أ- تجفيف منابع الدعم للتشكيلات المعتدلة
بحسب الملاحظة، تنقسم التشكيلات العسكرية المعارضة في سوريا بين تشكيلات معتدلة غالباً ما يطلق عليها اسم "الجيش الحر"، وأخرى متطرفة تندرج تحت اسم "التشكيلات السلفية الجهادية"، بينما كلا الطرفين، المعتدل والجهادي، فينتمي إلى أيديولوجيا الاسلام السياسي بنسخه المتعددة.
مع تنامي الصراع المسلح في سوريا، لعبت مصادر التمويل دوراً حاسماً في أهميته ( أهمية من؟)، وشكلت عاملاً مهماً في استمرار وتوسع العديد من التشكيلات العسكرية المعارضة وانحلال تشكيلات اخرى وتفككها.
وانحصرت مصادر التمويل في جهات دولية وإقليمية محددة، تراوحت بين بلدان إقليمية كقطر والسعودية وتركية والأردن، وأخرى دولية كالولايات الأمريكية المتحدة وفرنسا وغيرها.
استمرت أغلب التشكيلات العسكرية وتحديداً تلك التي توصف بأنها تشكيلات سلفية جهادية بتلقي الدعم من مصادر تمويلها وهي غالبا قطر والسعودية وتركيا، بينما تمكنت من تعزيز أوضاعها الاقتصادية عبر سلسلة من النشاطات الاقتصادية المختلفة كالسيطرة على آبار النفط وخطوط الإمداد والمعابر الحدودية، كما في حالة تنظيم جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية "داعش" والجبهة الاسلامية.. وغيرها من التشكيلات المتطرفة؛ بالمقابل عمد العديد من الممولين إلى التلكؤ في دعم التشكيلات المدعوّة بالمعتدلة كحركة حزم وحركة ثوار سوريا المدعومتان من قبل أميركا، وأثر تجفيف الدعم هذا والذي ينطبق على أغلب التشكيلات العسكرية المشابهة، على أدائها القتالي من جهة وعلى استمرار المقاتلين في العمل تحت إمرتها من جهة اخرى.
حيث عجزت هذه التشكيلات مع الوقت من صرف رواتب مقاتليها وإعالة عائلاتهم، وهو الشيء الذي شكل دافعاً مهماً أجبر العديد من المقاتلين، جماعات وأفراداً، للانشقاق عن هذه التشكيلات، وإعلان "مبايعتهم" وانضمامهم إلى التشكيلات المتطرفة صاحبة التمويل المستقر، والقادرة على إعالة مقاتليها وعوائلهم. وبحسب توماس بييريه: "يعود السبب الرئيسي في نجاح السلفيين المتشددين خلال العام 2012 إلى حصولهم على موارد مالية متفوقة.. وقد جعلتهم تلك الموارد أكثر جاذبية وأكثر انضباطاً مقارنة مع المجموعات التي كانت تضطر أحياناً لتمويل نفسها من خلال عمليات النهب والممارسات الإجرامية الأخرى"[1].
بينما وصلت المرتبات التي صرفتها بعض التشكيلات الجهادية لمقاتليها حتى 400 دولار كما في حالة تنظيم الدولة الاسلامية "داعش"[2]، بينما تشكيلات أخرى كجيش الاسلام فقد كانت تصرف رواتب لمقاتليها تصل حتى 150 دولار، بالإضافة لتوزيع بعض الحصص الغذائية لأسر المقاتلين.
وعلى الرغم من تواضع هذه المرتبات إلا أنها شكلت في كثير من الحالات مصدر دخل مهم ساهم في تخفيف وطأة الفقر وساهم في صون كرامة العديد من أسر الشبان المنضوين تحت إمرة هذه التشكيلات العسكرية.
ب- عنف نظام الأسد وتصاعد الخطاب المتشدد
منذ اليوم الأول لانطلاقة موجة الاحتجاجات السورية، اختار نظام الأسد الحل الأمني في مواجهة مطالب المحتجين، وخلال فترة قصيرة لم تتعدى البضعة أشهر زج النظام بقوات الجيش والأجهزة الأمنية والتي ارتكبت بمساعدة الميليشيات الموالية للنظام العشرات من الجرائم والمجازر بحق المدنيين، حتى وصل عدد الضحايا الذي سقطوا منذ انطلاق الاحتجاجات وحتى نهاية اكتوبر 2014 والموثقين بشكل كامل[3]: 130,015 شهيداً، بينما العدد التقديري لأعداد الضحايا فوصل حتى 250.000 ألف شهيداً، وكان مجموع عدد ضحايا العنف للفترة الممتدة منذ منتصف آذار وحتى نهاية تشرين أول 2014 والذي يضم شهداء وجرحى ومعتقلين ومفقودين، ولاجئين، ونازحين حوالي: 12,738,025.
أي أن أكثر من نصف سكان سوريا بات منكوباً في ظل العنف الدائر، وأن هذا المناخ لم يؤدي عبر كل الفترة الماضية سوى إلى انتعاش مشاعر الغضب والكراهية والرغبة بالثأر، وهي المشاعر التي باتت سائدة لدى أوساط السوريين وتحديدا الشبان منهم.
في هذا المناخ المشحون بالغضب والكراهية انتعشت التيارات المتطرفة والتي تمكنت من استثمار هذه الأجواء عبر بث خطاب متطرف لأبعد الدرجات سعت من خلاله إلى محاكاة ما يعتمل في صدور الشبان المنكوبين ورغبتهم في الثأر لذويهم الذين سقطوا على يد قوات الأسد.
لعب الخطاب الإسلاموي المتطرف دوراً مهماً في استقطاب الشبان الغاضب، حيث قدم لهم إجابات -حتى وإن كانت وهمية- حول جملة الأسئلة التي أثارتها شدة الصراعات الدائرة، كما لامست مشاعر الاحباط في أعماقهم وكانت في هذا السياق تلبية للشعور باليأس والعجز وفي الوقت ذاته ودافعاً للاستمرار في مواجهة نظام الأسد.
وتدريجيا باتت القاعدة السائدة: مزيداً من التطرف مزيداً من الاستقطاب، وحل الخطاب الجهادي مكان الخطاب الثوري، وبات الجهاد وفق سرديات منظري الإسلام السياسي فرض عين على كل "مسلم"، واستبدلت مفردات وحلت محلها أخرى، وتحوّل الصراع من صراع من أجل المستقبل إلى صراع من أجل إعلاء كلمة الله، وانخرط الشبان اليائس بسهولة في هذه الموجة من التطرف، وباتت الجهادية بطقوسها المعتادة تشكل هوية اجتماعية استقطابية تشد الجميع وتعينهم على الاستمرار في العمل ضد نظام الأسد في مناخ كل ما فيه يدعو إلى اليأس، وتحديداً الموقف الدولي المتخاذل إزاء جرائم نظام الأسد.
ت- التخاذل الدولي والشعور بالمرارة
شعر السوريون أنهم بمفردهم في هذه المعركة، وكان الموقف الدولي المتخاذل يولد المزيد من اليأس والاحباط في أوساط السوريين، وتحديداً بعد تراجع الرئيس الأميركي عما اعتبره في أثنائه أنه يشكل خطاً أحمراً، وأن التدخل العسكري سيكون هو الرد إن قارب نظام الأسد هذا الخط.
وارتكبت العشرات من المجازر بما فيها مجزرة الكيمياوي في أواسط آب من عام 2013، وسقط الآلاف من الضحايا، وكل ذلك كان على مرأى من دول العالم التي أشبعت شعوبنا خطابات في الديموقراطية وحقوق الانسان، بينما على أرض الواقع بقيت متلكئة في دعمها لمطالب المنتفضين في سوريا، وتحديداً أولئك الذين تقدموا الاحتجاجات الشعبية عام 2011.
وكان الصراع السوري اختباراً فعلياً لهذا الخطاب العالمي، بينما تجاهل دول العالم المتمدن لما يحدث في سوريا، فسيدفع بالعديد من الشبان الثائر للكفر بثقافة الديموقراطية التي يذبح السوريون على مرأى منها، وكان البديل حاضراً في جعبة التيارات الجهادية، وحلّ خطاب الجهاد مكان الخطاب الديموقراطي، وشكل في هذا السياق تكثيفاً حياً لردود أفعال المنتفضين الذين أنهكتهم الحرب الدائرة وعنف قوات النظام وما فرضه من حصار على السكان ودفعهم إلى التطرف واستجرار المزيد من العنف، بينما كان الشعور باليأس من مواقف دول العالم المتقدم كفيلة بفقدان الثقة بالخطاب الديموقراطي جملة وتفصيلاً، وتشكل مناخ خصب لنقل الصراعات الاجتماعية الدائرة في سوريا من أرض الواقع إلى سماوات الأوهام.
خاطبت الفصائل المتطرفة غرائز المنكوبين ومشاعرهم، وانتعشت وترعرعت بفعل فشل قوى الثورة الديموقراطية من التقدم في مشروعها والإطاحة بنظام الأسد، فكانت التيارات الجهادية وفق ذلك، نتيجة موضوعية لفشل قوى الثورة في التقدم بمطالبها، وهي لذلك كانت نتيجة للاستعصاء الحاصل في الصراع السوري ونتيجة له في الآن ذاته.
تمكنت التيارات الجهادية من استغلال الوضع التي آلت إليه الأمور في سوريا، وشكلت هذه الأوضاع في مجملها مناخ غنياً للتعبئة الشعبية حيت تم استقطاب الآلاف من الشبان اليائس والمحبط من فعل التغيير، بينما عدم تعاطي المجتمع الدولي بجدية بما يخص الشأن السوري دفع بقوى الثورة إلى رؤية التيارات الجهادية قوى حليفة للثورة بل ومرغوب فيها وخصوصاً أن أداءها القتالي على الأرض كان متناسباً مع صلف نظام الأسد ووحشيته في قمع قوى الثورة.
خاتمــة:
لعبت ممارسات نظام الأسد العنفية دوراً حاسماً في إنعاش التطرف المترافق مع الغضب والرغبة بالثأر، وكان لطول فترة الصراع واستمراره ضمن ظروف غاية في التعقيد دورا في تسلل الشعور باليأس لدى قطاعات واسعة من المحتجين، بيد أنه كان للعوامل الاقتصادية التي برزت على إثر الحرب الدائرة دوراً محورياً في إنعاش تيارات الاسلام السياسي وتحديداً بنسختها المتطرفة، ففي ظل ظروف الفاقة والفقر والجوع وجدت التيارات المتطرفة المناخ الملائم للترويج لأفكارها، وتمكنت عبر هذه الظروف من التمدد داخل نسيج المجتمع السوري واستقطاب الكثير من شبانه، الذين يأسوا من المجتمع الدولي الذي تعامل بكثير من البرود حيال ما يجري في سوريا.
كل هذه العوامل وغيرها العديد، لعب دوراً في حرف الصراع في سوريا عن مجراه الطبيعي، وتحويله من صراع من أجل الحرية والكرامة إلى صراع مذهبي يتناسب مع مضمون بنية تيارات الاسلام السياسي وتحديداً بنسختها المتطرفة والتي لم تخف عداءها للديموقراطية ومؤسسات الحكم الحديثة وهو ما يشكل مضمون خطابات هذه التيارات وشكل ممارستها على الأرض. وبقدر ما سعت هذه التيارات إلى أن تكون القوة الموازية لنظام الأسد والطامحة إلى أن تكون بديلاً عنه، بقدر ما كانت تعبيراً عن الأزمة العامة التي تمر بها قوى الثورة وتعبيراً عن سلسلة إحباطاتها، فتجلت التيارات المتطرفة باعتبارها انعكاساً للأزمة وليس حلاً لها.
المراجع:
[1]- توماس بييريه: الدعم الخارجي والمعارضة السورية المسلحة، مرجع سابق.
[2]- راجع: منحة من الخليفة الداعشي إلى عناصره الراغبين بالزواج، العربية نت، الخميس 2 ذو القعدة 1435هـ - 28 أغسطس 2014م.
[3]- مركز الجمهورية الديموقراطية للدراسات، قسم احصائيات الثورة السورية بالمركز, Nov 14, 2014.