حين استقلت سورية لم تكن هناك مسألة كردية كما كان في العراق، حيث لم تكن هناك منطقة واضحة تضم الأكراد، وكان عددهم محدوداً، موزعين في مناطق متباعدة، من عفرين إلى العتمانية في الجولان، وفي دمشق، وبعض مدن الجزيرة السورية. ولقد تشكل هذا الوجود نتيجة السياسة العثمانية التي كانت تنشر سكان أكراد وتركمان وشيشان وشركس في مناطق "إستراتيجية"، هدفها حماية خط حديد الحجاز، وقبله طريق الحج. لهذا حين طرحت زعامات كردية القضية الكردية على الأمم المتحدة سنة 1947 لم تأتِ على ذكر سورية بل تحدثت عن الأكراد في العراق وإيران وتركيا كما هو الوجود الطبيعي تاريخياً. لهذا كان من الطبيعي أن تتسمى سورية بالجمهورية العربية السورية، ما دامت تضم أقليات فقط إضافة إلى العرب، بعكس العراق حيث كانت أرض كردية قد أصبحت جزءاً من دولة العراق حين جرى تأسيسها على ضوء اتفاق سايكس بيكو، الذي لحظ تقسيم الأكراد كذلك. وهو الأمر الذي لم يحدث في سورية، فلم تضم أرض كردية للدولة الجديدة.
تشكلت المسألة الكردية في وقت لاحق، خصوصاً منذ نهاية خمسينات القرن العشرين، وأكثر منذ الستينات منه. حيث تزايدت الهجرة الكردية من تركيا إلى سورية. فقد كانت منطقة الجزيرة السورية تتشكل تاريخياً من حضارات كبيرة قبل العرب، وبالتفاعل مع العرب (أي هنا سكان الجزيرة العربية كما يجري تصوير الأمر رغم أن وجودهم كان ممتداً إلى ديار بكر)، فهي منطقة الآراميين ثم السريان بالأساس، وبالتالي لم تكن خالية من السكان حين تشكلت الدولة السورية بل كان فيها وجود كبير للسريان والآشوريين، وأيضاً العرب. وهذا الوجود السرياني العربي كان ممتداً إلى جنوب تركيا، ولا زال قائماً هناك. ومن ثم كان النزوح الكردي يتداخل مع هذا الوجود البشري. لهذا ليس من الممكن تجاهل هذا التاريخ وهذا الوجود حين النظر إلى منطقة الجزيرة، حيث كانت مأهولة أصلاً. ولهذا لا يمكن حسم أنها منطقة كردية (أو أرض كردية)، والأسوأ العودة لاختراع تاريخ موهوم وأسماء موهومة لتأكيد ذلك. فكل ذلك لا يوصل إلى حل بل يؤجج صراعات قومية مستمرة. إذن لا بدّ من الانطلاق من وقائع التاريخ للوصول إلى حل تاريخي وليس الغوص في صراعات قومية تزيد من التعصب والتعصب المتبادل. بالتالي ليس من الممكن القفز عن هذه الوقائع، وعن أن المنطقة مختلطة الوجود القومي الآن، وأن هذا الأمر يفرض أخذ التاريخ بعين الاعتبار، لكن أيضاً أخذ الواقع الجديد بعين الاعتبار، للوصول إلى حل لا يهضم حق لمصلحة آخر.
إن تناول وضع الأكراد بالتالي يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة التاريخية لا أن يجري تجاوزها وتجاهل الوجود البشري الأسبق، وفرض "كردية" المنطقة من طرف واحد، أو استغلال الظروف الإقليمية والدولية لفرضها. في هذا يفترق وضع سورية عن وضع العراق، رغم أن هناك بعض المناطق في العراق تعاني من الإشكالية ذاتها، لكن ذلك لا يلغي الوجود التاريخي للأكراد في أرضهم التي جرى ضمها إلى الدولة العراقية. في سورية وجود مختلط على أرض هي تاريخياً جزء من المنطقة العربية (على أساس علاقة العرب بالشعوب الأقدم، التي هي الجذر الذي تأسس العرب عليه)، وهو الأمر الذي يجعل الحل مختلفاً عنه في العراق. ولا شك في أن هذا الأمر لا يبرر كل الممارسات السابقة، خصوصاً ما حدث سنة 1962 حيث جرى تجريد آلاف الأكراد من الجنسية السورية، أو حتى عدم إعطاء جنسية للذين قدموا بعد ذلك. أما التهميش وكل المشكلات الأخرى فقد شملت مناطق واسعة من سورية، ومن ثم فإنها مشكلة سورية عامة، فالسلطة لم تكن تميّز هنا، لهذا طال التهميش مناطق عديدة في سورية.
بهذا نشأت مسألة كردية في سورية، حيث تزايد عدد الأكراد بشكل كبير، وبات هناك مدن كردية بالكامل، وشعب كردي يتركّز في منطقة الجزيرة السورية. لهذا يُطرح السؤال حول كيف يمكن معالجة الأمر؟ هل نتجاهل التاريخ وننطلق من الوضع القائم؟ أو نتجاهل المسألة ذاتها؟ لهذا يجب الاعتراف أولاً أن المسألة حديثة ولا يحتاج الأمر إلى تحوير في التاريخ، وهي تحتاج إلى حل لأنها مسألة قائمة وليس لأن لها تاريخ طويل. وثانياً ألا يقوم الحل على حساب السكان القائمين على الأرض منذ قرون طويلة، فلهذه المنطقة تاريخ طويل، وهي مرتبطة بذاكرة شعوب، وأصلاً كانت مع جنوب تركيا هي مركز السريان. وكل هذه المسائل لا يمكن إغفالها، أو القفز عنها، والقول أن حلاً يمكن أن يتحقق، لأن تجاوزها سوف يقود إلى نشوء صراعات جديدة.
الآن، يمكن أن نشير إلى مستويين من الحل لا بد من لحظهما حين لمس المسألة الكردية التي تشكلت على ضوء الوضع السكاني الجديد، وهو الوضع الذي ليس من الممكن تجاهله، المستوى الأول يتعلق بتأسيس الدولة المدنية التي تنطلق من تكريس مبدأ المواطنة لكل السوريين، من العرب والأكراد والتركمان والشيشان والأرمن وغير ذلك، فهنا الأمر يتعلق بتعامل الدولة مع السكان القاطنين ضمن حدودها، والذين هم أساس وجودها، والمقررين لتشريعها. والدولة هنا لا تكون مدنية دون أن تنطلق من هذا المبدأ، ولا تصبح ديمقراطية إذا ما تجاهلته. لهذا يكون حق الأكراد في المواطنة أمر "طبيعي"، ومقرر دستورياً. ولكن أيضاً الدولة المدنية هي التي تعطي الحقوق الثقافية للقوميات والأقليات القومية، فإذا كان للأغلبية القومية حق كذلك للأقليات حقوق، على مستوى اللغة والثقافة. وهنا يكون الحق في تكلم اللغة الكردية والتعبير عن الثقافة الشعبية، وفتح المدارس وتدريس اللغة على مستوى سورية عموماً. وهذا هو ما يتعلق بالوضع السوري الآن، وما يجب أن يتضمنه السعي لإسقاط النظام وبناء دولة علمانية ديمقراطية.
المستوى الثاني يتعلق بالمسألة القومية في مجمل الشرق، حيث تشكلت الدولة الحديثة ليس انطلاقاً من "الوضع الطبيعي" في العصر الرأسمالي، والقائم على بناء الدولة الأمة، بل بناء على مصالح الدول الاستعمارية، وهو الأمر الذي أوجد تفكيكاً لأمم وتداخلاً بين أجزاء من أمم في دول، وهو الأمر الذي يبقي المسألة القومية راهنة، ويفرض البحث عن حل مشترك، ودعم مشترك لنضال الشعوب من أجل استقلالها ووحدتها. و لهذا يجب الانطلاق من ضرورة تشكيل الدولة الأمة، وبالتالي إعادة بناء كلية الوضع الجغرافي السياسي في المنطقة الممتدة من المغرب إلى تركيا وإيران، وربما أبعد. في هذا الأمر لا بد من التأكيد على حق الأكراد في تشكيل دولتهم القومية على أرضهم التاريخية، كما هو من حق العرب، والقوميات الأخرى. وهذا عمل يفترض ترابط الشعوب وتوافقها نتيجة التداخل القائم الآن، وأيضاً نتيجة الترابط التاريخي. بمعنى أنه لا بد من إعادة بناء المنطقة على أساس مبدأ الدولة الأمة، ويجب أن تتشارك شعوب المنطقة في تحقيق ذلك. وتأسيساً على ذلك يمكن أن يجري تناول "المناطق المتنازع عليها" بأفق التوافق، والبحث عن الحل الذي يخدم تطور الشعوب، وينهي "النزاعات القومية" فيما بينها.
لهذا أجد أن العديد مما كتب حول الأمر في "الملف" يميل إلى تجاهل التاريخ والواقع، وينطلق من ميل "قومي" رغم أن من يطرحه يتهم العرب بـ "الشوفينية". فمثلاً كيف يمكن أن نتعامل مع الإصرار على ضرورة إقرار ان للأكراد قضية هي "قضية أرض وشعب" في وضع مختلط، وفي ظل وجود حديث للأكراد؟ أو التحدث عن "كردستان الغربية"؟ لا شك هناك قضية لشعب يعيش في سورية، سواء تعلق الأمر بالتجريد من الجنسية أو بعدم الاعتراف باللغة والثقافة، لكن حين يتجاوز الأمر ذلك لا بد من التوقف قليلاً للقول بشكل رفاقي أن ميلاً قومياً يطغى، وبالتالي يسير في مسار إشكالي لا يريد الحل بل يريد فرض حل ذاتي. وبالتالي إذا كان البعث يتعامل بـ "تعصب قومي" فإن الرد هنا ينطلق من "تعصب" مقابل، وليس من فهم للواقع وتحديد صحيح للحل. وهذا ما ظهر في الميل لتغيير أسماء المدن والمناطق بشكل سيئ، رغم أن أسماؤها معروفة منذ قرون طويلة.
المسألة الأخرى تتعلق بالحل المطروح، والذي ينطلق من إلغاء كلمة العربية من اسم الجمهورية، أو فرض لغتين للدولة، وأخيراً الفيدرالية، هذه المسألة التي سعت الأحزاب الكردية للمساومة عليها طيلة الثورة دون أن يكون لها موقفاً واضحاً من الثورة ذاتها (وهذا لا يطال كثير من الشباب الذي شارك منذ البدء)، أو دور حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يمنع التظاهرات الشبابية، ولم يكن في صف الثورة، بل ظل يراوح دون أن يقطع مع السلطة، ربما إلا مؤخراً. طبعاً يمكن طرح الفيدرالية كتنظيم إداري للدولة، ويمكن أن يكون مفيداً لمنع تمركز السلطات والإدارات في العاصمة، لكن الأمر هنا يتعلق بشكل إداري لا يتخذ طابعاً قومياً، بالضبط نتيجة الاختلاط الموجود في المنطقة.
لا نريد أن يكون التعصب القومي "العربي" تبريراً لتعصب مقابل، أو مدخلاً لتجاوز التاريخ، والقفز عن الواقع. سورية العلمانية الديمقراطية يجب أن تساوي بين المواطنين، وهذا هو جوهر علمانيتها وديمقراطيتها، ويجب أن تحفظ الحقوق الثقافية للأكراد وكل الأقليات القومية.