الكُرد السوريّون: المواطنة المنشودة والأحلام العابرة للحدود (2)


07 شباط 2015

هيثم حسين

ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري. يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى. من أعماله في الرواية: آرام سليل الأوجاع المكابرة، رهائن الخطيئة، إبرة الرعب. وله في النقد: الرواية بين التلغيم والتلغيز،الروائيّ يقرع طبول الحرب،الرواية والحياة.

يُوصَف موقف الكرد السوريّين بالضبابيّة تارة، وبالازدواجيّة تارة أخرى، كما أنّ هناك مَن يصفهم بأنّهم لا يعرفون ما يريدون، وأنّهم يعانون من التفكّك والتخبّط، وفي هذا جزء من الواقعيّة، لكن ما يفتقر إليه الوصف والتحليل، هو إهمال الجذور التاريخيّة المؤدّية إلى ذلك، والنظر إلى المسألة بغضّ النظر عن ملابساتها.

ظلّ مفهوم الدولة الوطنيّة والمواطنة مغيّباً لصالح الانتماءات العابرة للحدود، وكان الفكر البعثيّ يحلم بتحقيق الوحدة العربيّة ويدعو إلى صهر القوميّات والأعراق في بوتقة القوميّة العربيّة، منطلقاً من باب الاستعلاء والاستعداء، وهذا ما شجّع الكرد على البحث عن خصوصيّتهم وقوميّتهم وحلمهم بدولتهم الكبرى شأنهم في ذلك شأن العرب.

طيلة هذه العقود ظلّ الكرديّ محروماً من حقوقه، ومطالباً بالانسلاخ عن كرديّته، بل التحوّل إلى قوميّ عربيّ، ولم يرتوٍ التعطّش القوميّ عند الكرديّ بعد، ذلك أنّ انتماءه القوميّ ظلّ مهدّداً في سوريا، كما في الدول التي ألحق بها في المنطقة، وكأنّه يرحّب به فقط حين يحاول أن يكون عربيّاً في سوريا. والتجارب مع السلطات الحاكمة في سوريا لا تبشّر بخير، ذلك أنّ كلّ نظام كان يستدرج الكرد ثمّ ينقلب عليهم.

لاشكّ أنّه بين القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، تغيّرت كثير من الأشياء والأفكار، وبات التضامن والتشارك موضع ثراء، ولأنّه عبر عقود من الاستقلال لم يجد الكرديّ في سوريا شريكاً يشعره بالمواطنة، ولا بالوطنيّة، بل ظلّ موضع اتّهام في ولائه لوطنه، ويُراد منه أن يناقض نفسه، ويتخلّى عن حلمه، من أجل مستقبل ضبابيّ، ووعود لا تقدّم ولا تؤخّر، فإنّه يعيش نوعاً من الابتعاد عن العربيّ، وحتّى الخشية منه، ولاسيّما أنّ رغبات الهيمنة تظلّ مثار توجّس دائم.

ما الذي يطالب به الكُرد في سوريا..؟

لا تقتصر المطالب على هدف بعينه، بل يمكن القول إنّ هنالك سلسلة من الأهداف والغايات والمطالب، يستحضرها الكرديّ تباعاً في مخيّلته وذهنه، ويحلم بتحقيق ما أمكن منها.

الشعار القديم "تحرير وتوحيد كردستان" يظلّ حاضراً في الذاكرة الجمعيّة، ويظلّ الحلم بدولة كردستان الكبرى حلم الكرديّ الأثير، ولأنّ الموقع الجغرافيّ والتوازنات الإقليميّة والدوليّة لا تشجّع على ذلك، بل تعاديه، يتراجع هذا الحلم، ولا يتلاشى مع الزمن، بل يظلّ متجدّداً، وإذا سنحت الظروف بذلك لن يتردّد الكُرد في إعلان دولتهم، أي أنّ هذا مطلب مؤجّل يظلّ معلّقاً في فضاء الزمن القادم.

ينقسم الكُرد السوريّون بين أكثر من تيّار سياسيّ يتجاذبهم، وهذه التيّارات بمجملها لها امتدادات إقليميّة، فحتّى الآن ما تزال التنظيمات السياسيّة الكرديّة السوريّة تابعة للتنظيمات الكردستانيّة في تركيا أو العراق، ويتم التعامل معها من باب الإلحاق، مع منح بعض التمايز، ويظلّ الارتباط عضويّاً، ولهذا بدوره أسباب كثيرة، منها ما هو مادّيّ ومنها ما هو معنويّ، منها ما هو تاريخيّ ومنها ما هو جغرافيّ.

سلسلة المطالب - الأحلام لا تنتهي، وباعتبار أنّ السياسة لا تتعامل مع الأحلام، بل تتعامل مع المصالح والوقائع والإمكانات، لذلك فحلم الدولة المستقلّة يتراجع أمام واقعيّة الكرح والتكييف المرحليّ، ليحلّ السعي لتحقيق عدّة مطالب محلّ المطالبة بالاستقلال أو تقرير المصير، منها: الاعتراف الدستوريّ بأنّ الكرد يمثّلون القوميّة الثانية في البلاد، وأنّه شعب على أرضه التاريخيّة، لهم لغتهم وخصوصيّتهم، لهم حقوقهم وواجباتهم، مع ما يترتّب على ذلك من إجراءات وتطبيقات تفصيليّة.

ومع الاعتراف الدستوريّ يطالب الكرد بأن تكون لهم صيغة من صيغ إدارة المدن التي يشكّلون الغالبيّة فيها، سواء كانت هذه الصيغة عبر الفيدراليّة أو صيغة من صيغ الإدارة الذاتيّة، لأنّ السياسات المركزيّة عبر العقود ألغت الخصوصيّة الكرديّة، واستنزفت المنطقة أرضاً وشعباً، وكانت وبالاً عليها.

هناك وقائع اجتماعيّة واقتصادية وتاريخيّة أفرزتها سياسات الأنظمة المتعاقبة في سوريا، يطالب الكرد بإلغائها وتعويض المتضرّرين من جرّائها، من هذه المطالب: تعويض المجرّدين من الجنسيّة، وإيجاد حلّ للحزام العربيّ، بحيث تعاد الأراضي إلى أصحابها، ويتمّ تعويضهم، وحلّ المسألة بطريقة وطنيّة.

وهنا لابدّ من التذكير أنّ الكُرد ينظرون إلى الحزام العربيّ كسياسة استعماريّة، ويتمّ النظر إلى القرى النموذجيّة التي أنشأها النظام للعرب الغمر كـ"مستوطنات" – بالرغم من أنّ التوصيف يثير حفيظة القوميّين العرب - وتحظى في المخيال الشعبيّ ببغض لا يخبو ناره، ونقمة لا تهدأ، ذلك أنّ النظام منح المغمورين أفضلية في التوظيف وعاملهم بخصوصيّة، وسعى إلى إبقاء الفتنة مستعرة عبر تلك السياسات.

ينادي الكُرد بالمواطنة، لكن غالبية الشعب الكرديّ لم تعش أيّ شكل من أشكال المواطنة، وهناك خوف لديها بأنّ النظام القادم، أيّاً يكن شكله، يكون خارجاً من عباءة القومويّة أو التأسلم، وقد يتعامل بتلك الذهنيّة التي ترى في المناطق الكردية سلّة غذاء وآبار نفط، يستحيل التفريط بها أو منح أبنائها سلطة إدارتها، بحيث أنّ المنطقة التي كانت معظم خيرات البلاد منها تظلّ تعيش فقراً وأحوالاً سيّئة في مختلف المجالات.

وهناك خشية تتنامى لدى الكرد من مفهوم المواطنة والتفسيرات والتأويلات والتلبيسات والمغالطات التي قد تحيط به في تطبيقاته، كأن يتمّ التعامل مع الكرديّ كمواطن تابع من الدرجة الثانية، تفرض عليه السياسات العروبويّة، جرياً على سنّة الأكثريّة والأقلّيّة، لذلك فيكمن مطلب الاعتراف كقوميّة ثانية في البلاد في الصدارة، مع ما يوجبه الاعتراف من استحقاقات، بحيث تكون لغته وثقافته محطّ اهتمام السوريّين جميعاً، بالإضافة إلى نسبة تمثيله في مؤسسات الدولة بما يتناسب مع الواقع.

حين يقتنع العربيّ في سوريا بأنّه سوريّ "فقط"، وأنّ له حقوقاً وواجبات، بعيداً عن أوهام - أحلام العروبة، وبعيداً عن فرض لغته وثقافته على الكرديّ، ويقتنع بالتعامل معه كشريك في الوطن، يمكن أن يطالب الكرديّ بالقول إنّه سوريّ "فقط"، وله حقّه في عيش خصوصيّته الثقافيّة والحضاريّة، في إطار دولة المواطنة التي تكفل الحقوق والواجبات وتحقٌّ العدالة والمساواة بين جميع أبنائها بموجب دستور حديث يتوافق مع التغيّر والتطوّر والحداثة.

ولاشكّ أنّ المواطنة تحتاج إلى تربية حقيقيّة، ولا تتحقّق عبر الشعارات والمزاعم، كما لا تتحقٌّ عبر ذهنية الإقصاء والتهميش، أو فكر الأكثريّة والأقليّة، والكرديّ كغيره من مكوّنات الشعب السوريّ كان ضحيّة تبديد المواطنة لصالح الأوهام، ولا يخفى أنّ الإشكال لن يحلّ بسهولة وبساطة، وبدون تحقيق مساواة وعدالة لجميع السوريّين، لا أن يُستفتَى الآخر الذي يجد نفسه أكثريّة في تحديد مصير الكرديّ وفرض أمر واقع جديد عليه لزمن آخر.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد