يدور حديث مكثف في الكواليس وفي وسائل الإعلام اليوم عن "اتفاق طائف" ما يرتب لسوريا ليكون خاتمة غير سعيدة للثورة وللأزمة التي دخلتها في آن. وهو حديث تكرر خلال محطات معينة من الثورة السورية، الأمر الذي يعيد الطائفية إلى دائرة التداول مرة أخرى، لنطرحها في ملف جديد بعد أن كان موقع "حكاية ما انحكت" قاربها من زوايا مختلفة: دور النشطاء في محاربتها، مستقبلها، دور السلطة، علاقتها مع الدولة والمجتمع..
لاشك أن تراجع سلطة الدولة وقدرتها على القمع حرّر المجتمع والمثقفين على السواء من "المحرّمات" التي كانت تمنعهم من وضعها على مشرح البحث التاريخي والمعرفي ومن الخوض بها إلا ما ندر، فهي كانت سابقا تعالج بالتقية والمواربة تارة، وبعدم الاعتراف تارة، وباعتبارها "أداة استعمارية امبرالية" تارة، إلى أن انفجر المرجل السوري وباتت الأكثر حضورا وطغيانا، حيث أدى طول الصراع السوري، وعدم قدرة الطرفين ( معارضة وسلطة) على الحسم وقوة المكوّن العسكري على حساب المدني إلى تهتك النسيج الاجتماعي الوطني أو ما كان منه لصالح تقدم المادون وطني والأهلي ليصبح هو الأكثر حضورا وفاعلية اليوم، ما يجعل البعض يتحدث عن شرعية "اتفاق الطائف" استنادا لهذا المكوَّن، في حين يرد آخرون أن "اتفاق الطائف" ليس إلا وصفة للخراب، مستندين بذلك إلى النتائج الكارثية للنموذجين اللبناني والعراقي، حيث تعطلت الدولة على مذبح الطوائف، وكفّ الجيش عن أن يكون حاميا لصالح الميلشيات المشدودة إلى طوائفها ومشغليها الخارجيين بدلا من سلطة الدولة الوطنية المفقودة أساسا.
بين الرأيين نسعى في هذا الملف، لطرح الأمور الطائفية كما هي، بدءا من تعريفها و تكوّنها إلى دور السلطة فيها، إلى الفرق بين الدولة الوطنية والطائفية، وعما إذا كان هناك فرقا بين الأخيرة والدولة الدينية، وصولا إلى علاقتها مع الدولة وعما إذا كان يمكن للمكونات المادون وطنية (طوائف، قبائل، إثنيات) أن تكون حوامل اجتماعية للسلطة الجديدة أم لا، وليس انتهاءا بالبحث عن كيفية إعادة تأهيل الوطنية السورية التي تعرضت للتفكك والتذرر، وما هو البديل عن الطوائف أو الجماعات حال لم تكن القوى الديمقراطية الوطنية قوية ومؤهلة للقيام بهذا الدور، وهل يمكن لاتفاق الطائف أن يكون معبّرا أو ممرا إجباريا لدولة المواطنة أم أنه ليس إلا معبرا لتدمير الدولة وغياب أي دور لها؟
لا يمكن أيضا مقاربة الملف الطائفي في سوريا، دون قراءة الداخل السوري ( طائفيا ووطنيا) على ضوء خريطة القوى الإقليمية والدولية التي أصبحت صاحبة الدور الأكبر في سوريا اليوم، سواء من حيث دعم طرفي الصراع على أساس طائفي أم من حيث دورها في الحل المنشود، الأمر الذي يجعل الطائفية المنتشرة اليوم حياكة سياسية تُقدم تلك القوى على صناعتها وهندستها بغية حماية أهدافها ومصالحها، وهو ما يدفع السعودية وغيرها للتفكير باتفاق طائف ما يضمن مصالحها ومصالح خصومها في سوريا ( روسيا وإيران) الذين يفكرون بنفس المعيار الطائفي، دون أن ينتهي الأمر عن دور القوى الوطنية السورية في مقاومة هذا الواقع، وعما إذا كان يمكن لها أن تقاومه حقا بعد اليوم، لنصل إلى أسئلة من نوع: هل تتوقف صناعة وحياكة الطائفية بتوقف الأطراف الخارجية عن دعمها وتصدير موادها الأولية إلى سوريا؟ أم أن العطب الأساس في الداخل، أي في الأديان والطوائف والأقليات التي يملك كل منها موروثا دينيا، طائفيا، لم يعمل مبضع النقد فيه، ما يقودنا إلى سؤال آخر يتعلّق بموقع الإصلاح الديني المؤجل عربيا وعلاقته بالطائفية أو تأثير غيابه عليها، ليس على صعيد دين الأكثرية فحسب، بل أيضا أديان الأقليات التي تحتمي بالمظلومية التاريخية، متناسية أن موروثها الديني لا يقل ظلامية ( في بعض نصوصه) في كثير من الأحيان عن نصوص الأديان التوحيدية الأكثروية..
أسئلة كثيرة وكبرى، نطرحها علّها تكون فاتحة نقاش مثمر حول الطائفية في سوريا، ساعين لزرع بذرة النقد لتفكيك الأساطير الطائفية لصالح وطنية واقعية نريدها أن تثمر يوما ما في سوريا: عدالة وحرية ودولة مدنية علمانية..
هل هذا حلم؟
لم يكن الواقع يوما إلا حلما، فلنحلم بواقعية ولنعمل بهدي الأحلام.