بداهة هذا السؤال لاتبرر طرحه إلا من زاوية الإستهجان والاستغراب من مطالب الكورد, ممايريدون..؟!!والإرتياب في شرعية حقوقهم أو طموحهم وتطلعهم لوضع أمثل مستقبلاً. فهذا السؤال يضمر استياءاً خفياً وعميقاً أعمق بكثر من الحياد المعرفي الظاهر، الذي يدعيه. ليس بريئاً بالقدر الذي يعلن فيه عن نفسه بصفته موضوعاً للبحث والتناول المعرفي أو السياسي فحسب.
ما يريده الكورد يتعلق بإرادتهم، ولايتعدى موضوعه حدود إرادة الآخرين، ولهذا لايمكن أن يكون مايريدونه عبئاً أو على حساب الآخرين. إلا إذا أراد الآخرون أن يدسّوا إرادتهم بوازع ما في موضوع إرادة الكورد.
الإرادة المقصودة هنا إرادة عامة، وبعبارة أخرى هي هويّة نوعية في التاريخ. وليست إرادة كمية. لهذا لاتقاس أهدافها وشرعية مقاصدها بمعيار كمي. إنها إرادة الحق، الحق بصفته موضوعاً وغاية للإرادة.
وطالما إن الأمر يتعلق بالإرادة، فالكورد وحدهم معنيون بمصيرهم في سوريا، وهم من يقررون أن يكونوا سوريين حقيقيين بإرادتهم الحرّة. لا مرغمين أو مكرهين بوصاية غيرهم وإرادتهم. لا أحد يستطيع أن يجعل الآخرين سعداء مكرهين, أو يرغمهم على دخول الفردوس. الذين لايؤمنون بحق البشر والجماعات في العدل والمساواة والحرية يستطيعون ببساطة شديدة أن يتنكروا لهذا المبدأ ويرفضوه. إن ما يجعل الكورد سوريين ويحثّهم على الكفاح لأجل سوريتهم هو فقط الأمل في الحرية وليس أيّ شيء آخر. لا مداهنات أخوية, ولا تملق آيديولوجي مجاني من أي صنف أو نوع، ولا أية مصادفة تاريخية اعتباطية جعلتهم سوريين دون إرادتهم. بقدر ما ستكون سوريا حرة, وبقدر ما سيكونون أحراراً فيها ومتساوين مع غيرهم, سينحازون لها.
الكورد في سوريا (غرب كوردستان) لايتفيؤون بظلال تاريخ أحد، ولابشرعيتهم السياسية. وشرعية حقوقهم تنبثق من هنا بالذات، لا من أيّ مصدر آخر. وهذه الحقوق تتمثل في مبدأ رئيس وبدهي، هو حقهم في تقرير مصيرهم وفي أن يكونوا سوريين بإرادتهم الحرّة.
الوجود الكوردي حقيقة تاريخية وجغرافية علمية, وحقوق الكورد ليست بدعة أيديولوجية أو اختراع سياسي. وهذه الحقيقة أقدم بكثير من حقيقة سوريا السياسية وأكثر شرعية من الناحية التاريخية. وكما أنكم لاتستطيعون إنكار الحقيقة العلمية لـ( تفاحة نيوتن) فلايمكنكم إنكار هذه الحقيقة العلمية التي يمكن التحقق من علميتها بالرجوع إلى التاريخ. يمكنكم أن تتنكروا للحق أو الحقوق أو تساموا عليها أما الحقيقة العلمية فمن المحال تجاهلها.
الشعب السوري واحد...هذا الشعار لم يعد سوى خرافة حسنة النيّة. فقط لاحظوا حجم الحقد والكراهية والعنف الرمزي المقنّع في خطاب المعارضة الإسلامية, راقبوا مشاعر الشارع عبر ترجمة الشعارات السائدة لديه( النصيريون المجوس, الكورد المرتدون, المسيحيون الكفرة, الدروز...الاسماعيلية....الخ) وهذا الأمر لم يعتد يقتصر على الشحنات الانفعالية في الشعارات المعلنة, وإنما أخذ يتجسد في عمليات الانتقام المتبادل التي حصلت وتحصل على نحو متزايد ومكثف في معظم المدن السورية. بداهة النظام أراد ذلك وسعى إليه بكل طاقته, ومن يسّر له هذا الأمر ومنحه الشرعية هي المعارضة المتأسلمة وحلفائها كي يبرروا بهذا خطابهم ويسوّقوه على أنه خطاب الإنقاذ الوحيد والبديل. لقد هللوا في الخفاء لهذا الأمر ونجحوا بموازاة فعل النظام في تحقيق هذه الكارثة, وتقاسموا معه المنافع غير البريئة لهذا الهدف
السوريون ساروا ويسيرون قدماً بخطى راسخة على دروب الكراهية نحو عداوة أبدية. من يدفعهم إلى ذلك يدركون ذلك جيداً, ويملكون من الخبث والعقل الشياطني مايجعل التعايش بينهم محالاً بعد اليوم. والثورة السورية التي بدأت كثورة عظيمة انتهت كسيرك عملاق للقتل والخراب, انتهت كجحيم مفتوح يلهو فيه جميع شياطين الأرض وأقزامه. الآن صار بوسع كل لص وقاطع طريق وبهلوان ومخادع أن ينتحل صفة القديس ويقحم نفسه فيها.
الكلّ مارس ويمارس فعل التقسيم, ممارسات الجميع أفضت وتفضي إلى تقسيم البلد اجتماعياً وجغرافياً وسياسياً, الكل بالفعل انفصاليين ويفصلون بين السوريين بأسوار الجماجم والدم, الإخوان, السنة العرب, التركمان, وحدهم الكورد المتهمون هنا بالانفصال دون غيرهم, الكورد هنا مشجب فعل التقسيم ونواياه لدى الجميع, مع العلم أن الكورد دون غيرهم ينفردون بطرح حلول لمشاكلهم في سياق وطن ديمقراطي وتعددي موحد, وقد بحّ صوتهم بهذا الشعار دون أن يصدقهم أحد..
دعونا نبدأ من هنا، من الذي يضمن بقاء سوريا موحّدة بكل هذا التفكك والتناحر والخراب؟واهم جداً من يتخيل أن سوريا يمكنها أن تحيا بعد الآن في حكم مستبد, وواهم أكثر من يعتقد أنها يمكن أن تكون سلفية ويدعو لذلك, وأشدّ وهماً من هذين من يعتقد أنها ستحتمل بعد الآن طغيان أية أيديولوجية عروبية عنصرية تلغي الآخر. سوريا يمكنها البقاء بذاتها دون الاستعانة بأية تخريفات أيديولوجية من خارجها. ومن هنا يبدأ التأسيس الكبير للحل الوطني الشامل، وهذا هو الأفق الذي يمكن ضمنه حلّ القضية الكوردية.
المسألة الرئيسة تكمن في كيفية المصالحة مع المستقبل, في هذه الجغرافية السياسية, وهذا ما يمكن أن نتوقعه من هذا التحول التاريخي. وفي هذا السياق تشكل الدولة الوطنية- الحديثة الإطار السياسي والحقوقي الأرقى لتنظيم الحياة المشتركة في هذه الجغرافية. كل ذلك عبر المساهمة الحرّة للجميع في تقرير مصيرهم السياسي, والسعي إلى أن يكون مستقبلهم هو ذاتهم, ولا شيء غير ذاتهم, المستقبل الذي ينبغي أن يسهموا في صناعته ويحققوا ذاتهم فيه تحقيقاً حرّاً.
ما يجدر ذكره, في هذا السياق, أنه ليس ثمة بينة أو قرينة تنبئ عن استعداد المعارضة العربية السورية على الاعتراف بالحقوق القومية للكورد السوريين, أو إعلان القطيعة مع ميراث البعث العنصري وسياساته الإنكارية تجاه الكورد وقضيتهم حتى هذه اللحظة. وهذه القوى حين تجد نفسها مرغمة على الحديث عن الشأن الكوردي السوري إنما تتحدث بطريقة عمومية وضبابية أقرب ما تكون إلى تصريحات وزراء أعلام حكومة البعث وناطقيه. وهي في ذات الوقت تطالبنا بتأييد مطالبها السياسية بحزم دون الاكتراث لحقوقنا العادلة بالمقابل. ويتعذر اليوم الحديث عن تحالف مشترك للمعارضة السورية, شامل للكورد والعرب, بغياب هذا الخطاب الديمقراطي, الجذري والشامل, الذي يحتوي مطالب الكل ويستغرقها, ويؤكد على عدالة القضية القومية للكورد السوريين.
إن الاعتقاد بسوريّة القضية الكوردية والاعتراف بها, من جانب هؤلاء, لا ينبغي أن يقوما على أساس وعي عروبي مجرد, وإنما من خلال وعي سوري مشخّص. وعي بالمواطنة القائمة على الاختلاف والإقرار بالتعددية السياسية والتاريخية والثقافية. وهذا الاعتقاد لا يكون ممكناً إلا عبر الإقرار الدستوري والسياسي أن هويّة سورية السياسية ليست عربية فقط, ولا ينبغي أن تكون عروبية كذلك، إنما هي تعددية. وينبغي لأيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم, وأن يجد أسسه الواقعية في هذا التنوع ويعكسه في مبادئه العامة. وعادة ما يكون الدستور هو الناظم لهذه المبادئ العامة ولعلاقاته. ولهذا من العدل تماماً أن ينصّ الدستور السوري مستقبلاً ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي دولة متعددة القوميات، وأن العرب والكورد يمثلان القوميتين الرئيستين. إلى جانب الاعتراف بحقوق الجماعات القومية الأخرى كـ الكلد والآشوريين وغيرهم. وأن على أيّ دستور ديمقراطي محتمل لسوريا أن يقرّ بالتساوي التامّ بين العرب والكورد في المكانة والدور, وفي الحقوق والوجبات, كمدخل عادل ورئيس لحلّ القضية القومية للكورد في سوريا. وعليه أن ينصّ كذلك بأن البرلمان، أو أيّة سلطة أخرى, لا يملك حق المساس, بهذا المبدأ, أو يحدّ من شموليته ومن تحققه في كلّ مناحي الحياة السياسية أو الاجتماعية، وأن أيّ قانون يمسّ هذا المبدأ أو وجاهته يطعن في دستوريته, ويعدّ مخالفاً لعقد التأسيس والشراكة, وباطلاً في نهاية المطاف.
الانتماء لسوريا هو أعدل الأشياء بيننا, هذا ما ينبغي إعلانه والتأكيد عليه. وبكل المعايير ليس هناك ممن هو سوري أكثر من سواه أو أقلّ سوريّة. سوريا هي للجميع دون تفاوت أو تفاضل. ولا معنى لحرية أيّة جماعة من دون هذه المساواة بين الكل. وعلى أيّ نظام سياسي محتمل يتصدى للتغيير أن يبرهن على أرض الواقع, وبصورة عملية, أن سوريا هي كورديّة بمقدار ما هي عربية, وعربية بمقدار ما ستكون كوردية. وهي في الآن نفسه ليست كوردية, أو لن تكون كذلك, بمقدار ما لن تكون عربية وحسب. وعدم القبول بهذه البداهة السياسية والثقافية سيقود المجتمع والدولة مجدداً إلى الخضوع لطغيان فئة أو جماعة عرقية, ويستبعد البقية.