طلبت إلي إدارة موقع "سورية: حكاية ما انحكت" أن أكتب تعقيباً ضمن المقالات التي نشرتها مؤخراً حول "ماذا يريد الكرد في سورية؟" وارتأيت أن أقارب الموضوع من زاوية مختلفة بعض الشيء وأن أحوّل السؤال إلى "ماذا يريد السوريون؟". فقبل أن نبدأ بالارتجال حول ماذا يريد هذا المكوّن أو ذاك من مكوّنات المجتمع علينا أن ندرس وبدقة كيف وصلنا إلى فكرة المكونات بالأساس. فاليوم يراجع المجتمع السوري الهش مواقفه من أساطيره المؤسسة وهو يواجه تحديات مصيرية كبرى ويشكك الكل في إرادة الآخرين في البقاء ضمن كيان الدولة لأننا لم نحسم في الأساس قضية من نحن ولماذا نريد أن نكون في هذه الدولة. والتشكيك في نوايا الآخرين هو دائماً ناتج طبيعي لإستلاب الذات. ومن أجل ذلك قد يكون من المفيد أن نرجع إلى الوراء إلى لحظة تأسيس الدولة الوطنية الحديثة وهي اللحظة التي قد يتفق الجميع على أهميتها رغم أنهم يختلفون كثيراً في تحديد ماهية تلك الأهمية. ونطرح للجدل أن مفهوم الدولة الوطنية الحديثة شكل نقلة نوعية عن طبيعة الدولة ما قبل الحديثة وأننا بحاجة لثلاث مقاربات أساسية لكي نحاول توصيف ما يحتاجه السوريون لإعادة بناء وطنهم.
أولاً- شكلت الدولة الوطنية الحديثة نقلة من المفهوم الزماني للدولة إلى المفهوم المكاني. فمصطلح الدولة بالأساس هو مصطلح يعرف السيادة ضمن منطلق تداول مرحلي للسلطة والقوة، وشأن اللغة العربية في ذلك شأن اللغات الأخرى التي تستعير المصطلح منها، واللغات الأخرى من المجموعات اللغوية المؤثرة. فمثلاً في جذورها اللاتينية فإن الدولة هي تسمية لحالة (ٍState – État) وليس تسمية لمكان. فنتكلم عن دولة سلاطين آل عثمان أي عن حيز زماني سيطر فيه نظام حكم ما على مساحات جغرافية غير مستقرة قد تزيد أو تنقص دون أن يزيد ذلك أو ينقص من آليات تثبيت مشروعية هؤلاء السلاطين. ومع بدء تكريس مفهوم الدولة الوطنية الحديثة بدأت الدول تكرس شرعية وجودها بربط السلطة بحيز مكاني محدد. وانتقل بذلك مفهوم أراضي الدولة (Territory) ليصبح متلازماً بمفهوم الدولة/الوطن. ولكن هذا الإنتقال الذي نعتبره اليوم بديهة من البديهيات لم يكن كذلك بالنسبة لأغلب دول العالم قبل قرابة مئتي عام وحتماً لم يكن كذلك قبل مئة عام بالنسبة للدول التي برزت إلى الوجود على أعقاب السلطنة العثمانية. لقد كانت الحرب العالمية الأولى محرّكاً أساسياً للتغير في ديمغرافيات المنطقة. ولم تستقر الحركات التوطينية في المنطقة أقله إلى النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا صرنا نعتبر هذا الأمر هجيناً اليوم فيجب أن نتذكر أن المنطقة، بل والعالم أجمع، كانا دائماً يشهدان تحركات للجماعات كيفما ارتأى المنتصرون في الحروب أو أصحاب النفوذ الأقوى. وبالأخص في سورية فإن ربط الأرض بجماعة محددة هو أمر شبه مستحيل تأريخياً وإن تنطى له الإيديولويجيون من كل حدب وصوب.
لقد تطوّر مفهوم الدولة الوطنية الحديثة تدريجياً أساساً لتقييد سلطة السلطان ونقل السيادة من الحاكم الواحد إلى شرائح أكثر تمثيلاً للمصالح الناشئة في المجتمعات الحديثة. فكان تقاسم السلطة بين السلطان أو الملك مع الأرستقراطية ثم مع البرجوازية قبل أن يتطور مفهوم الشعب. فالشعب مفهوم متخيل لم يكن له حامل طبيعي في البدء ولكنه مفهوم ضروري لتمثيل أوسع شريحة من المصالح المجتمعية والتي بدأت حواملها الطبيعية تتطلب إشراكها في الحكم. من خلال هذا التحوّل بدا ضرورياً أن يتم تخيّل هذا الشعب وأن يتم خلق حوامل تمثله. وكان من الضروري لهذه العملية أن تربط الشعب بمكان ما محدد، يمكن تأسيس هذه الحوامل فيه. فبنيت على أنقاض الدول ما قبل الحديثة تعريفات مكانية تربط الشعب، هذا المصطلح المجرد، بجغرافيا محددة. من ناحية أخرى تبلورت تدريجياً منظومة دولية تكرس مفهوم هذه الدولة الوطنية الحديثة وشكل هذا المفهوم أساساً للقانون الدولي بل أكثر من ذلك أساساً للمنظومة الفكرية العالمية (من اتفاقيات الأمم المتحدة إلى مسابقات كأس العالم في كرة القدم والألعاب الأولمبية التي تنظم على أساس التمثيل الوطني).
بالطبع رغم مضي قرابة مئتي عام على بدء عملية التحول هذه فإنها لم تكتمل لأن مشروع ربط الشعب بحيز مكاني محدد لم يكن يتوافق مع الحوامل الحقيقية القائمة على الأرض. ففي كل دول العالم هناك مجتمعات محلية مرتبطة بتنظيمات وأساطير مجتمعية لا تنتمي إلى الأساطير الجامعة والحوامل المجتمعية المطلوبة لتحريك باقي المجتمع، قل أو كثر. ومن هنا جرت العادة بالتحدث عن أقليات وأكثريات، وعن أكثريات تحكم أقليات، أو أقليات تحكم أكثريات. وبدأ نتيجة ذلك الحديث عن المظلوميات التاريخية للجماعات التي لم تدخل أساطيرها المؤسسة في الأسطورة المؤسسة للشعب/الوطن التي تشكلت عليها الدولة الوطنية الحديثة. إن أي قراءة لهذه المظلوميات يجب أن تكون نابعة أساساً من هذا المنظور التاريخي وفهم واع لأن ما نعتبره اليوم بديهة هو نتاج لعمليات تاريخية طويلة وأدلوجات تطورت إما بغرض بناء حوامل مجتمعية جديدة لشرعنة الدولة أو بالعكس للتعبيرعن مصالح الجماعات التي وجدت نفسها خارج هذه الحوامل المصطنعة.
ثانياً– يحلو للسوريين دائماً أن يعلّقوا كلّ مشاكلهم على شماعة سايكس بيكو. ولا جدل فإن الدور الذي لعبته بريطانيا وفرنسا في تقسيم المنطقة هو أحد أسباب البلاء الأساسي الذي نعيشه اليوم ولكننا بحاجة إلى تتبع أدق لما جرى في سياقه التاريخي وليس في سياق أدلوجاتنا القومية اليوم. فالاتفاقية الشهيرة التي رسمها البريطاني سايكس والفرنسي بيكو عام 1916 لم تكن إلا محطة من محطات عديدة تفاوضت فيها الدولتان العظميين منذ بداية الحرب العالمية الأولى مع بعضهما البعض ومع روسيا وتركيا وإيطاليا إلى أن تم تثبيت الحدود في المنطقة عام 1923. في هذا السياق فإن ما تم تطبيقه على الأرض أخيراً لا يمت بأي شبه لأي من مبادئ الإتفاقية الشهيرة والتي بقيت راسخة في عقول أهل المنطقة أساساً لأن الوالي العثماني جمال باشا حصل على نسخة منها من الروس الذين تعمدوا تسريبها لدحضها وقام جمال باشا هذا بتسريبها بدوره للحسين شريف مكة لكي يبرهن له أن وعود البريطانيين له ليست إلا أضغاث أحلام ويثنيه عن محاولة الإنقلاب على السلطنة العثمانية.
لم تكن اتفاقية سايكس بيكو هي الناظم الأساس للمشهد الذي تمخضت عليه الأموربعد سقوط الامبرطورية العثمانية. فالاتفاقية كانت تفترض منطقتين استعماريتين مباشرتين للبريطانيين في البصرة وللفرنسيين في الساحل السوري. وما بينهما مجموعة دول مبنية على حوامل محلية عشائرية أو طائفية أو عرقية ضمن منطقتي نفوذ بريطانية وفرنسية. ولم يكن لدى سايكس وبيكو مشكلاً في أن تكون هذه الدويلات تحت السيادة الدينية للخلافة العثمانية أو أن تكون مستقلة طالما أنها تبيع نفطها لهم و تشتري منهم منتجاتهم الصناعية وتستقدم من لديهم الخبراء بالتساوي بحيث لا تمنح المنطقة امتيازاً للفرنسيين على البريطانيين أو بالعكس.
والذي جرى تباعاً هو أن البريطانيين أخلّوا ببنود الاتفاقية وتقدموا في الأيام الأخيرة للحرب الأولى نحو الموصل التي كان من المفترض أن تكون ضمن حيز النفوذ الفرنسي واستطاعوا أن يقنعوا حاميتها العثمانية بالتسليم سويعات قبل اعلان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بحجة أن بنود الاتفاق تقتضي ذلك فثبتوا فعلياً حيازتهم للمدينة (وبالتالي للولاية) لحظة وقف اطلاق النار ولم يتخلوا عن موقعهم بعد ذلك. ومن الطرف الأخر فإن دخول فيصل بن الحسين إلى دمشق جاء ضمن تحرك اعتبره هو تحريراً للشام وبدءاً لتأسيس المملكة العربية الإسلامية التي وعد البريطانيين بها والده شريف مكة في حين اعتبرته فرنسا أحد الحوامل المحلية التي ستضبط من خلالها منطقة النفوذ الخاصة بها. في غضون هذه الأثناء بدأت الثورة ضد البريطانيين في العراق والتي اضطر البريطانييون فيها من خوض معارك عسكرية مريرة مع القبائل العربية في حوض الفرات الأسفل ومعارك سياسية كبرى (خاصة داخل بريطانيا). فالرأي العام البريطاني لم يكن يتفهم نفقات الحرب وإذا كانت المنطقة مهمة من حيث النفط مستقبلاً إلا أنها في تلك اللحظات العصيبة بعد الحرب العالمية بدت كمنافس على الموارد المطلوبة لإعادة العجلة الإقتصادية البريطانية إلى دورانها الطبيعي. فتقدم الجيش البريطاني في النهاية إلى حدود بلدة البوكمال كان ضمن سياسة إبعاد خطر القبائل العربية إلى أقصى الشمال وانتهى التقدم البريطاني حيث لم تعد هناك من حاجة لحفظ الأمن والاستقرار بعد ذلك تاركين للفرنسيين مهمة تنظيف منطقة نفوذهم. لذا فإنه من الجدير اليوم أن نرجع لدراسة الاتفاقات الموقعة بين فرنسا وبريطانيا بعيد الحرب العالمية الأولى (اتفاقيات فرساي وسان ريمو واتفاقية ترسيم الحدود عام 1923) لكي نفهم أكثر كيف تحول المشروع الاستعماري من مشروع وضع يد إلى مشروع ربط الدول الوطنية الحديثة الناشئة بمصالح الدول الاستعمارية بحيث تخف نفقات الاستعمار مقابل زيادة العائدات المتوقعة من المستعمرات.
في هذه العجالة تشكلت الدول الوطنية الحديثة بدون أي حوامل حقيقية لا عربية ولا كردية ولا غير ذلك. وبدأ البحث السريع عن حوامل ما تستطيع أن تقوم بالدورالأساسي الذي يضمن ولاء هذه الدول الناشئة إلى فرنسا وبريطانيا بدون أن تضطر هاتين الأخيرتين لتحمل أعباء الاستعمار المباشر، وهذا هو في الأخير المعنى الدقيق لمفهوم الإنتداب. وكان من الطبيعي البحث عن هذه الحوامل في الأشكال التقليدية للتجمع المذهبي والطائفي والعرقي بعد إضفاء مشروعية جديدة عليها. ولكن وللعدل يجب أن ندرس كيف تلقفت الحوامل التقليدية لهذا المشروع. فمشروع الدستور الفيدرالي لدولة سورية لم يضعه الفرنسييون بل وضعه المندوبون القادمون من كل المناطق السورية قبل دخول الفرنسيين إلى دمشق بأشهر. بالطبع فإن فرنسا كانت تضغط بشدة مطالبة بمثل هكذا دستور لتضمن بقاء الشريط الساحلي الشامي ضمن سيطرتها المباشرة ولتحفظ وضعاً أفضلياً خاصاً للبنان. ولكن قرار تقسيم الدولة السورية إلى أقاليم ذات حكم شبه ذاتي جاء متوافقاً مع مصالح أغلب القيادات المجتمعية القائمة وقتذاك والتي رأت فيه فرصة لتقوية مصالحها بينما رفضته فئات أخرى لأنها وجدت فيه انتقاصاً من حواملها التقليدية. فبرجوازية حلب مثلاً لم يعجبها التقسيم الجديد الذي أبعدها عن الموصل والتي تشكل العمق الاستراتيجي لتجارتها. أما برجوازية دمشق فكانت تطمح إلى توحيد ما أتيح لها من الشام دون أن تهتم كثيراً للأبعاد التي اقتطعت من الحيز الحيوي السوري طالما أنها ستكرس مصالحها من خلال ربط جميع الأقاليم السورية بالعاصمة. ولم يتم حسم الأمر بتوحيد نظام الإدارة في سورية ضمن إدارة مركزية وإلغاء الحكومات الإقليمية إلا بعد 1930 بعد أن استطاعت البرجوازية الدمشقية أن تفرض مصالحها تاركة للبرجوازية الحلبية اليد العليا في احتكار خيرات ما بات يعرف اليوم بالجزيرة السورية، رغم أن هذه الأخيرة بقيت حتى الخمسنيات تسعى لإعادة الروابط مع العراق (من خلال توجهها للإنخراط في حلف بغداد).
وهكذا تطورت الحوامل التي رفعت الدولة الوطنية الحديثة من حوامل تقليدية إلى حوامل ذات تمظهرات حديثة أخذت تبحث عن إيديولوجيات لتبرير دورها الجديد. ولا يمكن الجزم بأن هذه الإيديولوجيات كانت دائماً ناجحة في تمثيل قواعدها المجتمعية. إذ بقيت الإيديولوجيات الكبرى العروبية والإسلاموية والكوردية وغيرها تتنافس على الساحة السورية. ويبقى السؤال لماذا استمرت إيديولوجيات لا حوامل اقتصادية واقعية لها، وعما كانت تعبّر عنه هذه الإيديولوجيات. ولنفترض هنا إحدى فرضيتين: الأولى هي أن هناك وعي مجتمعي متقدم بمصالح عابرة للحدود والثانية هي أن هذه الإيديولوجيات هي أقنعة لبرجوازية وطنية راحت تتقدم تدريجياً مكرسة مصالحها بدون أن يكون لها أساطير مؤسسة خاصة بها ومبررات أيديولوجية لوجودها لأنها في الأساس لم تنشأ من عملية تطور طبيعية. فرغم كل الصراعات على الأساطير المؤسسة للدولة السورية فإن آليات السلطة الحقيقية بقيت خارج الأيديولوجيا: تركيبة مصالح برجوازيات المدن الكبرى وبالأخص دمشق وحلب من جهة، والمنظومة الأمنية من جهة أخرى. وهذا يقودنا إلى النقطة الثالثة.
ثالثاً- إن منظومة السلطة في سورية/ا بقيت مرتبطة أساساً بشبكات الولاء والمحسوبيات التي تطورت من الحوامل التقليدية ما قبل الحداثية في البلاد. فمهما كان شكل نظام الحكم في دمشق فإن هذا النظام استخدم شبكات الولاء والمحسوبيات هذه لمصالحه بدل أن يبني حوامل مدنية حديثة. فالحامل الوطني الوحيد الذي تم بناؤه هو أجهزة الدولة المركزية. وفيما عدا ذلك فإن الحوامل المحلية لم تتغير بشكل جذري. فوجود المواطن مرتهن بشبكات الولاء التي ينتمي إليها (الكنائس والمشايخ، العشائر، أحزاب الأقليات) وليس بكونه مواطن. وهكذا تكرس الفصام بين الحامل الوطني للدولة الحديثة والحامل المحلي للمكونات التقليدية على أساس المنفعة المشتركة. فلقد بقينا نعيش ازدواجية في الإنتماء إلى دولة مركزية لا حوامل حقيقية لها على الأرض وإلى حوامل تقليدية لا تستطيع أن تتحدى الحكومة المركزية إلا في إطار إيديولوجيا المظلومية.وخلقت نتيجة ذلك آليات تحكم في المجال الحيوي (territoriality) ذات مستويات غير متناغمة. فالمجال المحلي الذي يديره المحافظ كممثل للسلطة المركزية لا يعبرعن إرادة المحليات، والقيادات التقليدية لا تستطيع أن تلعب دورها إلا إذا تحالفت معه (أو مع الجهات الأمنية المحلية). وبالعكس لم يكن من مصلحة المركز أن يوجد أدوات إدارية تتحدى القيادات التقليدية وتتجاوزها فنشأت بنية الفساد السورية من علاقة ازدواجية المصالح هذه. كثيراً ما نخطئ إذاً حين نتحدث عن دولة المواطنة والديمقراطية ونظن أن تغيير الحوامل الوطنية وحده سيكون كاف بتوفير توازن للمعادلة القائمة. فدولة المواطنة والديمقراطية يجب أن تبدأ بتغيير الحوامل المحلية لأن تغيير نظام الحكم المركزي لم يغيير في الماضي من التركيبة الزبائنية للسلطة والتي وإن تغيّر القائمون عليها فإنها لا تبدل من آلياتها. ومن هنا فإن الكلام عن "مكونات" المجتمع السوري بدون إعادة نظر جذرية في أدوات الدمقرطة المحلية هو في حقيقة الأمر إعادة لتكريس منظومة الزبائنية والتي لن تفضي بنا إلى دولة ديمقراطية في نهاية المطاف.
بالطبع عندما أنقد أدلوجة المكونات فأنا لا أنتقد مكون ما بعينه وإنما أنتقد مفهوم المكونات من حيث أنه بمجمله أداة السلطة الأساسية التي سعت منذ تأسيس سورية/ا الحديثة إلى تعبئة الحوامل التقليدية ضمن أطر تسهل التحكم بها حتى وإن اختلفت معها إيديولوجياً. بالطبع فإن منظومة المكونات لم تكن عادلة وأصاب بعض المكونات ظلم شديد من جرائها ولكن إصلاح هذا الظلم يجب أن يبدأ من تفكيك ايديولوجية المكونات بدلاً من محاولة تعديلها وجعلها أكثر إنصافاً. وربما كان هذا الكلام ممكناً بالتدريج ضمن وضع سياسي مستقر ولكن البلاد أبعد ما تكون عن ذلك اليوم. فمع تفكك الروابط بين المركز والأطراف ظهرت الحوامل التقليدية إلى السطح وظهرت أيضاً حوامل تدعي التقليدية لتغطي الثغرات التي ظهرت بعد غياب الحكومة المركزية.
ومن المؤكد اليوم أن بناء حوامل وطنية جديدة لن يتم بدون تدخلات خارجية لا بد أن نعترف كسوريين أنها لن تكون إلا كمثيلاتها التي رسمت حدود المنطقة قبل مئة عام. ويبقى السؤال هل ستأتي هذه الحوامل الجديدة لتعيد تركيب علاقة المحسوبيات بين المحلي والمركزي. من المؤكد، شاءت الإيديولوجيات أم أبت، فإن بناء الدولة الوطنية من جديد لن يتم إلا على الحوامل المحلية القائمة. وهذه الحوامل غير محصورة بمكون ما من المكونات السورية. فكل الحوامل المحلية خلقت لها مظلوميات وتصورات مؤسطرة لمكوناتها. ومن الطبيعي أن تسعى بعض المكونات للخروج من المعادلة بكل جدية إن أتيح لها ذلك. ولكن خروج أي من المكونات عن حدود الدولة السورية له معوقات ليس أقلها أنه سيشكل تحد لمنظومة الدولة/الأرض التي كرستها الشرعة الدولية كما رأينا. فمعادلة البقاء ستفرض على الحوامل التقليدية أن تلتزم وجودها في الدولة السورية، ولكنها ستفرض في الوقت ذاته تنازلات لتشكيل جسم وطني جديد يعيد جمعها. سيلزمنا وقت طويل قبل أن نستطيع تحقيق هذه المعادلة وستستعر الحرب في سورية/ا مطولاً قبل أن نصل إلى قناعة بضرورة التوافق. ومن المؤكد أن أي من المكونات لن يصل إلى حل خاص به لأن الحيز الذي يسيطر عليه لا يسمح جغرافياً بتشكيل الدولة/الوطن المطلوبة. ولكن من الضروري أيضاً أن لا ننجر وراء الأوهام متوقعين أن تلتغي الحوامل القائمة قبل أن نبدأ عملية الدمج من جديد. ضمن هذين الحدين (استحالة الإنفصال وعدم إمكانية إلغاء الحوامل المحلية) قد نجد من خلال الحوار والتفاوض أطر واقعية لربط المحلي بالمركزي مجدداً من خلال إطار ما من اللامركزية. ولكن ذلك سيوجب على جميع السوريين أن يبدؤوا من الآن بالتفكير كسوريين عما يريدونه من دولتهم الوطنية ومن إداراتهم المحلية.
يتذكر الكثير من السوريين اليوم دستور عام 1950 على أنه دستور البلاد الذي أنتجته عملية ديمقراطية ويفترضون فيه حلاً نوستالجياً لماضٍ قريب. المشكلة في دستور 1950 أنه كتب أيضاً بحالة مثالية فلم يكن له حوامل تحميه من التقلبات السياسية لأحزاب لا جذور حقيقية لها على الأرض أو من طموحات العسكر. فالدساتير البرلمانية لا يمكن أن تعيش بدون تقاليد سياسية وأعراف مدنية لم تكن موجودة في عام 1950، بدلالة فشل العمل به بعد أشهر من إصداره وبدء الإنقلابات العسكرية تباعاً منذ ذلك الحين، وهي بالتأكيد غير موجودة اليوم. أيضاً لم يعالج دستور 1950 البنية التحتية للسلطة فبقي دستوراً لحكومة مركزية تجمِّع الأغلبيات على المستوى الوطني بدون أن تبني منظومات سياسية وإدارية حقيقية تنقذ المحليات من عسف الحوامل التقليدية. أي أنه كان جزءاً من جدلية التركيز على تفعيل المركز وإهمال الأطراف، الأمر الجوهري في فساد الحكم في سورية/ا. هل ينفع إذاً أن نعيد قراءة دستور 1920؟ فهو النص الوحيد الذي بني واقعياً على حوامل محلية، علماً بأنه في نصه لم يحدد طريقة تقسيم الولايات السورية والتي أرادها الاستعمار الفرنسي فيما بعد طائفية وعرقية. وربما تطلب أن ندرس فيه آليات دمقرطة السلطة محلياً قبل البحث عن حوامل للديمقراطية المركزية. ودستور 1920 وضع في إطار قوة الحوامل اللامركزية مقابل عدم وضوح في دور المركز وهو حالة أقرب إلى حالتنا اليوم. ولكن وبكل حال فإن لا هذا الدستور ولا ذاك سيكون صالحاً اليوم فالحل لن يأتي إلا من خلال حوار واقعي وشفاف لبناء منظومة تسمح بإيقاف العنف والتوجه التدريجي لبناء حوامل وطنية مشتركة جديدة. هذا سيتطلب تعامل الجميع من موقع المسؤولية ذاته ومن منطلق المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات ليساهموا في بناء الوطن.