لعقود طويلة كانت الأسئلة حول الطائفية مؤجلة في سوريا، لا لغياب أسباب تحليل هذه "الظاهرة"، ولا بسبب عجز السوريين عن طرح وتحليل قضاياهم الاجتماعية والسياسية.. إلخ، بل ربما يعود السبب إلى شدة القمع الذي فرضته أجهزة الأسد الأمنية، والتي منعت بكل ما أوتيت من قوة، فتح أي ملف يخص حياة السوريين ومستقبلهم، وتحديداً تلك القضايا التي قد تساهم في تفكيك بنية النظام السوري الحاكم، والتي قد تتيح إمكانية طرح أسئلة حول مشروعية استمراره في حكم السوريين.
في مقاله المعنون "هل نحرر المستقبل من الماضي؟"([1]) يحاول الكاتب راتب شعبو مقاربة المسألة الطائفية في سوريا، تفنيداً وتحليلاً، ويخرج بنتيجة حاسمة حيث يقول: "لم يكن السوريون طائفيين على مدى تاريخهم الحديث"، ويورد في سياق إثبات هذه النتيجة، مجموعة من الأمثلة التي تؤكد ما ذهب إليه، كعدم اعتراض السوريون مثلاً على تولي شخصية مسيحية مسؤولية مكتب الأوقاف الإسلامية.. وغيرها من الأمثلة.
على النقيض من ذلك، يرى الكاتب محمد ديبو([2])، أن "النظام السوري لم يخترع الطائفية التي كانت موجودة في المجتمع قبل حكم البعث واستمرت في ظله"، ويؤكد ديبو هذا الاستنتاج الذي توصل إليه بالقول: أن سوريا على طول تاريخها، أي منذ تكوّنها بشكلها الحديث بين عامي 1920-1946، لم تحظى بسلطة وطنية تضع سياسات وطنية تعمل على تذويب الفوارق الطائفية والمذهبية الأثنية لصالح وطنية سورية تلغي الانتماءات ما دون الوطنية، الأمر الذي أوجد في سورية حالة من الطائفية المستترة..".
وبين هذا الاستنتاج وذاك، يقع الالتباس ويترافق معه الكثير من التشوش؛ فهل الطائفية التي ينفي شعبو وجودها "تاريخيا"، هي ذاتها الطائفية التي يؤكد وجودها ديبو في المجتمع السوري على الأقل منذ تكون سوريا الحديثة؟.
يهمل شعبو تعريف "الطائفة" عن قصد، فالطائفة –وفق الكاتب- مصطلح بسيط وخامل، بينما يقدم تعريفه للطائفية فيقول: "أما "الطائفية" فهي، كما أرى، تمييز أبناء البلد استناداً إلى انتماءاتهم المذهبية والدينية، والقادر على التمييز ليس فقط أجهزة الدولة، بل وكل صاحب شأن، من صاحب مشروع اقتصادي إلى مدير مدرسة خاصة. حين يصبح الانتماء العضوي للفرد مصدر تمييز أو تبخيس نكون أمام ممارسة طائفية. ويبقى جهاز الدولة بسبب سيطرته الواسعة على الشأن العام هو المصدر الأهم لضخ التمييز الطائفي أو تكريس مفهوم المواطنة".
من جهة أخرى، يسعى ديبو إلى مقاربة إشكاليته عبر إخضاع الظاهرة للتحليل "بالملموس"، ويقارب المسألة عبر مجموعة من الأمثلة التي يوردها في نصه، وجميعها تشير إلى الممارسات الطائفية التي ميزت نظام الأسد، بدءً من التقسيمات داخل مؤسسات وأجهزة الدولة –وهي تقسيمات غير معلنة كما يشير الكاتب- وصولاً إلى تقسيم الأحياء والمدن السورية على أساس طائفي. إلا أن ديبو ما إن يقترب من القبض على إشكاليته حتى تعود وتفلت منه، فيبتعد في استنتاجاته عن المقدمات التي انطلق منها، يقول في نهاية مقاله: "الأمثلة السابقة تعطي مؤشر لكيفية استخدام السلطة للورقة الطائفية، فهي لم تكن سلطة طائفية إطلاقا، لأن السلطة الطائفية التكوين يكون الاهتمام بالطائفة وتحسين أوضاعها من صلب اهتماماتها وتأخذ وضع الطائفة في كل اعتباراتها وسياساتها..". وهو ما يعيد طرح أهمية وضع تحديد نظري للمسألة الطائفية، الذي أزعم أنه غائب هنا.
وفق شعبو، ليست الممارسة الطائفية حكراً على أجهزة الدولة، بل تتعداها إلى كل صاحب شأن، "من صاحب مشروع اقتصادي إلى مدير مدرسة خاصة"، إذن حتى الأفراد وفق ذلك، هم متورطون بهذا "التمييز" الطائفي، وذلك بعكس ديبو الذي يرى بأن السلطة هي من تحتكر الورقة الطائفية وتحتكر توظيفها.
ولكن ماذا لو كانت الطائفية علاقة سياسية؟ أي ماذا لو أن الطائفية علاقة سياسية تعكس الشكل السياسي لسيطرة النظام السوري وضمان تأبيد هذه السيطرة؟ وماذا لو كانت الطائفية وفق ذلك، ظاهرة سياسية تنتمي إلى الحقل السياسي، وليس إلى الحقل الثقافي أو حتى الاقتصادي؟([3]).
يشير مصطلح الطائفة في سياقه التاريخي إلى شكل ارتصاف القوى السياسية المميز للتشكيلات السابقة على الرأسمالية؛ وهي أشبه ما تكون بمصطلح التنظيم السياسي في عصرنا هذا. لم تتكون الطوائف على قاعدة اختلافات في الاجتهاد وتأويل العقائد، رغم أنها تبدت كذلك في كثير من الأحيان، بل ظهرت الطوائف على قاعدة الصراعات السياسية التي كانت سائدة، والتي تجلت باصطفافات اجتماعية وطبقية اتخذت شكل طوائف، وهي لذلك تعبر عن كونها تعبيرات سياسية وليست كيانات ثقافية، رغم تغلفها بهذا الأخير.
استناداً إلى ما تقدم، نلاحظ أن بروز الطوائف وما شكلته من تعبيرات سياسية ليس خاصاً بمجتمعاتنا العربية فقط، إذ لا خصوصية هنا على هذا الصعيد، بل على العكس تماماً، حيث سنقع على هذه الظاهرة في أغلب الجماعات المنتشرة في العالم، وتحديدا في العصر السابق على الرأسمالية. ينفي هذا التشابه في شكل التعبيرات السياسية بين الجماعات البشرية المختلفة فكرة الخصوصية سيئة السمعة، ويشير إلى ما هو جامع لهذه الجماعات، والتي تنتمي جميعها إلى حقبة تاريخية واحدة هي العصر السابق على الرأسمالية.
في هذه المرحلة –العصر السابق على الرأسمالية- يلاحظ أن التعبير عن الصراعات الاجتماعية، يتمظهر غالباً في شكله الديني، أو للدقة نقول أنها تتمظهر ضمن صيغة أيديولوجية ميتافيزيقية، ومن هنا يتبدى الصراع وكأنه صراع ديني، أو إذا شئتم، يتبدى وكأنه صراع على تأويل العقائد، وهو بطبيعة الحال ما يخفي الطابع السياسي- الاجتماعي لهذه الصراعات.
لم تختفي الطوائف في العصر الحديث، الذي اختفى هو دورها الوظيفي كشكل من أشكال التعبير السياسي، حيث حلت الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية المرافقة لها محلها، وباتت هذه الأشكال هي المعبّر عن الاصطفافات السياسية الحديثة. وفي البلدان التي دخلت عصر الرأسمالية، أعيد تنظيم المجتمع، فتأسست الدولة الحديثة، وما ترافق معها من مفهوم سيادة القانون وفصل المجالات الاجتماعية، وهو ما أسس لاحقاٌ لمفهوم الفرد الحر المعرّف بمواطنيته.
في المجتمعات التي فشلت في تحديث بناها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أي البلدان التي عجزت عن دخول عصر الرأسمالية، لم تتبلور دولة حديثة بالمعنى الذي سقناه أعلاه، وظلّت الانتماءات الما قبل رأسمالية حاضرة داخل هذه البنى الاجتماعية. لم يَسُد القانون، ولم تحلّ الدولة الحديثة، ولم يتم فصل المجالات الاجتماعية.. إلخ، بينما الفرد الحر المعرف بمواطنيته ستؤجل ولادته إلى وقت آخر.
وفي الوقت الذي استمر فيه وجود الطوائف في البلدان المتقدمة بصفتها الثقافية الاجتماعية (حرية المعتقد)، اتخذت فيه الطوائف في مناطق أخرى شكل التنظيمات السياسية، كلبنان على سبيل المثال، حيث الطوائف جزء مكوّن من بنى الدولة اللبنانية، وتعبر عن كونها كيان سياسي وليس شيء آخر.
في سوريا، عصر حكم الأسد، يختلف شكلياً عما هو في لبنان، وكما أشار ديبو عن حق، احتكرت سلطة الأسد التمثيل الطائفي، وعندما ظهر الإخوان المسلمون لأول مرة ككيان يدعي تمثيل الطائفة السنية في وجه نظام الأسد الذي ادعى أيضاً تمثيل الطائفة العلوية، نشبت حرب ضروس، حطم فيها نظام الأسد ليس فقط تنظيم الاخوان المسلمين، بل أيضاً كل من تسوّل له نفسه البروز كممثل لجماعة سورية. وكان النظام كما الاخوان يبحثان عن مشروعية اجتماعية تضمن سيطرتهم على السلطة السياسية، وفي كلا الحالتين تم الاتكاء على الايديولوجي، أي الانتماءات الطائفية للمجتمع السوري، وسعى كلا الطرفين إلى توظيفها في صراعه ضد الآخر، لا صراعاً على تمثيل الجماعة، بل بالضبط صراعاً من أجل السلطة السياسية.
في سوريا، وبخلاف لبنان، لم تكن الطائفية مقوننة، بيد أن التقسيمات الطائفية كانت حاضرة داخل أبنية الدولة بقدر حضورها داخل بنى المجتمع السوري، إلا أن احتكار الممارسة الطائفية كان بيد نظام الأسد على وجه التحديد، أيضاً كما أشار ديبو في مقاله.
تجلت الطائفية هنا كشكل سياسي محدد، مارسه نظام الأسد لضمان سيطرته على المجتمع، حيث أن الأسد لم يعتمد فقط على القوة الضاربة لأجهزته الأمنية وقدرتها على ضبط إيقاع التناقضات الاجتماعية، بل عمل على توظيف كل ما يمكن توظيفه في سبيل ضمان تأبد سيطرته. احتمى نظام الأسد في بداية حكمه بطائفته، كما فعل صدام حسين في العراق، واختار منهم المقربين إليه، كما أشار إلى ذلك الكاتب الفلسطيني حنا بطاطو في كتابه فلاحو سوريا.. إلخ، وشيئاً فشيئاً استبعد خصومه بمن فيهم العلويين، كصلاح جديد، أو من الأقليات الأخرى كمصطفى رستم، وقرب منه كل من حظي بثقته، وبنى سلطته مع الوقت بالاعتماد على رجالات من طائفته حظو بنعمة ثقة الأسد الأب. وتم توظيف الانتماءات السابقة على الرأسمالية من طائفية وحتى عشائرية وغيرها، في سبيل خلق توازن داخل بنى المجتمع تتيح لسلطته الاستمرار إلى الأبد.
على صعيد التجربة السورية، تجلت العلاقة التي تربط بين الطائفية كشكل للسيطرة السياسية وبين نظام الأسد، كعلاقة بنيوية. أي بما هي الشكل الوحيد الذي تمكن من خلاله الأسد الاستمرار في حكمه لحوالي نصف قرن. فنظام الأسد لم يكن ليستمر في حكمه إلا عبر شكلين أساسيين من أشكال الممارسة السياسية، الأول وهو الممارسة الديكتاتورية بأقذر صورها، من جهة، وتمزيق المجتمع عبر توظيف كل الأشكال الممكنة، من توظيف الموروث الثقافي إلى توظيف تنوع المجتمع في حد ذاته، وذلك في سبيل إنعاش تمايزات وهمية، تحرف التناقضات الاجتماعية فيه عن مستواها الحقيقي أي السياسية، من جهة ثانية.
ونجح الأسد في خلق تناقضات يسهل عليه التحكم بها، فكان من الجيد أن يكون الصراع ضد الأسد هو صراع ضد نظام علوي، على أن يكون صراعاً ضد سلطة فاسدة قمعية، وكان من السهل التحكم بخصم يقدم نفسه "كسني" على أن يقدم نفسه كإنسان مسحوق ومتضرر من ممارسات تلك السلطة الاستبدادية. وفي كل الحالات نجح نظام الأسد في التلاعب بمكونات المجتمع السوري، وكان أفضل ما يمكن أن يحدث حين انفجرت ثورة آذار 2011 هو إعطاء هذه الثورة هوية طائفية تجعل من السنة (وليس المقهورين) في مواجهة العلويين (وليس السلطة الفاسدة). ونجح نظام الأسد مرة أخرى في تكريس تمايزات اجتماعية سابقة لعصر الحداثة وبشتى الأسماء، أي تمايزات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تمايزات أهلية.
اليوم يبدو المشهد السوري في غاية الدموية، لا بسبب احتدام الصراع واتخاذه شكل الحرب الأهلية وحسب، بل وأكثر من ذلك بسبب اقتناع الضحية السورية بما أكيل لها من تهم ومن صفات باتت جزء من هويتها المعلنة، حيث فقدت تميزها كضحية مطالبة بالحرية والانعتاق.
[1]- هل نحرر المستقبل من الماضي؟، موقع: سوريا حكاية ما انحكت، راتب شعبو، 15-5-2015.
[2]- السلطة واحتكار الطائفية في سوريا"، موقع حكاية ما انحكت، محمد ديبو، 27-11-2014.
[3]- "المسألة الطائفية، مسألة سياسية، وليس مسألة اقتصادية"، مهدي عامل، في الدولة الطائفية، ص 191.