصة حقّة لتحقيق تطلعاتهم ورفع شأن الكُرد من الهامش إلى المتن وعلى الثورة أن تحقق لهم ما حُقق لكردستان العراق أي الفيدراليّة متناسين أنّ مطالب (أو حل مسألة )القوميّات لا تقف في حدود محددة، وأنّها دائماً في طور التحوّل تبعاً للظروف والمتغيّرات الداخليّة والاقتصاديّة أو وفق ما تتطلبه المصلحة القوميّة ، فكُردستان العراق، مثلاً، بعد عشرة أعوام من تجربة الفيدراليّة تبينّ لهم أنّ ذاك الإطار لا يحقق تطلعاتهم، وربما "الكونفدراليّة" هي الصيغة الأفضل، ومن يدري ربما يكون الاستقلال مع أنّ الشروط الموضوعيّة وليس الذاتية لـ"الاستقلال" أو "الانفصال" لم تتوفر بعد!
ولا نستغرب أنّه وبعد فشل اتفاقيّة آذار في سبعينيات القرن المنصرم بين قيادة الثورة الكُرديّة وقائدها الراحل ملا مصطفى البرازانيّ وبين صدام حسين طالب الكُرد "الديمقراطية للعراق وحكم ذاتي حقيقي لكردستان" ، وسرعان ما تحوّل ذاك المطلب بعد المفاوضات الفاشلة بينهم وبين صدام حسين بعد حرب الكويت في بداية التسعينيّات إلى"الفيدراليّة"، وبعد أن حققوا الفيدراليّة تبيّن لهم، أنّ المركز، أي حكومة المركز تتحكم بهذه الفيدرالية في كل شاردة وواردة، وتعيق بناء كيان محليّ يرضي الذات والمحيط فضلاً عن أنّها تعيق في مرات كثيرة تحقيق العدالة الاقتصاديّة وشروط الأمن الداخليّ، ولا تسمح ببناء العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة مثلما ترغب الإدارات المحليّة الذاتيّة، ولعل الخلاف الذي نراه اليوم بين أربيل(هولير) وبغداد دليل حيّ على أنّ من الحماقة أن نتصوّر بأنّ الاتفاقات والعهود بين المكونات تبقى مقدسة فهي قابلة للتحوّل والتبدّل كما تتطلب المصلحة!
رسميّاً، أي من خلال الموقف الرسمي الكُردي، ثمّة من يريد أن يستنسخ تجربّة كُرد العراق، دون الإمعان فيما اذا كان باستطاعتهم ذلك أم لا، وثمة منهم يريدون التعامل الواقعي مع متطلبات المرحلة الكُردية من ناحية الوجود والحقوق، وبين هذين التيارين لم يطلب الكُرد في وثائقهم الحزبيّة الرسميّة مسألة "حق تقرير المصير"، أو في مداولاتهم السياسيّة مع الغير ، وأقصد مع الشركاء في المعارضة، ومع الأجانب (أيضاً) يطرحون فكرة تأمين حقوقهم بما تنسجم مع العهود والمواثيق الدوليّة إلا أنّ لا طرف سعى أو صرّح بأنهم يريدون الانفصال أو الاستقلال، الكل متفق على حقوق الكُرد ضمن إطار وحدة البلاد.
وسرعان ما تجد تبايناً في الرؤى والطموح، رأي يقرأ الواقع الكُرديّ بمعزل عن العواطف والرغبات والآمال، ورأي يترجم ما يتمناه دون الخوض في العواقب والتداعيّات، وربما رأي يطمح في أن يتحرّر الكُرد من هيمنّة الأنظمة، وأن يقودوا أنفسهم دون تحديد معالم كيانهم السياسيّ، أو عدم إدراكهم للمعطيات الجيوسياسيّة، وهذا الطموح عادة تتبناه الشريحة الغير سياسية ( أي الشعبية) ولا تفكر هذه الشريحة أو تأخذ بالاعتبار مصالح الناس ونفسيتهم وذاكرتهم الجامعة، بمعنى أن يحقق الكُرد كياناً سياسيّاً خاصاً بهم حتى لو كان هذا الكيان في جزيرة معزولة، ولا تستغرب أن تجد حول هذا الرأي جمهوراً كبيراً، إلا أنّ هذا الجمهور ليس بوسعه أن يغيّر الأمور قيد أنملة بسبب فقدانه لمقومات الصمود والانتقال من حالة الشعبويّة إلى حالة المؤسسات بمعنى يفتقر هذا الجمهور إلى مقومات ترجمة رغباته وتمنياته بوسائل التنظيم مثل المؤسسات الحزبيّة حيث هي التي غالباً تقود حملة تحقيق حقوق الناس.
بيد أنّ الرأي الكُردي المؤثر والذي يمكن الاعتماد عليه هو الرأي الذي يترجم ونسمعه دائماً من خلال خطابهم السياسيّ المعلن في صحفهم وفي ندواتهم الحزبيّة وفي المؤتمرات وما يحكى ويتم الحديث عنه في مؤتمرات المعارضة، وهذا التوجه يمكن الاعتماد عليه وتطويره إن كان الشريك السياسيّ الوطنيّ العام لديه استعداد، ولعل لدى الكُرد تجربتين مهمتين مع الشركاء ووصل كلا الطرفيين إلى صيغة توحي بمعقوليّة الرؤى:
* في ربيع دمشق استطاع أطراف "ربيع دمشق" أن يصلوا إلى نتيجة مع الكُرد على أنهم جزء أساسي من مستقبل سوريا، ولا بد أن يدّون في الدستور أنهم القوميّة الثانيّة في البلاد ، وإزالة الغبن الذي لحق بهم.
* والتجربة الثانيّة توقيع وثيقة العهد السورية مع الكُرد وهو أيضا يشي باطمئنان الكُرد على مستقبلهم حيث لم تكتفي الوثيقة بتدوين القومية الكردية في الدستور وإزالة الغبن إنما امتد ليأخذ مساراً وطنيّا للاهتمام بالواقع الكُردي والعمل والتنمية أي بناء مؤسسات مختصة لإحياء الواقع الكُردي الجديد.
يمكن القول إنّ التجربة الأولى في أواسط العقد المنصرم أي في" ربيع دمشق" كانت الأنجح، ولعل السبب يعود إلى أن جماعة "إعلان دمشق" حرص على الشراكة الكُردية العربيّة من حيث توزيع المناصب وحضور الكُرد في المداولات والمؤتمرات وفي خطاب المعارضة بشكل لحظي، على عكس تجربتهم مع الائتلاف حيث أنّ تجربة الكُرد مع الائتلاف يؤخذ عليها بعض المآخذ ، حيث هناك عدد من الملاحظات حول ترجمة "وثيقة العهد" على أرض الواقع، ففي عدد من المحطات تباهى الائتلاف وخاطب الرأي العام بلغة لا تليق بالاتفاق بينه وبين الكُرد، رغم أن التوقيع على "وثيقة العهد" كان أحد أهم العوامل الذي دفع بالكُرد ليكونوا جزءاً من الائتلاف ويتبنوا خطابه حتى لو كان على سمعتهم في القاع الكُردي الشعبي الذي سرعان ما انتقد دور الائتلاف ومقاربته لحقوقهم وتطلعاتهم.
والحال، أنّ التجربة الأولى توحي بأن لدى الكُرد استعداد لقبول صيّغ حتى وإن كانت بعيدة عن روحيّة خطابهم الحزبي والسياسيّ الرسمي. ويمكن القول إن البيان الأول لـ"إعلان دمشق" يشكل أرضية خصبة لبناء وصياغة حال الكُرد دستوريّاً، وأنّ الكُرد جزء من الحل إن كان المراد هو بناء دولة المواطنة الحقة، وحفظ حقوق المواطنين السوريّين بمختلف خلفياتهم العرقيّة والطائفيّة(الدينيّة) إن كان ثمة بنود عريضة (فوق دستوريّة) تحفظ حقوق الجميع!
بيد أنّ ثمّة جهد لا بد من العمل عليه:
أولاً: سيقبل الكُرد دولة المواطنة إن كانت سوريا لكل مواطنيها، وإن كانت حاضنة لكل مواطن دون تفرقة أو عنصرية ، (تلك العنصرية التي وقفت عقبة أمام بلوغ الكُرد حالة المواطن من الدرجة الأولى)، وأن لا تُستثمر إمكانيات الدولة لانتعاش ثقافة ولغة قوميّة على حساب لغة وثقافة القوميّة الأخرى!
ثانيا: هناك جهد آخر يجب العمل عليه، وهو أن يتحرر كل عربيّ من حاضنته العربيّة بالمقابل أن يتحرر الكُردي من كُردستانيته، وإن كان عكس ذلك فعلى الدستور أن يحافظ على حقوق التضامن والتعاطف والتكامل لكل مكوّن من المكونات السورية لامتدادهم في الدول الأخرى، فمثلاً ليس مقبولاً أن يقف رئيس البلاد مع تركيا ويقف الى جانب تركيا عندما تقمع تركيا أكرادها دون العودة ومراعاة شعور كُرد سوريا..الخ.
بقي القول إنّ اللبس الذي رافق الخطاب الكُرديّ، والنظرة من قبل شريكهم على أنّهم جزء غريب في المشهد السياسي والرسمي للبلاد فضلاً عن الحواضن الشعبويّة العنصريّة التي هي سبب أساسي في عدم بلورة صيغة خطابيّة ناضجة تحقق شروط بناء سوريا كدولة المواطنة الحقة. لذلك كل الأطراف مدعوة أن تقف بشكل مسؤول لإزالة كل الغشاوة التي تتحكم بمصير أبناء سوريا وتشكك في وجودهم كسوريين قبل أن تفكر في امتداداتهم في الدول الأخرى أو في مكان آخر...عند ذلك يمكن الحديث عن "دولة المواطنة" الحقّة!