ثمة من يرى أن علاقة الكرد السوريين بوطنهم السوري، تشوبها الكثير من الانتهازية والتشويش، مقارنة بعلاقتهم المميزة مع إخوتهم الكرد في العراق وتركيا، مستدلين على ذلك بما تقدم عليه حركتهم السياسية، من مقايضة و"ابتزاز"، لكل من النظام والمعارضة، من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية الخاصة، في ظل ظروف استثنائية تمر بها سوريا، كمجتمع ووطن ودولة.
وإذ لا يمكن فهم ورؤية ذلك التنازع، في الوجدان السياسي للكرد السوريين، بين "الانتماء السوري" والانتماء "للقومية الكردية"، إلا في ضوء الخصوصية والحساسية التي تلف القضية الكردية في كامل المنطقة، تبرز حقيقة ارتباط ذلك التنازع بالاختلال المزمن الذي رافق ولادة الدولة السورية إلى اللحظة الراهنة، والمتمثل في افتقادها لمشروع الدولة المنسجمة مع مكوناتها الاجتماعية والأهلية.
ذلك الاختلال الذي ربط "الوطنية السورية" وهويتها الجامعة، في ذهنية الكرد بطبيعة "الدولة السورية"، حيث اقترنت محاباة تلك "الوطنية"، بمستوى ممارسات الدولة، وتحولاتها النوعية، سواء على مستوى نظم الحكم والسلطة، أو على مستوى السياسات والإجراءات المطبقة بحق الكرد. فقد شكلت الدولة بأجهزتها المختلفة، الأداة الأكثر فاعلية في تمرير سياسات الحكومات المتعاقبة والمتشككة في "وطنية" الكرد، تلك السياسات التي شهدت تحولات حقيقية، في تعاملها مع المكون الكردي، مع صعود التيارات "الشعبوية" القومية، وانتزاع العسكر ذو الأصول الريفية للسلطة، ووصول "البعثيين" إلى سدة الحكم.
مع قيادة "البعث" "لدولة والمجتمع" نحو الفساد والاستبداد، بدت "دولتهم" بخطابها "العروبي" المتشنج بالنسبة للكرد في سوريا، أداة استلاب وعنف لا حدود لها، وقوة سلطوية قاهرة، تحاول طمس هويتهم القومية، من خلال ممارسات شوفينية وإجراءات استثنائية، تجبرهم على الانصياع للهوية الأيديولوجية، ذات الاتجاه "العروبي" الواحد، الأمر الذي زاد من مستوى القلق الوجودي لدى الكرد، وأسس لوعي "أقلوي" مسكون بهاجس الموت والزوال والإبادة، استندت عليها البنى "العصبوية" داخل المجتمع الكردي، والتي يحدوها المغالاة والتطرف "القومي"، فيإبتلاع ممكن السياسة ورحابة الثقافة الكردية.
بدافع تلك التطورات، انعكست سياسة "البعث" على الوعي السياسي لدى الكرد، في اعتبار كل ما يرتبط "بالهوية الوطنية السورية" وشكلها الكياني مصدر تعنيف وتهميش، واعتبار ما يرتبط "بالقومية" الكردية مصدر إلهام وخلاص من الواقع الاستثنائي الذي تعيشه. جرى ذلك بعد أن استقبل غالبية السوريين معاناة الكرد مع التهميش والاضطهاد والاعتقالات، بالصمت واللامبالاة والتشكيك، إلا على نطاق ضيق من معارضة، كانت تمارس السياسة وفق طقوس سرية ومنفعلة بسبب الاستبداد. مازاد من مساحة التناقض والارتياب بين الانتماء "الوطني السوري" والانتماء " القومي الكردي".
جاءت انتفاضة القامشلي عام ٢٠٠٤، لتزيد من تلك المساحة، وقد وصفتها بعض التيارات السياسية السورية، بالتحرك "الإنفصالي"، ذلك أن "الثقافة السياسية" التي أشاعها النظام بنمطيته الأمنية، في الدولة والمجتمع، والقائم على تصوير أي صراع مطالب بالتغيير السياسي كصراع أهلي ومذهبي، كان قد كرس صورة نمطية عن الحراك الكردي المعارض بوصفه إنفصاليا، يطالب "باقتطاع جزء من أراض عربية سورية وإلحاقها بدولة أجنبية"!.
هكذا، وبقدر ما أخل استبداد "البعث" واستثماره في التناقضات الأهلية السورية، بجوهر العلاقة بين الكرد والسوريين، جاء الخطاب "الوطني" للثورة السورية ٢٠١١، أثناء سلميتها، موفرا الفرصة المناسبة للإنسجام الحقيقي بين المكونات السورية، عبر امتصاص مخاوف الأقليات، وطرح شعارات تخص كامل الوطن السوري، إلا أن هذه الفرصة انتهت بهواجس متضاربة ومنفعلة، مع تحول الثورة إلى التسليح، وارتفاع مؤشرات العنف والتخوين بين الأطراف السورية، واندلاع المواجهات المسلحة في المناطق الكردية.
وعلى الرغم من مراهنة البعض، على تحويل الهوية "الوطنية السورية" الجامعة إلى واقع سياسي عام، يفرض إيقاعه على مجريات الأمور، أثناء الثورة وبعدها، إلا أن تحولات المأساة السورية، كشفت عن تفاقم أزمة "الهوية الوطنية السورية"، مع احتكام مكوناتها، في ظل ظروف الحرب والتدمير الممنهج، إلى الحواضن البدائية للانتماء، ذات الصيغ الأيديولوجية المغلقة.
مع هذا التبدل الجديد، استعاضت أغلب المعارضات السورية لغتها الجامدة اتجاه الكرد، بلغة سائلة وعائمة، مغرقة في العموميات، تطالبهم بالتجرد من هويتهم "القومية"، والإلتحاق بالمشروع السلطوي للدولة "المدنية" الموعودة، متناسية أن بناء دولة "المواطنة" والحقوق المدنية، لا يستوجب تخلص مواطنيها من انتماءاتهم وهوياتهم المتميزة، وجعلهم "نكرات" سياسية وثقافية، تماما، مثلما لا تتطلب "ثقافة المواطنة" من المواطنين، التحرر من هويتهم القومية وإحداث قطيعة مع تاريخهم السياسي والأيديولوجي. هذه المطالبات لا يمكن قراءتها إلا بكونها جزء من سطوة ايديولوجية، وتوظيف سياسي لمفهوم "المواطنة"، كأداة إخضاع وهيمنة.
والحقيقة، أن "المأساة السورية" لم يقتصر اكتشافها على الخلل الموجود في "الهوية الوطنية السورية" فقط، بل تجاوزتها في الكشف عن مستوى الهيمنة والاستغلال الذي يعتري جنبات الرابطة "القومية" التي تجمع الكرد السوريين بإخوتهم في تركيا والعراق، عبر استحواذ الأحزاب الكردية الكبيرة، في البلدين، على صياغة وفعالية القرارت الكردية السورية، ومنعهم بذلك من خلق تصور سياسي واضح حول هويتهم الخاصة. ففي الوقت الذي يصيغ فيه حزب "الاتحاد الديمقراطي"، صاحب السلطة الفعلية في المناطق الكردية، وجود الكرد في سوريا، وفق مفاهيم "الأمة الديمقراطية" وإداراتها "الذاتية"، التي يطرحها زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، تنادي احزاب "المجلس الوطني الكردي"، القريبة من رئيس أقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، بضرورة تطبيق "اللامركزية السياسية"،الشبيهة بصيغة الفيدرالية الكردية في كردستان العراق.
والحال هذه، فإن الكرد في سوريا باتوا أمام تعقيد أكبر للمفاهيم الوطنية المتضاربة، وقد دفعتهم المواجهات المسلحة في مناطقهم، إلى تفضيل حلمهم القومي على "وطنيتهم" السورية، دون الاستغناء عن التقرب إلى القوى السورية لتفهم مطالبهم القومية، والاعتراف بهم كقومية ثانية في البلاد، وتبديد مخاوفهم التي تتركز حول مسألتين هامتين، تمسان وجودهم ومستقبلهم السياسي؛ الأولى تتعلق بالتيارات الإسلامية المستحوذة على واجهة المعارضة السورية، والتشكيك في إمكانية قبولها بنظام ديمقراطي حقيقي يجعل من الكرد شركائهم في إدارة البلاد، والأخرى ترتبط بمستوى التدخلات التركية في شأن المعارضة السورية، ومحاولتها تمرير مشاريع مستقبلية، تقصي الكرد عن المشهد المستقبلي للسياسة في سوريا.
لكن وبالرغم من جملة التعقيدات السابقة؛ التي تؤكد أن السبب الأساس في زيادة التناقضات الاجتماعية والسياسية هو افتقاد السوريين لنظام حكم ديمقراطي يحل المعضلات الوطنية بالطرق السياسية، يبدو لافتا أن جوهر العلاقة بين "الانتماء السوري" و"القومي الكردي"، بات محل نقاش وأخذ ورد، في محاولةلإخراج المجتمع السوري من استبدادية الهوية "البعثية"، ودفعه باتجاه صياغة قيم "وطنية جديدة"، لا تقع مهمة إنجازهاعلى عاتق الجانب العربي والكردي فقط، بقدر ما هي مسؤولية جميع السوريين، بكل تياراتهم السياسية والاجتماعية، أملا في إظهار تلك الوطنية كهوية منجزة ومتفاعلة وغير منتهية.
سوريا اليوم، وبكل جراحاتها ومأساتها، تحتاج إلى أكرادها، مثلما يحتاج أكرادها إلى عمقهم السوري، وإلى سوريتهم الجديدة، التي لابد لها أن تعيد تعريف نفسها، بما يتناسب وتعددها الديني والقومي والمذهبي، ذلك التعريف الذي سيكون كفيلا بخلق فرص التوازن بين ما هو كردي وما هو سوري.