على رغم ما يمثله يوم "النوروز" من رمزية متجذّرة في وجدان الكرد، كونه العيد القومي الأكبرللشعب الكردي بأسْره، إلا أنّ الاحتفالات فيه لطالما عكست حدّة الانقسام السياسي في الشارع الكردي. فعند إحياء الاحتفال يكون لكل فريق سياسي مسرحه وجمهورالذي يتغنى بشعاراته ويحتفي بأعلامه ويرفع صور رموزه وقادته.
وإن تعدّد المقاربات التي عرض لها الزملاء في مقالاتهم ضمن الملف واختلافها، يؤكد وجود وجهات نظر متباينة لدى الكرد السوريين ونخبهم حيال مستقبل قضيتهم في سوريا وسبل معالجتها. غير أنّه، باستثناء إشارتين وردتا بعجالة،إحداهما في مقال الزميل هيثم حسين والثانية في مقال الزميل عماد مفرح مصطفى، فإنّ المقالات خلت من تناول الخلافات العميقة فيما بين القوى الكردية السورية وخلفياتها.
وخلافاً لما ذهب إليه الصديق سربست نبيب القول: "مايريده الكورد يتعلق بإرادتهم، ولايتعدى موضوعه حدود إرادة الآخرين"، وأنهم "وحدهم معنيون بمصيرهم في سوريا"، وبصرف النظر عن موقف "العرب السوريين"، يجدر التذكير بدور العوامل غير الكردية، الإقليمية والدولية وتأثيرها الحاسم في هذه القضية.ولا يقل عن ذلك أهميةً، الأخذ بالاعتبار أنّه برغم تباين ظروف نضال الشعب الكردي واختلاف خصائص قضيته تبعاً لاختلاف ظروف وخصائص الدول القائمة التي تضم أجزاء كردستان الأربعة وبنى أنظمتها أيضاً، يكاد يكون تاريخ القضية الكردية في كلٍّ منها صدىً لتطوراتها وتحولاتها في بقية الأجزاء، لا سيما مجرياتها في "كردستان تركيا" و"كردستان العراق" على نحو خاص.
وتالياً، فإنّ مستقبل كرد سوريا لا "يتعلق بإرادتهم" فقط، ولا هم "وحدهم معنيون بمصيرهم فيسوريا"، خاصّة وأنهم نالوا النصيب الأكبر من تدخلات الأحزاب الكردية التركية والعراقية في شؤونهم. بل ثمّة من يرى أنهم عملوا من أجل إخوانهم في العراق وتركيا أكثر مما عملوا لأنفسهم، وكيف أنّ ذلك أدى على مدى عقود إلى استنزاف طاقات المجتمع الكردي السوري، مما انعكس سلباً على فعاليتهم السياسية في سوريا.
إذن،لا بد عند مناقشة "ماذا يريد الكرد في سوريا؟" من الإضاءة على بعض تلك الجوانب، بغية الوصول إلى فهم أعمق للقضية الكردية في سوريا وتعقيداتها. وهذا ما ستحاوله السطور التالية.
لم يكن العامل الأيديولوجي وحده السبب في الخلافات الكردية– الكردية في سوريا وتباين أهدافها وتعبيرها عن إرادات مختلفة. فالامتدادات والارتباطات الإقليمية للأحزاب الكردية السورية، وتحالفات بعضها (عبر تلك الامتدادات) مع أنظمة ودول فاعلة في المنطقة وفي العالم، تعدّ العامل الرئيس في خلافاتها كما في انشقاقاتها الداخلية، التي لا يخلو بعضها من طموحات شخصية ومصالح فئوية ضيقة أحياناً. كل ذلك ألقى بظلاله الثقيلة على تطوّر القضية الكردية في سوريا.
عام 1957 نشأ في دمشق أول حزب كردي سوري، تحت اسم: الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي). ارتبط (البارتي) السوري منذ بداياته بعلاقات وثيقة مع الحركة القومية الكردية في العراق، ممثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي لعب أحد أعضاء لجنته المركزية آنذاك، وهو جلال الطالباني، دوراً فاعلاً في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا. أدى ذلك لاحقاً إلى تأثّر البارتي السوري بمختلف الأزمات والانقسامات التي عصفت بنظيره العراقي، ابتداءً من انحياز فريق منه إلى جانب جلال الطالباني واستمرار فريق آخر في الولاء للملا مصطفى البارزاني، وخروج فريق ثالث نأى بنفسه عن تلك التجاذبات، إثر الخلافات التي أدت إلى انقسام الحزب في العراق خلال ستينيات القرن الماضي.
سعى الحزب الكردستاني في العراق إلى استتباع الأحزاب الكردية السورية والهيمنة على قرارها، وقد أدى ذلك إلى ظهور تيارات مناوئة له تتبنى مقاربات وطنية لقضية الكرد السوريين في ضوء المعطيات السورية. ويرى بعضهم أنّ اختيار هذا الحزب السوري أو ذاك لصفة "الكردستاني" أو "الكردي" في اسم الحزب ليست مسألة شكلية، وإنما تعكس التباين الأيديولوجي بين من ينظر إلى كُرد سوريا وقضيتهم كجزء من قضية "كردستان الكبرى"، وبين من نحا إلى اعتبار الكرد السوريين جزءاً من النسيج السوري، وأن حلّ قضيتهم إنما يتم ضمن الإطار الوطني السوري. وقد تعرّض أصحاب التوجه "الكردي السوري" لاتهامات من قبل"الخط الكردستاني" بلغت حدّ وصفهم بالانتهازية و"خيانة" القضية القومية، وبأنهم ينظرون إلى الكردالسوريين كأقلية قومية،تسعى للاعتراف بالحقوق الثقافية فقط. في حين اتُهِم "الخط الكردستاني" بالارتهان لأجندات غير وطنية، لا تصبّ في مصلحة الكرد السوريين وقضيتهم.
اليوم، من بين خمسة عشر حزباً كردياً تتوزع على الساحة السياسية الكردية السورية، يوجد اثنا عشر حزباً تعود أصولها إلى (البارتي) وانشقاقاته المتعددة. ومعظم تلك الأحزاب لم تتوقف يوماً عن العمل بالتنسيق مع أحد الشقيقين العراقيين اللدودين: الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني، والاتحاد الوطني بزعامة طالباني.
من جهتها، حفرت قضية "كردستان تركيا" عميقاً في مسارات العمل السياسي الكردي السوري، إذ شكّل ظهور حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا أواخر سبعينيات القرن المنصرم، انعطافة حاسمة في مسار القضية الكردية في سوريا. فبعد إعلان الحزب عن بدء كفاحه المسلح والشروع بحرب عصابات داخل الأراضي التركية صيف العام 1984، انتقل زعيمه عبد الله أوجالان إلى سوريا، وواصل من هناك قيادة عمليات حزبه العسكرية ضدّ الأتراك. سياسات النظام السوري التعريبية والقمعية تجاه المناطق الكردية السورية لم تمنع أوجلان وحزب العمال الكردستاني (التركي) من العمل بالتنسيق مع النظام وتلقي مختلف أشكال الدعم منه، وهو ما وصفته وثائق الحزب بـ"التحالف مع النظام التقدمي في سوريا".وقد عمل النظام على الاستفادة من (PKK) في إطار حرب المصالح السورية التركية.
مع تصاعد نشاطه العسكري في تركيا، تعاظم نفوذ الحزب في المجتمع الكردي السوري، إذ جذب خطابه القومي الطبقي الماركسي شرائح واسعة من الشباب الكردي السوري المتحمّس، فوجدوا فيه بديلاً عن الأحزاب الكردية القومية التقليدية وصراعاتها التي لا تنتهي. ولعل مسألة الموقف من إسرائيل أضافت عاملاً آخر ساعد في تجذّر تيار أوجلان بين الكرد السوريين، ومعلوم ما لهذا الأمر من تأثيرات هامّة في ظل استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ سورية. ففي مقابل تحالف حزب العمال الكردستاني مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، ومشاركة أوجلان نفسه في مواجهة الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان، كثيراً ما سبّب البارزاني وحزبه "إحراجاً" لحلفاءه وأنصاره من القوى الكردية السورية نتيجة صلاته المتينة مع إسرائيل، المستمرة منذ أواخر ستينيات القرن الماضي.
في المقابل واجه حزب العمال الكردستاني انتقادات حادة من قبل الأحزاب الكردية السورية، التي رأت أن النظام استخدم الحزب التركي"لكبح جماح الكرد السوريين والسيطرة على تطلعاتهم القومية في سوريا". وقد حاولت تلك الأحزاب مقاومة نفوذ أوجلان وحزبه من خلال التركيز على وصفه بأنه"يبقى حزبا كرديا تركيا بينماهي أحزاب وطنية كردية سورية".
بعد تسوية تركية – سورية، أدت إلى إخراج أوجلان من سوريا وانتهت به إلى السجون التركية، طويت صفحة (PKK) في سوريا، ولكن إلى حين. فقد ظهر لاحقاً حزب كردي سوري جديد تحت اسم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، أعلنت أدبياته صراحة التزامه بالخط الأوجالاني. أعاد (PYD) تنظيم كوادر حزب العمال وورث قاعدته الشعبية الواسعة في الأوساط الكردية السورية.
كل ما تقدّم ساهم في رسم المشهد الكردي السوري لما بعد آذار 2011. إذ عادت إلى الواجهة الصراعات بين اتجاهات متناقضة تعبر عنها الأحزاب ذاتها بارتباطاتها وامتداداتها الإقليمية عينها. فمثلاً، تأمل أحزاب "المجلس الوطني الكردي"، المقربة من حكومة إقليم كردستان العراق، في الوصول إلى نظام فيدرالي شبيه بوضع الإقليم العراقي. بينما يعمل حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني التركي، على تطبيق ما تضمّنه برنامجه السياسي حول "الإدارة الديمقراطية الذاتية" وذلك "دون المساس بالحدود السياسية القائمة".
ورغم إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي انحيازه إلى مشروع التغيير في سوريا ومعارضته للنظام، تواظب أطراف من المعارضة السورية السياسية والعسكرية، كما من القوى الكردية الأخرى، على اتهامه بالعمالة للنظام وذلك لرفضه فتح جبهات ضد النظام انطلاقاً من المناطق التي يسيطر عليها. في حين يرى (PYD) أنّ موقفه من النظام "أقرب إلى مفهوم الهدنة في القاموس السياسي مع استمرار التباين والاختلاف البنيوي". لتتعمّق الخلافات بفعل المعطيات التي استجدّت على الأرض، وسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)على معظم المناطق الكردية، ثم إعلانه إقامة "الإدارة الذاتية"، واتهام الأحزاب الكردية له بإقصائها والانفراد بالسلطة.
ومشروع "الإدارة الذاتية الديمقراطية" ذاك، هو ترجمة عملية للتنظير الأوجلاني الجديد، حول"الأمة الديمقراطية" و"المجتمع الديمقراطي"، وما إليها من مفاهيم نظّر لها زعيم (PKK) في مؤلفاته خلال السنوات القليلة الماضية، لا سيما كتابه "قضايا الدمقرطة في تركيا، نماذج الحل في كردستان"، والتي بنى عليها رؤيته لمشروع السلام في تركيا.وذلك يتناقض مع المشروع القومي الكردي، و"كردستان الكبرى"، الذي يصرّ عليه بعض خصوم (PYD).
يبقى القول إنّ الجواب عن سؤال "ماذا يريد الكرد في سوريا؟" مرهون بتوافق قواهم وأحزابهم السياسية، التي تتحمّل مسؤولية تاريخية، يزيد من وطأتها الخطر الداهم المتمثل بالحرب التي يشنها مجانين الجهاد ضدّ الكرد في سوريا والعراق.وعلى الساسة والمثقفين الكرد أن يكونوا على مستوى تضحيات شعبهم، الذي لا يكترث لانقسامات الأحزاب واختلافات الساسة في لحظة الحقيقة، بدليل الصمود الأسطوري في كوباني وغيرها. ولعل من المفيد ذكره حادثة عميقة الدلالة، رواها أحد الأصدقاء عن ذكرياته أيام انتفاضة آذار (مارس) 2004 في القامشلي: شابان كرديان يهرعان تحت وابل من رصاص قوات النظام لإنقاذ شخصٍ أصيب في إحدى المظاهرات. وللمصادفة كان المنقذان من فصيلين سياسيين متناحرين والشاب المصاب من فصيل ثالث. إنّه الدم الكردي الواحد، فهل سيتوصل قادة الكرد السوريين إلى موقف واحد؟