العملية التعليمية في سوريا بين الحاضر وبين المستقبل المأمول


19 أيار 2015

صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

مدخــل

لعبت المؤسسة التعليمية في سوريا عقب استلام البعث للسلطة أوائل السبعينيات وعلى مدار العقود التالية دوراً أيديولوجياً مهماً في إضفاء الشرعية على السلطة الجديدة الحاكمة، كما لعبت هذه المؤسسة دوراً مهماً في قولبة الوعي الاجتماعي السائد وفق متطلبات ضمان استمرار حكم الأسد، وكان من أهم النتائج المترتبة على مناهج التعليم التي اعتمدها نظام الأسد إنتاج جيل مذعن يفتقد إلى أوليات التفكير النقدي.

أُخضع المجتمع السوري عبر العقود الماضية إلى تنظيم دقيق للغاية، فمنذ أن يدخل الفرد السوري أول دائرة في الحياة، مغادراً دائرة الأسرة، يجد نفسه في أحضان طلائع البعث، وهو التنظيم الأول الذي أوجده حزب البعث الحاكم للناشئة، هنا يتم زرع أفكار الحزب في العقول الفتية، وتبدأ المسألة بتلاوة الشعار الصباحي الذي يصبح مرادفاً لاسم أي طفل: "أمة عربية واحدة ذات رسالة.."؛ تلي هذه المرحلة، مرحلة "شبيبة البعث" وهي تزامن المرحلة الثانية والثالثة من التعليم الأساسي، حيث يبدأ النظام التعليمي بفرض مادتين تعليميتين جديدتين وهما: التدريب العسكري، والتربية القومية، هنا تبدأ العسكرة الحقيقية للمجتمع، فقبل تغيير لون اللباس الموحد لطلبة الإعدادي، كان لون الرداء المفروض على الطلبة هو اللون الزيتي –نسميه في سوريا اللون العسكري- وهنا تبدأ قولبة عقول الفتية وزرع ايديولوجيا البعث في تلافيفها. ينطبق هذا الكلام أيضاً على المرحلة الجامعية، حيث على جميع الطلاب الخضوع للتدريب الجامعي، وهو تدريب عسكري بالمعنى الدقيق للكلمة.

بعد كل هذه المراحل، يتخرج جيل من الشبان والشابات المتشابهين، حتى يكاد من الصعب التمييز فيما بينهم، هنا لم يعد من فرد، بل كائن ينتمي إلى قطيع اجتماعي، وهذا كان من أهم انجازات حزب البعث التاريخية، أي تحويل المجتمع إلى قطيع اجتماعي شعاره التماثل، حيث تصبح السيطرة على هذا النموذج من المجتمعات أكثر سهولة، بينما القدرة على التلاعب في العقول فتجد هنا ملعبها.

وبحسب الباحث الفلسطيني حنا بطاطو[1]، فإن حزب البعث الحاكم كان قد تضاعفت عضويته ثلاث مرات بين عامي 1971- 1974، وذلك عقب استيلاء الرئيس حافظ الأسد على السلطة، وتضاعفت مرتين بين عامي 1974- 1981، وتضاعفت من جديد ثلاث مرات بين عامي 1981- 1992. ولم تعكس هذه الظاهرة الرغبة العقائدية لدى الافراد في انضمامهم إلى التنظيم كما يحدث عادة، بل كان الانتساب لحزب البعث يفرض فرضاً على الطلاب السوريين في كافة المراحل التعليمية، من جهة، كما شكل الانتساب للبعث بوابه للعبور نحو التدرج في السلم الاجتماعي، حيث باتت البراغماتية والوصولية سمة اجتماعية مرغوب بها، من جهة أخرى.

لقد كانت "رغبة الأسد في توسيع قاعدته الشعبية إلى أبعد حدّ ممكن واستخدام الحزب عربة رئيسية لبسط نفوذه[2]"، أحد أهم العوامل التي دفعت باتجاه توظيف كل ما يمكن توظيفه في سبيل ضمان تأبد سيطرة نظام الأسد.

**************

العملية التعليمية في سورية الأسد

بحسب وزارة التعليم في الجمهورية العربية السورية[3]، تنقسم العملية التعليمية إلى عدة مراحل؛ المرحلة الأولى وتدعى بمرحة التعليم الأساسي، وتقسم إلى حلقتين، الحلقة الأولى، وتمتد من الصف الأول وحتى الرابع، والحلقة الثانية وتمتد من الصف الخامس وحتى الصف التاسع.

تليها مرحلة التعليم الثانوي العام، ويضم ثلاث مراحل "العاشر والحادي عشر والثاني عشر"، وتقسم المرحلتين الأخيرتين إلى فرعين علمي وأدبي.

إلى جانب التعليم الثانوي العام، يوجد أيضاً التعليم الثانوي التجاري، والتعليم الثانوي الصناعي والتعليم الثانوي النسوي، والتعليم الثانوي الزراعي. وتلي هذه المراحل، مرحلة التعليم الجامعي بفروعه المختلفة.

سنركز في هذه الورقة على مرحلة التعليم الأساسي[4] والممتدة من الصف الأول وحتى الصف التاسع التي تسبق دخول مرحلة التعليم الثانوي.

************

يتألف منهاج التعليم للحلقة الأولى والممتدة من الصف الأول إلى الصف الرابع، من ستة كتب للصفين الأول والثاني، وهي: (كتاب العربية لغتي، الرياضيات، العلوم، التربية الفنية، التربية الموسيقية، واللغة الانكليزية)، يضاف إليهما ثلاثة كتب في الصفين الثالث والرابع وهي:

(الدراسات الاجتماعية، التربية الدينية الإسلامية، والتربية الدينية المسيحية). وهي مواد ستبقى في رفقة التلاميذ حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، أي حتى الحصول على شهادة الصف التاسع.

يتمحور منهاج الصفين الأول والثاني حول تعليم مبادئ القراءة والكتابة والحساب الأوّلي، بالإضافة إلى تعريف التلميذ على بعض المبادئ الأخلاقية البسيطة؛ في الصفين الثالث والرابع، يتم البدء بتلقين التلميذ السوري أوّليات أيديولوجيا حزب البعث الحاكم، وتبدأ المسألة من خلال تمرير بعض الأفكار الأولية البسيطة والتي تزداد كثافة مع التقدم في مراحل التعليم. في الصف الثالث، وفي مادة "الدراسات الاجتماعية"[5]، يبدأ الدرس الثالث والمعنون بـ "شخصيات تاريخية"، بالحديث عن شخصية الرئيس السابق حافظ الأسد، ويبدأ الدرس بالقول: (القائد الخالد حافظ الأسد قاد الجيش العربي السوري في حرب تشرين عام 1973 ضد العدو الصهيوني لتحرير الأراضي العربية المحتلة فحرر القنيطرة ورفع علم سوريا في سمائها. أقام للأطفال منظمة طلائع البعث وجعل من وطننا قلعة يهابها الجميع ويضحي من أجلها أبناؤها، ووضع أسس الدولة الحديثة).

بينما تلي هذه المقدمة أربع صور للرئيس الأسد، بوضعيات مختلفة، وهو يرفع العلم السوري، أو وهو يرتدي الزي العسكري.. إلخ. وتساهم المقدمة والصور المرفقة بالإضافة إلى مجموعة الأنشطة الملحقة بالدرس، في البدء برسم صورة ستبقى راسخة في عقول الفتية الصغار حتى عقود طويلة من عمرهم، صورة "القائد الخالد" المستمر والحاضر مع السوريين رغم موته، والقائد البطل المحرّر للأرض، وباني "سوريا الحديثة".

وكي تتكرس الصورة بشكل أكثر فعالية، يسارع القائمون على تأليف الكتاب هذا، إلى إلحاق درس بعنوان: "شهداء من وطني" بعد درس "شخصيات تاريخية" مباشرة، وتتصدره صورة كبيرة لحرب تشرين التحريرية 1973، ويبدأ الحديث الممنهج عن قيمة التضحية بالنفس دفاعاً عن الوطن –الذي بناه القائد الخالد- وعن الأهل، وترتفع عبر هذا الدرس قيمة الشهادة لتصبح فضيلة، ويختتم القائمون على تأليف المنهاج درسهم هذا بمقولة تاريخية "للقائد الخالد" حافظ الأسد في معرض وصفه للشهادة والشهداء حيث قال: "الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر".

بعد مقولة "القائد الخالد"، ستطالعنا صورة عملاقة للرئيس الأسد الابن[6]، وهو يزور نصب الجندي المجهول، وتحت الصورة مباشرة، تعداد لعطايا "القائد الخالد" لأسر الشهداء، وما منت عليهم الدولة من مزايا لا تنتهي.

الآب والأبن وحكم البعث

بعد أن يتم تعريف التلميذ، ذو الأعوام التسع، على قائده الخالد وابنه الأقل خلوداً، وعلى منجزاتهم التاريخية، يبدأ الحديث عن أهم المناسبات الوطنية في "سوريا الحديثة"، وهي مناسبات في مجملها مرتبطة بشكل أو بآخر بالقائد وبالحزب وبالمنجزات التي غالبا ما توسم بأنها "تاريخية"، كالحديث عن "ثورة" آذار، وحرب تشرين "التحريرية".. إلخ، وفي كل الحالات يداوم القائمون على تأليف الكتاب على إرفاق صورة للأسد الأب أو لابنه، في محاولة واضحة لربط "الأشياء" ببعضها البعض، فيصبح أي إنجاز في سوريا (بناء سد، مدرسة، مشفى..) أو أي إنجاز "تاريخي" آخر، مرتبط في ذهن التلميذ بعطايا القائد الخالد وابنه، وهنا بالضبط تبدأ مرحلة زرع فكرة الخلود وما يرافقها من أساطير في عقول الفتية الصغار.

مدرسة سورية تعرضت للتدمير بسبب قصف قوات النطام في بلدات الغوطة الشرقية "تصوير مركز شرارة الإعلاني "
مدرسة سورية تعرضت للتدمير بسبب قصف قوات النطام في بلدات الغوطة الشرقية "تصوير مركز شرارة الإعلاني "

لا يتغير شيء على منهاج التعليم في كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الرابع، حيث يستمر القائمون على المنهاج في ضخ أيديولوجيا حزب البعث، والإكبار في سيرة "القائد الخالد"، والذي تصبح سيرته هي هي سيرة سوريا الحديثة؛ ففي الدرس الثالث من كتاب الدراسات الاجتماعية لصف الرابع والمعنون بـ "سوريا في مواجهة الاستعمار"، يؤكد القائمون على المنهاج، على فكرة استمرار "نضالُ الشَّعبِ العربي السّوريِّ بكلِّ أبنائِهِ رجالاً ونساءً ضدَّ الغُزاةِ والطَّامعِينَ، كما اتَّضحَ ذلك في حربِ تشرينَ التَّحريريَّةِ عام 1973م، التي قادها قائدُنا الخالدُ حافظُ الأسدُ ضدَّ العدوِّ الصِّهْيونيِّ المحتلّ فلسطينَ، وأراضيَ عربيَّةً أخرى ومنها الجَوْلانِ العربيّ السوريِّ"[7]. ويلي هذا القول، وكالعادة، صورة عملاقة للرئيس الأسد الأب وبجانبه علم الجمهورية العربية السورية خفاقاً.

ولا ينجو التلامذة من ذكر القائد الخالد أو ابنه حتى في كتاب اللغة العربية، فهنا لابد من الاستشهاد بمنجزات السيد الرئيس في أي سياق كان، فيظهر الرئيس بشار الأسد والأطفال يحيطون به من كل جانب، وتعنون الصورة بـ: "مدرسة أبناء الشهداء"[8]، في إشارة إلى منجزات الرئيس واهتمامه بأسر الشهداء؛ ويستمر الضخ الأيديولوجي "البعثي" في عقول الفتية، ويستمر تواجد صور الرئيس (الابن والأب) في كل تفصيل من تفاصيل المنهاج التعليمي، وتزداد الأمور كثافة مع كل تقدم في سنوات الدراسة.

ففي كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الخامس، وفي معرض الحديث عن طبيعة "الأنظمة السياسية" في العالم، وفي سياق الحديث عن "نظام الحكم الديموقراطي"، تبرز صورة كبيرة لبشار الأسد وإلى جانبها تعريف بنظام الحكم في سوريا والذي هو: "نظامٌ جمهوريٌّ ديمقراطيٌّ شعبيٌّ يُنْتَخبُ فيه الرَّئيسُ من قِبَلِ الشعب لفترةٍ زمنيَّةٍ مدَّتُها سبعُ سنواتٍ"[9]. وتقدم التجربة السورية، كواحدة من أهم التجارب الديموقراطية الرائدة في العالم.

لا يخلو تفصيل واحد دون ذكر السلالة الأسدية فيه، حتى في معرض الحديث عن الصناعات في "بلاد الشام"، تطالعنا صورة لبشار الأسد يركب سيارة وهو مبتسماً، وتحتها تعليق: "الرئيس الأسد يفتتح معمل سيارات!. بينما لا يفوت القائمون على المنهاج التذكير "بالقائد الخالد" حافظ الأسد، بين الفينة والأخرى، فتظهر مقولاته التاريخية في الأماكن التي عليها أن تظهر بها، كذكره في سياق الحديث عن أهمية وحدة الوطن العربي ومقاومة التجزئة باعتبارها الخطر الأكبر، على حد تعبير الرئيس الراحل[10].

تربية وطنية أم تربية بعثية؟

في المرحلة الثانية من التعليم الأساسي (من الصف الخامس وحتى التاسع)، ستحدث إضافات على المنهاج التعليمي، وستصل مواد الصفين الثامن والتاسع حتى 14 مادة. حيث ستنوب مادة "التربية الوطنية" عوضاً عن مادة "الدراسات الاجتماعية"، وسيضاف مواد التاريخ والفيزياء والكيمياء والجغرافية وغيرها من المواد التعليمية الأخرى.

في صفي الثامن والتاسع، أي في عمري 13 و 14 سنة على التوالي، سيتم التعمّق في غرز أفكار حزب البعث وأيديولوجيته في عقول الفتيان، وسترتبط هذه الأيديولوجيا بمفهوم "التربية الوطنية"، وما يترتب عليها من البدء بتشغيل سياسة "الإذعان"، حيث أي مخالفة لهذه "التربية" ستؤدي إلى التشكيك بوطنية الفرد السوري الناشئ، وباتهامه بعشرات التهم الأخرى التي قد تودي به في غياهب النسيان.

في الحقيقة، لا يعدو كتاب "التربية الوطنية" أن يكون كتاباً في "التربية البعثية"، وحيث أن البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، فإنه من المفهوم أن تكون جميع المفاهيم وما يرتبط بها من أشكال تنظيم المجتمع مرتبطة بهذا الحزب، ومن هنا وعندما يتعرض الكتاب للمنظمات الشعبية، على سبيل المثال، فهو يتحدث عن (اتحاد شبيبة الثورة، والاتحاد العام النسائي، ونقابة المعلمين..)[11]، وعندما يتحدث عن أشكال التنمية في سوريا وشكل تطور الاقتصاد السوري، فهو يتحدث عن منجزات حزب البعث، وحكمة قائده في بناء سوريا الحديثة.

وأيضاً في كتاب الصف التاسع من التربية الوطنية، يعاد الحديث عن نظام الحكم الديموقراطي في سوريا، ويظهر بشار الأسد في مجموعة من الصور وهذه المرة برفقة عقيلته، وهما يمارسان حقهما الديموقراطي بكل شفافية، فيظهر "الرئيس" وهو يصوت، ويظهر وهو يخطب في البرلمان، ويظهر والجماهير تحيط به.. وتتعدد الصور بتعدد الممارسة الديموقراطية في دولة البعث.

مدارس-سورية

نحو تعليم بديل

تضع الملاحظات السابقة، مهمات كبيرة على عاتق قوى التغيير في سوريا، حيث يترتب عليها وفق ما تقدم، العمل بجدية في سياق اعتماد سياسات واجراءات كفيلة بالتصدي إلى تقديم البديل، ويكون ذلك عبر:

- اختيار مناهج تعليمية تركز على تعليم الأولاد التفكير عوضاً عن تعليمهم التلقيم والتكرار.

- اجراء تغييرات جذرية في المعايير القيمية وأنماط التفكير التي يتم اعتمادها، حيث يتم التركيز على ثقافة الديموقراطية وحق الاختلاف واحترام التنوع في المجتمع.

- التأثير في العملية التعليمية في المجمل، وتغيير طرائق التعليم المعتمدة، بتحويلها إلى طرائق للتعليم التفاعلي أسوة بباقي البلدان المتقدمة، حيث يصبح التلميذ جزءً أساسياً من العملية التعليمية، ويصبح فاعلاً في العملية التعليمية عوضاً عن كونه فقط متلقي لها.

- فصل العملية التعليمية عن المجال السياسي والصراعات التي تنشب في إطاره، فالعملية التعليمية تقع خارج حقل الصراعات السياسية، وتنتمي بطبيعة الحال إلى ما هو وطني وما هو متعلق بالمستقبل الذي تعتبر حساباته بعيدة المدى، بخلاف المعايير السياسية قصيرة المدى.

- دمقرطة التعليم، أي جعل التعليم بجودته العالية، متاحاً لجميع أفراد المجتمع، ومقاربة مستوى التعليم في الريف عما هي عليه في المدينة، وإشراك جميع الأطراف المعنية في العملية التعليمية، كأولياء الأمور، والتلامذة والمدرسون والمدراء وكوادر الارشاد النفسي، في العملية التعليمية.

خاتمة

ينهي التلميذ السوري، مرحلة التعليم الأساسي وهو جاهز تماماً للانتقال إلى مرحلة النضج والرشاد، حاملاً معه ذخيرة كبيرة من "الأفكار" الأيديولوجية التي تجعله عنصراً مهماً في مسيرات التأييد، صاغراً إلى ما يمليه عليه "قادته" السياسيين، محروم من القدرة على التفكير النقدي، وعلى التشكيك بما قدم له عبر سنوات تعليمه باعتباره بداهات لا تقبل التشكيك، كالربط على سبيل المثال بين أنظمة الحكم الديموقراطي التي درسها من جهة، واستيلاء الأسد الابن على الحكم خلفاً لأبيه، بصيغة أشبه بالحكم الملكي من جهة أخرى.

ويتجسد النظام التعليمي في سوريا، كنظام يبعد الأولاد تدريجياً عن كل ما يمت بصلة إلى ثقافة الديموقراطية وإلى التفكير الحر الذي يفترضها؛ ويصبح المجتمع حاضنة كبيرة لكل أشكال الوعي الخرافي والأساطير، مبتعداً عن التفكير العلمي والقدرة على التحليل. وهنا، في هذا النموذج من المجتمعات، تصبح السيطرة أكثر سهولة، ويسهل معها القدرة على التلاعب بالعقول، حيث كل هذا يشكل مناخاً غنياً لاستمرار حكم الاستبداد، واستمرار التخلف في أبنية المجتمع المختلفة.

ولا شيء يدعو إلى الحزن أكثر من جيل أو قل أجيال عديدة من السوريين، أجبروا على المرور عبر بوابة التعليم الرسمي المشبع بإيديولوجيا الخضوع والإذعان، حيث ارتبطت عندهم سوريا كوطن بسلالة قادتها السياسيين، وأصبح كل شيء قبل عام 1970 نافلاً "ورجعياً" مقارنةً مع حقبة آل الأسد وحكم حزب البعث للسوريين، والذي لولاها لما كانت سوريا ما هي عليه اليوم، كما تزعم أدبيات مؤسسة التربية في سوريا الذراع الضاربة لحزب البعث الحاكم.

يشير ما تقدم، إلى الخطورة التي ينطوي عليها سيطرة الأيديولوجيا –أي أيديولوجيا- على عملية التربية والتعليم، والتي تفترض أن تكون عملية مقدسة، كونها تساهم في بناء أجيال يترتب عليهم إعطاء ملامح ثقافة مجتمعهم وطبيعة معاييره القيمية والأخلاقية؛ وهي ملاحظة على قوى التغيير في سوريا الراهنة أن تأخذها بكثير من الجدية، إن كانت جادة في عملية التغيير التي تخوضها منذ بضع سنوات ضد حكم السلالة الأسدية. فلا ضمانات لمستقبل سوري يستحق اسمه، من دون مناهج تربوية وتعليمية، تساهم في بناء فرد حر يتحلى بتفكير حر بدوره وقادر من خلاله أن يكون فاعلاً اجتماعياً ومساهماً في بناء تاريخه وتاريخ مجتمعه، لا أن يقتصر دوره على ما يمليه عليه قادته السياسيين.

==============================================================================

هامش

[1]- حنا بطاطو، فلاحو سوريا..، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، بيروت 2014، ص 340..

[2]- بطاطو، المرجع السابق، ص 340.

[3]- وزارة التعليم في الجمهورية العربية السورية، موقع الوزارة الالكتروني: http://moed.gov.sy/ecurricula/

[4]- "مرحلة التعليم الأساسي: مرحة إلزامية مجانية تشرف عليها وزارة التربية، من اصف الأول إلى الصف التاسع، يلتحق بها التلاميذ من عمر 6 سنوات.."، كتاب التربية الوطنية، الصف الثامن، مرحلة التعليم الأساسي، الحلقة الثانية، ص 19.

[5]- منهاج المرحلة الأساسية، الحلقة الأولى، الصف الثالث، مادة الدراسات الاجتماعية، للعام الدراسي 2014-2015، ص 15.

[6]- المرجع السابق، ص 20.

[7]- منهاج المرحلة الأساسية، الحلقة الأولى، الصف الثالث، مادة الدراسات الاجتماعية، للعام الدراسي 2014-2015، ص 45.

[8]- العربية لغتي، المرحلة الأساسية، الصف الثالث، ص 13.

[9]- الدراسات الاجتماعية، التعليم الأساسي، الصف الخامس، ص 73.

[10]- المرجع السابق، ص 155.

[11]- التربية الوطنية، مرحلة التعليم الأساسي، الحلقة الثانية، الصف التاسع، ص 33.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد