ياسر صافي يبحث عن وطن ليخونه


12 حزيران 2015

إذا قيّض لأحد أن يتمعن في لوحات  ياسر صافي دون أن ينتبه لعناوينها، ستأسره الألوان المنفتحة على الحياة وتقوده نحو طفولة غادرها ذات ضلال ونسيها وهو يركب قطار الحياة السريع: طائرات، دمى، رؤوس، عربة، حارس مرمى، كرة قدم، رؤوس حيوانات، جنود مصفوفون كما يصف طفل جنوده وهو يلعب!.. كل ذلك مظلل بألوان قزحية من المفترض أن تبعث الفرح في الروح والسعادة في الجسد.

إلا أن الفرح والسعادة لا يأتيان، ثمة انقباض يمسك الروح، و سواد يظلل الألوان حتى وهو غائب عنها. ثمة طفولة لا تفرح ولا تبهج القلب، بل تمزقه بسياط الألم وتعلقه ببراثن الموت المحمول على بندقية هنا وطائرة هناك وبرميل أكبر من مساحة الطفولة. نحن أمام رسومات أبعد عن أن تكون لعب أطفال وأصغر من أن تهزم الطفولة، ولكنها شيطانية بما يجعلها تسمّم كلّ شيء، فهل هي حقيقة أم مجرد لعب أطفال؟ أي قاس هذا الذي يشوّه الطفولة؟ ومن هو؟ هل الفنان أم ذاك المتربص في مكان ما؟

في إطار البحث عن جواب طرحته لوحات مثقلة برموزها، ومستدرجة بأسئلتها، تقفز العناوين (مخيم، عسكرة، برميل، كولونيل، ديكتاتور، كابوس، والد ليلى والذئب، الجنرال يدخن، أخت الشهيد.. ) واضحة كطلقة مسدس، لتخرجنا من طفولة أوهمتنا ببراءتها إلى واقع لا يفعل إلا أن يدوس القيم والجمال: لتنفتح الأحجية أمام هذا الموت والخراب والدمار والحرب والدكتاتورية التي لم يجد الفنان وسيلة لمقاومتها إلا باستدراج طفولته، علّ القناص يتوّقف أمام عينين غادرتهما البراءة.

لوحة بعنوان "مخيم" للفنان ياسر صافي. المصدر: خاص حكاية ما انحكت
لوحة بعنوان "مخيم" للفنان ياسر صافي. المصدر: خاص حكاية ما انحكت

إلا أن اللوحات وكوابيس الطفولة تقول أن الدكتاتورية لم تتوقف بل تثابر على عملها جيدا، ملوّثة كل شيئ، محتلة اللوحة بـ "مخيم" توزع أطفاله بين أرجائه أو "عسكرة" التحقوا بها باكرا فغدا صف الجنود الذي لعبنا به في طفولتنا في استدراج غبي للمتعة واقعا، فهل بدأت الدكتاتورية من تلك اللحظة التي تمجد الجنود و الحرب؟ وهل هي أبعد من أن تكون مجرد دكتاتور ونظام مستبد لم يتردد الفنان في الوقوف ضده، لأن القليل من "الوجدان يكفي كي ينحاز الإنسان إلى صرخة الأطفال في درعا، وإلى المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة، التي واجهتها السلطة بالرصاص والعنف المكثف" كما يقول لحكاية ما انحكت؟

هذا ما تشير له لوحتا "والد ليلى والذئب" و "إلى فنان اشتراكي"، حيث الأب في اللوحة الأولى يحمل قناع الذئب، ليخيف ابنته وقت يشاء، فكانت سلطته دكتاتورية مكنت الدكتاتورية الكبرى، في حين أن "المثقف الاشتراكي" الذي انتمى للإيديولوجية على حساب الشعب كان أكثر من متكأ للدكتاتور، علما أن اللوحة هذه تقرأ بأكثر وجه، فقد تكون إشارة إلى مثقف اشتراكي حقيقي وقف فعلا مع الشعب، ولكنها حتى في هذه الحالة، فهي تشير ضمنا إلى آخر تسربل بمقولة الشعب، ممهدا للدكتاتور سحق ربيع الطفولة والشعب المهموم بالبحث عن "جرة غاز" تحضر في اللوحات، وباتت تستخدم اليوم في سوريا سلاحا اسمه "مدفع جهنم" وأداة للطعام ووسيلة إذلال للحصول عليها.

صورة تظهر لوحات للفنان صافي من معرضه في صالة مارك هاشم في بيروت. المصدر: حكاية ما انحكت
صورة تظهر لوحات للفنان صافي من معرضه في صالة مارك هاشم في بيروت. المصدر: حكاية ما انحكت

العناوين المباشرة لا تعني الحط من القيمة الجمالية للوحة، فالفنان الذي يدافع بقوة عن علاقة الفن مع المجتمع، إذ يعتبر أن "هناك علاقة جديدة بين الفنان والمجتمع، فرضتها الأسئلة المصيرية للواقع الدامي في سوريا، حول الدور التفاعلي للفنان كفاعل في إعادة المنظومة الأخلاقية التي دمرتها الأنظمة الديكتاتورية، وما نتج عنها من خراب روحي عميق"، لا يدفعه إلى رهن اللوحة لهذه المباشرة، بل تبقى الكلمة العليا هنا للفن، لأن "الالتزام هنا ليس أيديولوجياً أو عقائدياً لتأطير القلب والعقل ..  لا توجد مشكلة في معالجة الرسم للمضامين الاجتماعية والسياسية بشرط أن تعالج وفق رؤية فنية مستقلة".

"الدمية" لوحة كافكاوية بامتياز، قد تكون الأشد ألما وجرحا وتكثيفا عن معادلة الطفولة و الحرب، إذ يبدو للوهلة الأولى أننا أمام دميتان في لوحة، ليقودنا المزيد من التحديق إلى دمية لازالت "حيّة" تتفرج على طفلها/تها التي غادرت هذه الحياة، دمية مبتسمة سعيدة بلهاء أنيقة تحدق في الموت الملّوث العبثي المجاور لها دون أن تفهم شيئا. ثمة تبادل أدوار هنا، فالطفلة أصبحت دمية من نوع آخر، والدمية تسعى لأن تبث الفرح في قلب طفلتها.

حتى الدمى أفضل حظا من أطفال سوريا اليوم. أيّ حجارة معلقة بالقلب، أيّ حزن وأسى وألم كان يكتنف قلب الفنان وهو يرسم ذلك؟ وأي قوة امتلكها ليصمد حتى ينهي رسم كل هذا الخراب؟

لوحة بعنوان "غرفة بملايين الجدران" للفنان صافي. المصدر: خاص حكاية ما انحكت
لوحة بعنوان "غرفة بملايين الجدران" للفنان صافي. المصدر: خاص حكاية ما انحكت

أربع لوحات مرسومة بأسلوب الحفر تخرج من مناخ الطفولة واللون لتتوّحد مع موضوعها لونا ( أسود وأبيض) وعملا، وكأن الفنان عجز عن التمسك بطفولته فانهار ليرسم "غرفة بملايين الجدران" ( وهي مهداة للشاعر محمد الماغوط) كإشارة إلى معتقل كبير اسمه سوريا، و"الجنرال يدخن" و "أخت الشهيد" و "غرفتها فضية" كدلالة على حب موؤود في زنزانة اسمها الوطن، سبق أن أعلن الماغوط عن خيانته مبكرا، وهاهو ياسر صافي لا يتردد في خيانته لحظة واحدة.

الفنان في سطور:

1976 تولد القامشلي , سوريا

1997 إجازة من كلية الفنون الجميلة_قسم الحفر والطباعة_جامعة دمشق, سوريا

1999 دبلوم دراسات عليا في الحفر من كلية الفنون الجميلة, دمشق

1999-2001  مشرف في قسم الحفر - كلية الفنون الجميلة - دمشق

1999-2005 مدرس قسم الحفر في معهد ادهم إسماعيل, دمشق

2006-2009 مشرف على قسم الحفر في معهد الشارقة للفنون, الإمارات العربية المتحدة

2010 ورشة عمل/طرابلس-لايبزك/ بالتعاون مع جامعة لايبزك للفنون البصرية في المانيا

المعارض الفردية:

 

2010 صالة قزح للفنون, دمشق

2007 صالة بورتريه, القاهرة ,مصر

2007 مجلس غاليري, دبي

2007 رواق الشارقة للفنون, الإمارات

2006 صالة زارة ,عمان, الاردن

2002 نوتس ,بالتعاون مع صالة قزح, بروكسل ,بلجيكا

1999 المركز الثقافي الفرنسي في دمشق

الجوائز:

2001 الجائزة الأولى للحفر, صالون الشباب السوري, دمشق

2001 الجائزة الثانية للحفر في بينالي اللاذقية, سوريا

2000 جائزة تقديرية من معهد ثربانتس, دمشق

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد