لم تخل البيئة التي توالي النظام اليوم من المعارضين طوال فترة حكم البعث حتى آذار 2011. كان يغلب على هؤلاء المعارضين الاتجاه اليساري (شيوعي أو قومي). الكثير منهم دفع، خلال تلك الفترة، ثمن مواقفه المعارضة للنظام. كان ذلك خيطاً دائماً في نسيج حياة ذلك المجتمع. ومن الناحية السياسية كانت الأحزاب التي انتمى لها المعارضون من هذه البيئة جذرية في طروحاتها وبرامجها. منها حزب العمل الشيوعي (ضم سوريين من كل المنابت) الذي شغل الموقع الأقصى في طيف اليسار السوري (1976-1992)، وكان التنظيم السياسي اليساري الوحيد الذي رفع شعار إسقاط النظام (بناء على تحليل نظري يرى في النظام السوري نظاماً لاوطنياً، بمعنى أنه يرهن البلاد اقتصادياً وسياسياً لمنظومة رأسمالية عالمية بما لا يخدم مصلحة السوريين في الاستقلال الاقتصادي والسياسي وبالتالي في التحرر الوطني)، هذا فضلاً عن انضوائهم في الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وفي حزب البعث الديموقراطي الاشتراكي الذي كان يسمى شعبياً جناح صلاح جديد أو جماعة 23 شباط (تاريخ الانقلاب الذي قاده صلاح جديد على القيادة البعثية اليمينية في 1966)، وفي غيرها من التنظيمات المعارضة.
الأكثر أهمية في تأمل تلك الفترة هو أن الوعي العام داخل هذه البيئة كان يبدي احتراماً لهؤلاء المعارضين بصرف النظر عن الاتفاق بالرأي السياسي معهم أم لا. أي كان ثمة في الوعي العام لهذا المجتمع مساحة كافية لقبول وجود معارضة، وغالباً ما كانت الفكرة العامة عن هؤلاء المعارضين أنهم حالمون (كناية عن صعوبة التغيير أمام قوة جهاز الدولة، وعن سمو أو طوباوية ما يطالبون به من عدالة وحرية)، وأنهم نزيهون (كناية عن بعدهم عن فساد أهل النظام الذي يقر به الموالي كالمعارض) ولكن لم يكن ثمة نزعة عامة عدوانية تجاههم.
بعد آذار 2011، بدأ يطرأ تغير حاسم في الوعي العام داخل هذه البيئة. مع الوقت بدأ الوعي العام في المجتمع الموالي يخسر رحابته وينغلق على استقطاب ذهني حاد يرى في النظام مستقراً لإلفته واعتياده، ويرى في المعارضة تجسيداً للاغتراب والضياع. كانت تلك آلية نفسية أكثر منها معرفية، أو الأدق أنها كانت آلية نفسية مضادة للمعرفة. وقد تمت تغذية هذه الآلية عبر إعلام مدروس (رسمي وغير رسمي) ركز في البداية على خلق صد نفسي لدى الناس تجاه كائنات مجهولة تريد التخريب والقتل ..الخ، وذلك بالإشاعات وإثارة المخاوف الطائفية ووضع الناس في دوامة من القلق المفتعل، كانت محافظة اللاذقية مسرحاً نموذجياً لها.
بعد ذلك عمل الإعلام على إبراز أفعال عنيفة وشديدة البشاعة منسوبة إلى المعارضة، بطريقة تريد أن تجعل من هذه الأفعال تكثيفاً للمعارضة. وتعدى الأمر ذلك إلى محاولة تشرير المفاهيم التي تحرّك الناس لها في البداية، فكان يتم تسليط الضوء على أفعال سيئة يرتكبها معارضون ثم ينسبون الفعل إلى مفهوم الحرية التي يطالب بها هؤلاء (هذه هي الحرية التي تريدونها؟).
استفاد إعلام النظام من استعداد مسبق لدى هذه البيئة بالإصغاء إلى رواية النظام عما يجري، ومن قصور حاد في سياسة وإعلام المعارضة المواكبة للأحداث. القصور الذي تمثل في عدم إدانة الجرائم التي ارتكبها أناس محسوبون على المعارضة. بالنتيجة استوعب هذا الاستقطاب النفسي كل مساوئ النظام وعيوبه، أي لم تعد مساوئ النظام من فساد وقمع معمم وإفقار وتشبيح..الخ تدفع المجتمع الموالي إلى التفكير بالتغيير أو الإصلاح. فقد تحول هذا المجتمع بعد الثورة إلى مجتمع محافظ لا يمتلك حتى القدرة النفسية على قبول معارضة. كل معارض للنظام، مهما كان، بات يمتصه قطب واحد في ذهن الموالي، ويمثل هذا القطب أبشع فعل يُنسب إلى المعارضة. على هذا يصبح كل معارض في ذهنية الموالي هو (آكل قلوب) مثلاً، نسبة إلى شخص محسوب على المعارضة قام بهذا الفعل. ووفق الآلية النفسية ذاتها، بات النظام ككل، بعجره وبجره، هو البيت الذي لا يريد الموالي أن يخرج منه، بصرف النظر عن مساوئه، إلى خارجٍ جرى تجهيله وتغريبه عنه بعناية.
لم يفعل الوقت لصالح كسر حدة هذا الاستقطاب، على العكس ازدادت حدته عبر التغذية المتبادلة للكراهية بين بيئتي المعارضة والموالاة، الكراهية التي حُملت على ذراع سياسي وآخر طائفي. وقد كان من حدة الاستقطاب أنه جعل جمهور المولاة يرى في الشبيح السابق بطلاً ويسكت عن مجازر ترتكب على يد قوات تابعة للنظام، وجعل جمهور المعارضة يرى في مجرمين سابقين ثواراً ويسكت عن أفعال وحشية يرتكبها مسلحو المعارضة. عرضت الآلية النفسية لدى جمهور الموالاة بالخاصة، لكن في الواقع إن ثمة آلية نفسية مشابهة تعمل لدى جمهور المعارضة من شأنها أن تطرد المعرفة أو تفككها بما يخدم الوظيفة النفسية للاستقطاب ذاته. كل جمهور بات يمتلئ حتى الشفة بشعوره بالحق، فلا يتسع صدره لأدنى انتقاد، فضلاً عن أنه يجرد الجمهور الآخر من أي حق. هذا يتجلى في انعدام أي لغة تواصل بين الطرفين سوى لغة الرصاص والاتهامات القصوى المتبادلة التي تصل إلى حدود الشتم. وهذا في الحق يعبر عن أزمة حادة لدى كلا الطرفين. السؤال هو: هل توجد نقطة يمكن عندها لجمهور كل طرف أن ينفك عن قطبه ويبدأ عملية استقطاب جديدة تحمل أملاً بالخلاص؟ أم أن الاستقطاب الذي تأسس سيبقى يأكل المجتمع السوري إلى أن تكسره قوة خارجية، ذلك أن التجارب المعروفة تشير إلى أن الانغلاق على الشعور بامتلاك الحق لا يتغير إلا بفعل خارجي؟