الخوف بدلاً من السياسة


31 أيار 2015

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

لم يكن لمن يرى عناصر داعش وهم يجوبون أنحاء سجن تدمر السيء الذكر ويكشفون أمام الكاميرات الوجه الحقيقي لدولة الأسد، إلا أن يتساءل: هل سجون داعش في الرقة والموصل وفي غير مكان أقل سوءاً؟ وهل قدرنا الحزين دائماً أن تسقط سجون الطغاة في يد الطغاة؟

في السياق ذاته، لم يكن جديداً على أحد ما كشفه لقاء الجولاني من فراغ فكري وسياسي لدى هذه التنظيمات التي يملأ العنف والقسر وضيق الأفق كل مساماتها. لا يمكنك أمام هذا الرجل الذي يخفي وجهه عن السوريين وهو "يجاهد"، في الوقت نفسه، كي يحكمهم، إلا أن تتساءل أي قيمة، سوى العنف، يمتلك هذا الرجل؟

في أريحا كما في تدمر، في الساحل كما في دمشق، انطفأ حلم السوريين بدولة تحترمهم وتحمي حقوقهم، معظم السوريين باتوا مجرد شهود أحياء على موتهم وخراب بلادهم. تراجعوا إلى الجدار الأخير من الحقوق، الحق بالحياة. الخوف، وليس السياسة، هو الذي يقسمهم إلى معسكرين. بشر منهم يخافون وحشاً إسلامياً قادماً وهو سعيد بما لديه من "عصمة وصلاح" ويريد أن يوزع رحمة الله على العباد "هداية" أو قتلاً، فيتمسكون بالنظام إذ يعتبرونه جداراً للحماية. وبشر يخافون وحش النظام ببراميله وقتله العام وأعماله الانتقامية، فيتمسكون بكل من يقف في وجهه ويسعى لإسقاطه. لم يبق مكان للسياسة، ولم يبق مكان لترف الاختيار بين هذا وذاك. وحشان يقتسمان البلاد ويقتسمان الناس بالخوف والعنف.

أمام واقع بهذا البؤس والغرابة، تزداد كثافة الأسئلة البدائية: حقاً لماذا يريد هؤلاء (داعش والنصرة وأضرابهما) إسقاط النظام؟ ما دوافعهم، وأين تتقاطع مع حاجات الشعب السوري لإسقاط نظام مستبد وفاسد؟ بماذا يعدون الشعب السوري؟ وإذا كان جواب "خلافة داعش" واضحاً هو إن إسقاط النظام لا يعنيها بقدر ما يعنيها السيطرة على مناطق واسعة لإعلان الخلافة ثم التمدد إلى مناطق أوسع فأوسع، ما يعني إن عداءها للنظام عداء جغرافي وليس عداء سياسياً، وهو عداء تضمره بطبيعة الحال لكل الدول المجاورة (وغير المجاورة أيضاً) طالما أن هذه الدول تشغل مساحة جغرافية من أرض أورثهم الله إياها. نقول إذا كان جواب داعش واضحاً، فما هو جواب بقية التنظيمات الجهادية العاملة في سورية؟

نفهم من الجولاني (الذي يعنيه إسقاط النظام على خلاف داعش، وزعيم أبرز تنظيم جهادي في جيش الفتح الذي استلوى في فترة قياسية على مدن إدلب وجسر الشغور وأريحا) في مقابلته على فضائية الجزيرة إن عداءه للنظام ديني وليس سياسياً أيضاً. فهو يجاهد لإسقاط نظام علوي، والمذهب العلوي، كما يرى، ليس من الإسلام، وعلى العلويين، كغيرهم من العباد الذين حكم عليهم الله بالولادة على مذاهب تختلف عن مذهب الجولاني، أن يتبرؤوا مرتين كي ينالوا أخوّة الجولاني وحمايته، مرة من نظام الأسد ومرة من عقيدتهم الضالة.

النصرة، كمثال عن أضرابها، تستهدف إذن الأفراد وليس النظام السياسي في المجتمع. لم ينتقد الجولاني النظام السوري سياسياً بل مذهبياً. لم يقل إن النظام قتل مليوناً من السوريين، بل قال إن العلويين قتلوا مليوناً من السنة. ويعلم أبسط متابع إن في قوله هذا تضليل وكذب وتفخيخ لمستقبل السوريين. يهرب الجولاني من الكلام عن النظام السياسي السوري لأنه يدرك أنه يحمل للسوريين نظاماً سياسياً لا يقل سوءاً، لذلك تراه يركز على المذهب دافعاً المستمعين إلى التسليم بأنه يستمد شرعيته من مذهبيته لا غير. جبهة النصرة لا يعنيها الاستبداد بما هو استبداد، يعنيها من يمارس الاستبداد، ولسانها يقول إن الاستبداد لي وحدي. لا "النصرة" تريد لمجتمعنا أن يتحرر لأنها ترى في الحرية كفر، أكانت حرية سياسية أو دينية أو شخصية. لا تجد النصرة تناقضاً بين قيامها ضد نظام مستبد قاتل، وبين مسعاها لفرض مذهبها الديني الخاص على السوريين، وهذا المذهب قد يجد النسبة الغالبة من السوريين السنة على ضلال. تعرف "النصرة" أنها تزرع استبدادها في تربة استبداد النظام، تريد لاستبداد النظام وإجرامه أن يسوغ مذهبها الخاص في الاستبداد والإجرام.

كما اعتاد السوري أن يغير في سلوكه وكلامه على الحواجز التي تملأ سورية، وذلك حسب الجهة التي يتبع لها الحاجز، يعتاد السوري أن يماشي الجهة التي تسيطر على منطقة إقامته. سقط من حسابه القريب مفهوم التحرير، دع عنك الكرامة والحرية، حتى أنه تولد لديه نفور من الدين على ما يقول أحد أهالي تدمر الفارين لمراسلي نيويورك تايمز: "سأقول لكم كلاماً ليبقى بيننا، ربما أكفر في كل أديان العالم".

يبقى إنه لا شيء يبرر استسلام السياسيين والمثقفين غير الإسلاميين لأي من طرفي الصراع اليوم، إن ذلك بمثابة التخلي عن مسؤولية وواجب أخلاقي تجاه سوريا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد