الأكراد السوريين والضمانات الدستورية مستقبلا (3)


09 شباط 2015

رستم محمود

كاتب وباحث سوري، ينشر في عدد من الصحف منها الحياة والمستقبل، وله عدد من الأبحاث، منها: "البنية المذهبية: الأحزاب السياسية الإقليمية والحدث السوري"، و "إدارة التنوع: المسألة الكردية السورية".

يحيل مصطلح "المطالب الدستورية للأكراد السوريين" مباشرة إلى ثنائية الأغلبية/الأقلية؛ لأنها تستبطن وجود جماعة وطنية مركزية "العرب"، سيُطالب منها بهذه الحقوق والضمانات، التي يجب ان تحفظ حقوق جماعة وطنية أخرى "هامشية" وغير مركزية في المتن الوطني، الأقلية الأثنية الكردية. بهذه الثنائية يتم تحطيم الأساس المعرفي والبديهي للمسألة الدستورية، ذلك الجذر المثبت منذ النشأة الأولى له، لأنه قائم بالأساس على جوهر المواطنة المتساوية.

التفكير الموازي لهذه الثنائية، هو ذاك المنطق السياسي/الاجتماعي/المعرفي، ذلك المنطق الذي يذهب لدراسة وتشريح وتحليل مجموع الخصائص والأحوال والمناخات التي تحيط بالمجتمع السوري، في كافة المجالات الخاصة بالعلوم الإنسانية، أحوال الاقتصاد والسياسة والجغرافيا وبنى المؤسسات وتاريخ العلاقات الداخلية والمحيط الإقليمي والعوالم النفسية...الخ. حيث مجموع الوعي بتلك الأحوال السورية، سيدفع مباشرة لاستنتاج ما هو ممكن وواجب ومناسب من عقد اجتماعي للسوريين والكيان السوري، حيث يشكل الدستور جوهرا لذلك العقد، ويشكل ضبط نمط العلاقة بين الجماعات الأهلية السورية، والعلاقة فيما بينها وبين الدولة، مركز ذلك الدستور.

الثنائية السورية القاسية:

إحدى أهم الخصائص التي تميل لها العقلية السياسية والثقافية السورية، فيما خص حقوق وضوابط وأحوال الجماعات الأهلية ضمن دستور البلاد المستقبلي، بأن أي نقاش وتداول حول هذه المسألة، يحال في ذهن هذه النُخب نحو أحد نموذجين لتلك الحقوق المتقاسمة بين الجماعات الأهلية، أما النموذج اللبناني أو نظيره العراقي، ومباشرة يعني الأول حرب أهلية باردة، والنموذج الأخر تشرذما كيانيا ومجتمعيا مفتوحا. هذا النمط من التفكير يؤدي حتما للقبول والمناداة بالدولة شديدة المركزية. حيث أن الكثير من هذا التفكير يميل لاعتبار إمكانية وضرورة وجود دولة بالغة المركزية وبالغة الديمقراطية في آن، والنموذج الفرنسي هو المثال الأكثر وضوحا في قاع هذا التفكير؛ طبعا دون أي إدراك لحجم الفوارق الرهيبة بين التجربتين الفرنسية والسورية في هذا المجال.

ما تفعله هذه المخيلة أنها ترمي جانبا سلسلة ضخمة من المنجزات الإنسانية "المذهلة" والفعالة في هذا المجال، تلك المنجزات المتعلقة بما يسمى بوضوح "تقاسم السلطة بين الجماعات الأهلية" والتي أثبتت في أكثر من دولة ونموذج وحالة، أثبتت نجاعتها التجريبية وتحقيقها لمستويات عالية وحيوية من التمثيل السياسي للقواعد الاجتماعية في مؤسسات السلطة، حيث جوهر العملية الديمقراطية، وكذلك حققت أشكالا من السلام الاجتماعي الداخلي الدائم، حيث هذا الأخير هو شرط ومنى "الدستور الوطني" المبتغى.

الكرد السوريين ضمن السياق:

ضمن هذا السياق، الذي يأخذ مجموع الخصائص المحيطة بسوريا والسوريين من جهة، ويستفيد من مجموع تجارب الدول الناجحة، حيث يتطابق بعضها الكثير مع الحالة السورية، من حيث توازنات وعلاقات الجماعات الأهلية فيما بينها. ضمن ذلك السياق يمكن تحديد خاصيتين عامتين، حيث على أساسهما يمكننا وعي الأسس الدستورية الأكثر مناسبة للحالة الكردية:

  • "الأكراد السوريين" جماعة أهلية سياسية، لأنها تملك ذاكرة سياسية واجتماعية وثقافية ولغوية وأثنية مشتركة، تشعر بالتضامن الداخلي فيما بينها، وتشغل حيزا واضح المعالم في سوريا، متداخل ومتراكب ومتفاعل مع أحياز جماعات أخرى دون شك. لكن ما نود قوله هنا أن "الأكراد السوريين" ليسوا مجرد اقلية سكانية أو ثقافية أو لغوية ضمن الكل السوري، بل هم جماعة أهلية تأسيسية في الكيان السوري، مثلهم مثل أي جماعة أهلية أخرى ترى بنفسها خصائص الوحدة الداخلية والمصير المشترك، بالذات منها تلك الجماعات الأثنية/القومية، حيث الروابط الداخلية أكثر وضوحا واستقرارا وتسيسا من نظيرتها المذهبية والطائفية.

ما يضاف إلى الحالة الكردية مسألتان يجب أن تؤخذا بالحسبان لوضع تخيّل مناسب لوضع الأكراد السوريين في دستور البلاد المستقبلي، يتعلق الأول بحجم وشكل الروابط التي يشتبك بها الأكراد السوريون مع باقي أقرانهم في المحيط السياسي الإقليمي، في كل من العراق وتركيا بالذات. أخذ وإدراك هذه الروابط يجب أن يكون في صالح وضع ضوابط متينة وحقوق دستورية واضحة المعالم، لفك عرى الاختلاط بين العلاقات والحقوق الوطنية، ونظيرتها من المشاعر القومية. المسألة الأخرى تتعلق بذاكرة المظلومية التي مازالت حاضرة في حس الأكراد السوريين وتفكيرهم السياسي، حيث أن أية حقوق دستورية يجب أن تغالب تلك المظلومية، لأن المظلومية الخاصة بأية جماعة أهلية، هو بوابتها الدائمة لعدم القبول بالعقد الاجتماعي المرسخ، وبذلك الانزياح الدائم عن متن "العلاقات الوطنية".

  • الخاصية الأخرى تتعلق بسوريا نفسها، فهي كيان متهالك في الوقت الراهن، يعيش شبه حرب أهلية، ومستوى الثقة المتبادلة بين جماعته الأهلية والمناطقية هو بالحد الأدنى، حتى أن كل منها أقرب لشعور مستبطن بأنه "شعب" كامل الخصائص ضمن الكيان السوري، وعلى درجة كبيرة من الرهبة و"العداء" لـ "الشعوب" الأخرى التي تحيا ضمن هذا الكيان. الكيان السوري هذا شبه مدمر، تسعى مجمل السياسات الإقليمية والدولية الهيمنة عليه والسيطرة على قراره وشخصيته الوطنية، مضاف لذلك أنه بلد مقطع الأوصال، لا توجد به حتى الراهن سلطة وطنية عليا، تحتكر تطبيق القانون وممارسة العنف الشرعي، وفوق ذلك يشكل السوريون الذين يحملون حسا وطنيا مدنيا بالمواطنة أقلية صغرى ضمن مجموع هؤلاء السوريين.

ما يقصد هنا أن سوريا بلد لا تناسبه الصيّغ المثالية من الدساتير، تلك المستمدة من تجارب دول أنجزت كتلة ضخمة من المنجزات البشرية السياسية والثقافية والاقتصادية والمعرفية؛ بل إن الدستور السوري المنتظر سيكون أقرب لنماذج الدول التي أنهت حروب أهلية طويلة، وجرى بين جماعتها الأهلية حجم هائل من تبادل العنف، بغض النظر عن صيغة وعنوان وأشكال ممارسة ذلك العنف. هذه الدساتير التي تكون في تفاصيلها أقرب ما تكون لـ"مصالحة وطنية" بين الجماعات الأهلية، وإن تحوي بداخلها ديناميكيات حيوية لتجاوز الحروب التي كانت، وآثارها.

حقوق الأكراد السوريين بناء على تجارب دول أخرى:

  • بناء على النموذج العراقي، الذي آمن وتبنى منذ العهد الملكي الأول في عشرينات القرن المنصرم، بأن العراق كيان مركب من "جماعات" غير متماهية فيما بينها بشكل مطلق، لذا لم يفرض تسمية عرقية أو دينية على كيانه، بل أكتفى بتسمية "مملكة العراق"، واعتراف على أساس ذلك الاعتبار باللغة الكردية لغة رسمية في المناطق التي يشكل فيها الكرد أغلبية سكانية واضحة، إلى جانب اللغة العربية بالطبع. وعلى ذلك الأساس تم الإقرار للقوميات الأخرى في البلاد بنفس الحقوق التي أقرت للكرد، فبات التعليم والنشر الثقافي والمعرفي ممكنا بالتركمانية والآشورية والسريانية والأرمنية ...الخ. يمكن للدستورالسوري المرتقب أن ينهي أي اعتبار هوياتي للكيان السوري، سواء كان قوميا عربيا أو دينيا إسلاميا أو مذهبيا ...الخ، وأن يعترف بالمجتمع السوري كمجتمع مركب، وبذا يترتب على السلطة الحاكمة، أيا كانت، جملة مع القوانين والمناقب والممارسات التي يجب أن تلتزم بها، ومنها بالذات الحقوق الثقافية والمعرفية المتساوية لكل اللغات السورية، ومنها اللغة الكردية.

طبعا النمط الأكثر تطورا للنظير العراقي هو النموذج الألباني، حيث تشابه الحالة السورية نظيرتها المقدونية إلى حد بعيد، فـ 65 % من السكان هم من القومية المقدونية، أما الباقي 25% هم من الألبان وباقي القوميات، كان ثمة العديد من التشنجات بين المجموعات الأهلية في البلاد، أبرمت "اتفاقية أهريد" في أب 2001 عقب تدخل قوات الاتحاد الأوربي وحلف الناتو. اعترفت الاتفاقية بالألبان والأقليات القومية الأخرى كقوميات تأسيسية في البلاد، ومنحتهم سلطات نقض واسعة، فيما يخص مصالحهم الحيوية، وكذلك تم الاعتراف باللغة الألبانية بشكل رسمي. من النموذج المقدوني، يمكن للسورين أن يستفيدوا بالاعتراف بالقوميات السورية كلها كقوميات أصيلة ومكونة لبلدهم، الأرمن والسريان والأكراد والتركمان، وهو ما قد يخفض من النزعات القومية لدى هذه الجماعات الوطنية. كما يمكن أن تشكل مثالا للاعتراف بلغاتها القومية كلغات وطنية في العملية التربوية وفي المؤسسات والتعبيرات الثقافية.

  • بناء على تجربة الجار التركي، يمكن أن يعي الدستور السوري أهمية توسيع السلطات المحلية، وأن يمنحها الكثير من السلطات الاقتصادية والإدارية والرمزية والثقافية. فالنخبة التركية الحاكمة طوال الثمانينات، أدركت بعمق أنها لن تستطيع أن تنجز حلا نهائيا وكليا للمسألة الكردية المعقدة في البلاد، فأرادت منح أشكال غير مرئية من الحلول الجزئية، وكان أسها توسيع سلطات الإدارات المحلية، الشيء الذي تم في زمن الرئيس الراحل تورغوتأوزال. حيث وإن بقيت المسألة الكردية بكليتها معلقة دون حل في عموم البلاد، لكن الكرد رأوا أنفسهم يحكمون من قبل سلطات بالغة المحلية والقرب منهم، فقد سيطرت الأحزاب الكردية على إدارة تلك البلديات في جنوب شرق البلاد، وهو الشيء الذي دفع نحو تبريد المسألة الكردية، إلى أن باتت تلقى أشكالا أخرى من الحل الكلي راهنا.

يمكن للدستور السوري المستقبلي أن يستفيد من الدستور التركي، وينشأ نوعين من السلطات غير المتعارضة، واحدة مركزية تتعلق بالاقتصاد الكلي والسيادة السياسية وأمن الحدود. وأخرى بالغة المحلية، تشمل كل أنماط الحُكم المحلية للحياة العامة الاقتصادية والبيروقراطية والتعليمية والرمزية، بحث ترتاح المجتمعات السورية المحلية "القصية" من سلطة المركز المباشرة والرمزية، وتشعر بأكثر تفاصيل حياتها اليومية بأنها محكومة من ذاتها.

  • على أن أبرع نموذج لتقاسم السلطات على المستوى الجزئي هوالنموذج الأيرلندي، فاتفاقية "الجمعة العظيمة" التي أنهت الصراع بين البروتستانت (55% تقريب) والكاثوليك (45%) اشترطت على كل عضو في البرلمان الأيرلندي الشمالي، أن يحدد انتمائه. أما (اتحادي "بروتستانتي") أو (وطني "كاثوليكي") أو (آخر) لا ينتمي إلى أي من المجموعتين. واشترط على شكلين من الموافقات البرلمانية: "الموافقة الموازية" (أي، أكثرية عادية في مجلس النواب تشمل على الأقل 50% داخل المجموعة الاتحادية و 50% داخل المجموعة الوطنية) أو "الأكثرية الموزونة" (أكثرية 60% في مجلس النواب تشمل على الأقلّ 40% داخل المجموعة الاتحادية و 40% داخل المجموعة الوطنية). حيث اختصت "الموازية" بالقرارات والشؤون الوطنية التي يمكن أن تمس حقوق الجماعة الكاثوليكية أو البروتستنتية في البلاد، لذا اشترطت على أن تستحوذ تلك القرارات على نسبة أعلى من الأغلبية العادي (51%)، بل أن تكون (60% على الأقل) وأن تشمل جزء رئيسيا من الكتلة النيابية الممثلة لكل الجماعات المؤلفة للبرلمان الأيرلندي الشمالي، حتى لا تعتدي أي من الجماعات الأهلية على حقوق نظيرتها الأخرى تحت يافطة الأغلبية البرلمانية "الديمقراطية".

يمكن أن تشكل نماذج مثل تلك ضمانات لمجموعات أهلية سورية متنوعة. فمثلا ماذا لو اشترط الدستور السوري الجديد أن تكون كافة القوانين والمراسيم التي تصدر من البرلمان السوري، أن لا تكون قد رفضت من قبل أغلبية كلية من نواب إثني أو ثلاث محافظات سورية. فثمة محافظات سورية يشكل فيها المنتمون إلى الأقليات المذهبية والقومية أغلبية واضحة (اللاذقية، طرطوس، السويداء، الحسكة). وأن تكون تلك القوانين من النوع الذي يمس شخصية الدولة ومؤسساتها الرسمية والثقافة وحقوق الأطراف والمواطنة المتساوية والتميز الإيجابي، أي مجموع المسائل التي يخشى أبناء "الأقليات" ومنهم الكرد، أن يتم تجاوزهم والاعتداء على حقوقهم المصونة بقوة ورافعة الأغلبية البرلمانية، التي يمكن بكل بساطة أن تنطبق مع الأغلبية السكانية القومية "العربية" أو المذهبية "السُنية".

ما يظهر جليا أن عدد من الخصائص الدستورية يمكن لها أن تشكل منجزا للحقوق الكردية في البلاد، فالدستور يجب أن يعترف بالمجتمع السوري المركب، وأن يحدد جملة من الواجبات والمعايير على كل سلطة حاكمة سوريا أن تلتزم بها، أيا كانت هوية تلك السلطة ومنبتها السياسي، وأن يسعى الدستور لأكبر قدر من اللامركزية في شؤون الحياة اليومية والمعيشية وكافة التفاصيل غير السيادية، والأهم أن لا يكون الدستور تعبيرا عن إرادة الأغلبية البرلمانية، تلك الأغلبية التي يمكن في بلد مثل سوريا أن تتطابق مع الأغلبية القومية أو المذهبية، أي أن تكون أغلبية شاقولية أهلية، وليست أغلبية أفقية سياسية، على أي دستور سوري مستقبلي أن يكون توافقيا ومبنيا على المنجز الإنسانية الكلي.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد