ما قبل سوريا:
هنالك عدة استفسارات تطرح نفسها قبل الإجابة عن سؤال:ماذا يريدُ الكرد في سوريا، فعنوان هذا الملف المطروح أمامنا يستبطنُ، مسبقاً، وجود إمكانية لفصل ومعالجة قضية الكرد السوريين بمعزل عن القضية الكرديَّة بمجملها، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يُقرُ سلفاً بأنَّ هذا الكيان المسمى "سوريا" والذي ظهرَ للوجود بإرادةٍ خارجيةٍ بعد اتفاقية "سايكس بيكو" هو وطنٌ نهائيٌّ لكل السوريين وليس بوابة عبور لمشاريع أَكْبَرَ وأوسع.
إنَّ التصدي للإجابة على هذا السؤال، بصيغتة الآنفة الذكر، يُمرِّرُ ضمناً عدداً من البداهات التي لم يتم البحث فيها أو الإعلان عنها والاتفاق عليها. منها:
أولاً: مسألة الاعتراف علناً من قبل مكونات الشعب السوريِّ وفئاته باتفاقية "سايكس بيكو" ومفاعيلها من دون مواربة أو تسويف بدلاً من القفز فوق تلك المسألة وكأنَّها لم تكن، أو أنَّها أضحتْ جزءاً من ماضٍ بعيد.
ثانياً: إنَّ صيغة السؤال توحي بأنَّ للكرد السوريين مطالب تبدو مغايرة لمطالب معظم السوريين وأنَّها مطالب غريبة وشاذة وخارجة عن المألوف.
ثالثاً: أنَّ سوريا التي نعرفها ما زالتْ كما هي وأنَّها ستبقى كما هي لأنَّنا نريد ذلك بغض النظر عن الوقائع العنيدة التي بدأتْ تتشكل على الأرض.
رابعاً: تبدو صيغة السؤال وكأنَّ السوريين متفقين فيما بينهم على ماذا يريدون من سوريا ولسوريا وأنَّ الكرد هم وحدهم الذين يعملون خارج السياق، وأنَّ لهم مآربهم الخاصة بمعزل عن باقي مكونات الشعب السوريِّ.
خامساً: إنَّ طرح المشكلة بهذا الشكل يوحي بأنَّنا متفقون حول نقطة جوهرية تتعلق بماهية الكرد في سوريا وأنَّنا نمتلك جميعاً تعريفاً واضحاً، مانعاً وجامعاً، حول منْ هم الكرد؟
فهل الكرد هم شعب وقومية واضحة المعالم لها تاريخها وثقافتها وخصوصيتها وطموحاتها السياسيَّة أمْ أنهم مُجَرَّد مجموعة سكانية أو عرقية صغيرة أو أقلية مثلها مثل باقي الأقليات كالشركس والأرمن والتركمان؟.
- العلاقة بين الجزء والكل
إنَّ الحديثَ عن دستورٍ مستقبليٍّ أو حزمة قوانين وأعراف واتفاقيات لحل هذه المُعضلة قد يعتبر، بنظر الكثيرين، قفزاً فوق واقع شائك ومعقد،ما لم يتم الإجابة على جملة الأسئلة الآنفة الذكر، وهروب الى الأمام وهو خيارٌ يبدو أنَّنا اعتدنا عليه لمواجهة مشاكلنا المستعصية.
ولا بدَّ من التذكير أنَّ فتح هذا الملف، ملف الكرد في سوريا، يأتي بعد قيام الثورة السُّوِريَّة التي رفعتْ شعارات الحريَّة والكرامة بالدرجة الأولى. فهل الحريَّة والكرامة هي حق فقط للعرب في سوريا أمْ للكرد كذلك؟ وماذا لو اختارَ الكرد حق تقرير المصير أسوة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. هذا الحق الذي يتفق عليه ويُطالب به جميع العرب. فماذا لو اختار الكرد، على سبيل المثال، الاتحاد مع كردستان العراق كما اختارَ العرب يوماً ما الاتحاد مع مصر الشقيقة؟ أمْ أنّ سياسة الكيل بمكيالين هي ما سيحدد لنا مصيرنا كسوريين؟
لقد اختار العرب أَكْثَرَ من مرة إلغاء مفاعيل "سايكس بيكو" بالاتحاد تارةً مع مصر وتارةً أخرى بمحاولة الاتحاد مع العراق الشقيق، ألاَّ يحق للأكراد أيضاً ما يحق للعرب؟
إنَّ الإجابة على السؤال السابق حول ماهية الكرد هو ما يشكل نقطة انطلاق للتعامل مع هذا الملف الشائك وليس القفز فوقه أو التحايل عليه باستخدام لغة غامضة ومبهمة.
حيث أنَّ حل المشاكل الشائكة والمعقدة يتم بمواجهتها رأساً وبشكل مباشر وليس بالإلتفاف عليها أو التعامي عنها. فصيغة السؤال، تبدو كما لو أنَّها تُمرِّرُ مسبقاً فكرة لم يتم مناقشتها أصلاً، وهي فكرة إمكانية الفصل بين الأكراد في سوريا وباقي الشعب الكرديِّ في المنطقة الموزع بين دولٍ أربع، ألاَّ وهي سوريا والعراق وتركيا وإيران.
إنَّ البحثَ عن جوابٍ مباشرٍ ومختصرٍ لسؤال الملف حول ما يريدهُ الكرد في سوريا، قد يقودنا الى سؤال آخر ومعضلة أخرى تعيشها منطقتنا، أي منطقة الشرق الأوسط، منذ عقود طويلة. هذا السؤال يمكن صياغته على الشكل التالي: ماذا يريدُ الفلسطينيون؟
على اعتبار أنَّ كليهما، أي الكيان السُّوِريِّ بالمعنى السيَّاسيِّ، بشكلهِ الحالي وحدودهِ، والكيان الإسرائيليِّ بمجملهِ، هما نِتاج إرادة المستعمر من خلال اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. وكلاهما، أي الأكراد والفلسطينيون، كانا الخاسر الأكبر من وراء تطبيق تلك الاتفاقيات التي كان الهدف منها تقاسم تَرِكة الرجل المريض.
- ليس للكرديِّ إلاَّ الريح
في حين كانت المنافي والمخيمات نصيب الفلسطينين، كانت الريح وأعالي الجبال نصيب الكرد، وهي قسمة غير عادلة نتجَتْ عن سقوط السلطنة العثمانية وانحسارها، ونتجَ عنها قيام دولة للأتراك وظهور دول عربية "إسلامية" ودولة عربية "مسيحية" وهي لبنان ودولة "يهودية" أي اسرائيل، فيما خرجَ الكرد والفلسطينيون من تلك اللعبة من دون ظهور كيانٍ سياسيِّ يمثلهم ويعبر عن آمالهم وطموحاتهم أسوةً بباقي الشعوب.
وعلى نفس المنوال يمكننا طرح صيغة أخرى للسؤال، عنوان الملف، على الشكل التالي: هل يُريد الكرد الاعتراف بواقع "سايكس وبيكو"؟ وهل يريد الكرد ما يريده الفلسطينيون؟
لقد كان الكرد الخاسر الأكبر من وراء اتفاقية سايكس بيكو وما نتجَ عنها، وليس العرب فقط، كما تمَّ ويتم الترويج له منذ عقود، حيث أنَّ مصيرهم كان وما زال كمصير أشقائهم الفلسطينيين، شعبٌ بلا وطن وبلا كيان سياسي مستقل. وقد جاءتْ ممارسات الحكومات العربية في كلٍّ من سوريا والعراق تجاه الأكراد لتعزز الانقسام العامودي بين القوميتين الكبيرتين في المنطقة، أي العرب والكرد، وكانت تلك الممارسات أقرب ما تكون الى ممارسات الكيان الإسرائيليِّ تجاه الفلسطينين.
باختصار،في منطقة الشرق الأوسط التي نعرفها بشكلها الحالي، هنالك قضيتين أساسيتين، لا يمكن التغاضي عنهما أو التمييز والتفريق في التعامل بينهما، وهما قضية الشعب الفلسطينيِّ وقضية الشعب الكرديِّ.
إنَّ الأوطان تبنى بالاعتراف والقبول الصريح والعلني وليس بالشعارات وبصك دساتير تقود إلى تقاسم سلطة ومناصب أكثر من قيامها على الاعتراف الصريح والمباشر الذي يمنع أي لبس وسوء فهم أو استخدام.
- ماذا يريدُ العرب في سوريا
ضمن هذا السياق التاريخيِّ، الذي تقدَّمنا به آنفاً، يمكننا المضي قُدماً في محاولة البحث عن جواب لسؤال الملف، من دون اجتزاء أو قفز فوق الواقع والتاريخ، فمسألة الشعب الكرديِّ في سوريا لا يمكن فصلها وعزلها عن سياقها، أي عن قضية الشعب الكرديِّ في المنطقة ككل، وفي الآن عينه لا يمكننا عزل قضية الشعب العربيِّ في سوريا عن باقي الشعوب العربية. فكلا الشعبين، في سوريا، يرى نفسه أَكْبَرَ من حدود الكيان المصطنع الذي رسمه الغرب له.
فالكرد، في حدود الكيان السوريِّ الذي رسمه "سايكس وبيكو"، يمكن النظر إليهم على أنَّهم أقلية عرقية/أثنية من جهة، ومن جهة أخرى اذا نظرنا إليهم بعيداً عن مفاعيل "سايكس وبيكو" فإنَّهم شعب وقومية كبيرة يصل تعدادها الى عشرات الملايين موزعين بين دول أربع. فأي الصورتين سوف نختار في تعاطينا مع هذا الملف المعقد. هل سنختار الصورة الأولى التي حدَّدها الغرب لنا أمْ الصورة الثانية، الأعم والأشمل؟.