في الوقت الذي أصر فيه المفكر "سلامة كيلة" في حوار سابق معه على رفض "طائفية النظام" و مفهوم "العلوية السياسية"، يصر الكاتب "فيكتوريوس شمس" في هذا الحوار على طائفية النظام السوري، رغم انتمائه في التفكير إلى خلفية يسارية تجعل من تعريف مهدي عامل للطائفية مرجعا له، الأمر الذي يدفعه للتنبؤ بأن أي حل في سوريا قد يكون ذا صبغة طائفية.
في هذا الحوار، يتساجل فيكتوريوس مع أفكار سلامة كيلة مجددا، ويقدم رؤيته للطائفية وعلاقتها مع السلطة والبراجوازية والفئات الحاكمة، محللا بينة النظام السوري وطائفيته كما يراها.
أجرى الحوار: أنريكو دي أنجليس ومحمد ديبو
س (1): قبل أن ندخل في هذا الحوار المخصص لمناقشة المسألة الطائفية في سوريا، هل يمكن أن توضح لنا ما هي الطائفية من وجهة نظرك؟ وما هو الفرق بين الطائفية والطائفة؟ ومتى نقول عن نظام ما أنه طائفي مثلاً؟ ومتى نقول أنّه مستخدم للطائفية فحسب؟ وهل يختلف النظام الطائفي عن النظام الديني مثلاً؟
فيكتوريوس شمس: برزت المسألة الطائفية بداية في لبنان، وكان أبرز مُنظّريها "ميشال شيحا" (1891 – 1954) وهو واضع الدستور اللبناني في العام (1926). والذي اعتبر أن لبنان بلد فريد من نوعه "لا يُشبه إلا ذاته" بسبب تنوّعه الطائفي، فهو إذاً "بلد أقليات طائفية متشاركة"، والطائفة هي "كيان اجتماعي قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية، عميق الجذور في وجوده". بناءً عليه تُعتبر الطائفة هي الوحدة الاجتماعية الأولى، لا الفرد. وهي مدخل الفرد ومعبره باتّجاه الدولة، أي أن الفرد لا يوجد في الدولة كمواطن، إلا بحسب موقعه الطائفي.
هذا هو الفهم الطائفي للطائفة وللطائفية كسلطة "أقليات طائفية متشاركة".
أمّا الرد العلمي الذي أتبنّاه فهو تعريف "مهدي عامل" الذي اعتبر فيه أن الطائفة "علاقة سياسية محدّدة بشكل تاريخي محدّد من حركة الصراع الطبقي"، أي أن الطائفة لا تقوم، وتتماسك سياسياً كطائفة، إلا بعلاقتها بالطوائف الأخرى، وبموقعها في الدولة، وقربها أو بعدها عن السلطة في شبكة من المصالح والتقاطعات مع المكونات الطائفية الأخرى في الكيان السياسي الواحد.
أما الطائفية، فهي النظام الذي يؤمّن للبرجوازية الكولونيالية (هذا في المجتمعات متعدّدة الطوائف، بينما قد تحل القبلية، أو الجهوية.. إلخ في مجتمعات أخرى) ديمومة سيطرتها الطبقية.
أما "متى نقول عن نظام ما أنه طائفي مثلاً؟ ومتى نقول أنّه مستخدم للطائفية فحسب؟"، فالسؤال بحاجة لتدقيق، لأن فيه لبس، يُشيّىء الطائفية، لتبدو وكأنّها رداء يُخلع ويُلبس حسب المزاج، وهذا تبسيط وتسطيح لا يمنعنا من افتراض أن النظام الذي "يستخدم" الطائفية يستطيع أن يستخدم نظام آخر متى شاء. أن يكون نظاماً ما ديموقراطياً، أو ديكتاتورياً، أو حضارياً، أو قبلياً، ليس قراراً مزاجياً تستخدمه الطبقات المستأثرة بالسلطة متى شاءت، هذه مسألة لها علاقة بمصالح طبقات مهيمنة تلجأ للنظام أو للنمط الذي يؤمّن لها ديمومة سيطرتها الطبقية في بيئة اجتماعية مُحدّدة بغض النظر عن قناعات أفرادها الشخصية. وهنا نردّ على السؤال بسؤال: هل يستطيع النظام الليبي الحالي وهو في ذروة مآزقه استخدام الطائفية لتثبيت سلطته؟. الجواب: هنالك استحالة، لأن المجتمع الليبي متجانس طائفياً. هذا يعني أنّه سيلجأ لعصبية أخرى (بحسب المفهوم الخلدوني للعصبية) ربّما يجدها في الجهوية أو القبائلية.
اعتمد النظام السوري جملة مفاهيم قومية ممزوجة بأفكار وشعارات اشتراكية متناثرة في مراحل سابقة، كانت تؤمّن له سيطرته وإعادة إنتاج نفسه. لكن انفجار الثورة يعدّ إيذاناً بإفلاس هذه الشعارات التي أُفرغت من معانيها، فما عاد مجدياً استخدامها، فاضطر بحكم الأمر الواقع، والتركيبة الاجتماعية السورية لشكل آخر من الصراع، أي للتصعيد والتجييش الطائفي الذي ليس لديه خيار آخر سواه. وهذا يطرح سؤالاً آخر: بغض النظر عن الشكل الحالي للصراع، هل يستطيع النظام العودة لاعتماد المفاهيم القومية و الاشتراكية السابقة، والجواب مجدّداً: بالقطع لا.
استخدام الطائفية، هو هو الطائفية، لا فرق ولا فصل بين الاثنتين، والمسألة لا تُقاس بنوايا ورغبات وآمال القائمين على الصراع من الجهتين (نظاماً و "معارضة")، بل بتأثّير حركة الصراعات على الأرض ومدى قدرة الفئات المتصارعة الحفاظ على سيطرتها، خاصة في ظل انعدام أي نمط حكم بديل، بغياب كل التيارات الأيديولوجية كالقوميين والماركسيين وغيرهم.
أمّا الفرق بين النظام الديني والنظام الطائفي، فهو، أن النظام الديني نظام أغلبية دينية مطلقة، ليس فيه شراكة مع أي طائفة دينية أخرى رغم وجود هذه الأقليات الطائفية في الدول الدينية كالسعودية وإيران مثلاً. بينما النظام الطائفي يفترض بالأساس وجود مجموعة أقليات دينية متشاركة في السلطة على أساس المحاصصة، وإن كان هنالك هيمنة لواحدة على أخرى.
س(2): تقول في جدالك مع المفكر سلامة كيلة أن النظام السوري هو نظام طائفي في العمق، هل لك أن تبين لنا هذا الأمر، بمعنى متى نقول عن نظام ما أنه طائفي وليس سلطوي فحسب؟ ولماذا ينطبق الأمر على النظام السوري؟
فيكتوريوس شمس: من حيث المبدأ، كل نظام، هو نظام سلطوي. النظام الرأسمالي هو نظام حكم الطبقات الأكثر ثراء، أي نظام تسلّطها على من هم دونها، والعكس بالنسبة للنظام الاشتراكي. السلطوية شرط من شروط وجود السلطة (النظام). أمّا عن مسألة الفصل بين أن يكون النظام "طائفي وليس سلطوي" فهو أمر مستحيل نظرياً، لأن الطائفية هي "النظام الذي يؤمّن للطبقات المسيطرة ديمومة سيطرتها في نمط الإنتاج الكولونيالي"، انتفاء الطائفية، يعني انتفاء سلطة الطبقات المسيطرة في بلدان كولونيالية متعدّدة الطوائف. بهذا يكون من المستحيل في نمط الإنتاج الكولونيالي فصل السلطوية عن الطائفية، فوجود هذه شرط لتلك، والعكس صحيح.
أما عن طائفية النظام السوري، فيجب التمييز بين ممارسات طائفية تمارسها السلطة التي تستحكم فيها أقلية طائفية ما كما هو حاصل في سوريا، وبين نظام طائفي مُمأسس كما هو حاصل في لبنان.
في الحالة الأولى تبدو الممارسات جزء من سيرورة طويلة ومعقّدة ستؤدّي بالضرورة إلى تطييف المجتمع بعامّة وهو ما جاءت الحرب لتفضحه. بينما في الثانية، لا تستطيع طائفة أن تستأثر وحدها بالسلطة بشكل مطلق، فـ "الشراكة" والمحاصصة المقوننة هي الأساس.
بمعنى، أنّ الطائفية في سوريا لم تُكرّس بعد بنصوص دستورية على غرار النموذج اللبناني. لكن ممارسات النظام السوري تعبّر عن السير سريعاً بهذا الاتجاه، كالإستئثار والسيطرة الواضحين على المفاصل الأمنية والمالية في البلاد. مفيد هنا العودة لكتاب عزمي بشارة "سورية: درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن"، إذ يقول مثلاً في الصفحة (318) وبفقرة تحت عنوان: "مسارب الطائفية خلال الثورة": "إن مقولة "الفتنة الطائفية"، وإن لم تفتقر إلى روافد ومغذيات مجتمعية، هي جزء من خطاب سياسي استحضره النظام في الأزمات التي تواجهه، ولم يتردّد الرئيس بشار الأسد في خطاب 30 آذار/ مارس 2011 في وصم الحركة الاحتجاجية بمصطلحات "الفتنة الطائفية" التي تهدف إلى ضرب الاستقرار وإشاعة الفوضى. وبدا واضحاً في خطابه أن النظام معني بالتخويف من فتنة طائفية إلى درجة الاستفزاز كي يثبت أن الدولة السلطوية وحدها تحافظ على وحدة المجتمع والدولة في سوريا، وأن الاستجابة للمطالب الديموقراطية سوف تؤدّي إلى الفتنة والانقسام. لكننا لا نستثني احتمال أن النظام، ونتيجة معرفته بسياساته التي حوّلت الطائفة العلوية إلى نواة النظام الصلبة، شعر بأن الثورة هي ردّة فعل على مركزة الثروة والسلطة، وكان واعياً أنّها لا بد من أن تحمل شحنات طائفية ضده أو حتى ضد الطائفة العلوية".
هنا لا بد من توضيح مسألة مهمّة (إذا اعتبرنا أن الصراع كما يريده النظام، هو صراع سنّي – علوي)، وهي أن هنالك علويون مع الثورة، وسُنّة مع النظام. لكن نسبهم في الجهتين ضئيلة ولا يُعتد بها لتعميمها، أو الاستشهاد بها كدليل على لا طائفية النظام.
باختصار كلّي نقول: ميّز النظام بين مواطن عادي، ومواطن له امتيازات من طائفة أخرى طوال فترة حكمه، وهذه واحدة من أسباب الاحتقان الشعبي الذي أدّى لما وصلت إليه حال البلاد اليوم. مازالت الأحداث تتصاعد وتتفاعل ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، هذا ما دعانا للقول أنّه: "نظام طائفي في العمق"، والفكرة لم تتغيّر بعد.
(3): تقول في ردّك على "كيلة" لكي تؤكّد الصفة الطائفية للنظام "بعد المآلات الأخيرة للصراع والذي اتضحت فيه بشكل لا يقبل الجدل الممارسات الطائفية البشعة للنظام، والتي عبّرت عن نفسها خير تعبير بعمليات الترنسفير في بعض المدن والمناطق، والتي استعان فيها بميليشيات طائفية تشبهه من كل دول الجوار، أعلن بعضها صراحة أنّه يتدخّل لحماية "مناطق شيعية حدودية، و "مزارات" و "مقدّسات دينية". كلامك هنا صحيح ولكنه أيضاً يغض النظر عن بعض المسائل: مثلاً إذا كان النظام طائفيا ويقوم بعمليات ترانسفير ضد السنة كما تقول: كيف تقرأ وجود نسبة كبيرة من النازحين السنة في طرطوس واللاذقية، فإذا كان النظام طائفياً ويريد الحفاظ على مناطق صافية فلم يسمح لهم بالنزوح لهذه المناطق ونفس الأمر ينطبق على مناطق أخرى؟ وبنفس الوقت ماذا عن المكونات السنية الأخرى التي تقف إلى جانب النظام؟ الإسلام الشامي مثلاً؟ وقد رأينا منذ فترة دعوة "القبيسيات" وبعض رجال الدين السنة لانتخاب الأسد، ناهيك عن الطبقة البرجوازية الدمشقية والحلبية التي طالما كانت عصباً أساسياً من أعصاب النظام؟ كيف تفكّك هذا الأمر وتقرأه؟
فيكتوريوس شمس: التهجير القسري الذي يحصل في بعض المدن كحمص وبعض المناطق الحدودية مع لبنان، يبدو وكأنّه تحسباً لأي سيناريو تقسيم على أساس طائفي في المنطقة، لهذا يعمل النظام على تغيير ديموغرافية بعض المناطق في ظل حديث عن عمليات توطين وتجنيس لكتل بشرية ذات لون طائفي واحد قادمة من سوريا ومن خارجها. هذا يعني أن النظام يعمل على السيطرة السياسية على هذه المناطق من خلال إيجاد أغلبية من لون طائفي واحد فيها. الأساس هنا هو الهيمنة السياسية، بمعنى أنّها لن تكون مناطق صافية 100% قد يبدو هذا الصفاء أمراً مستحيلاً، فحتى "اسرائيل" ورغم كل حروبها على الشعب الفلسطيني لم تستطع اقتلاع الفلسطينيين بشكل مطلق من أراضيهم، وهذا ينطبق على النظام السوري وغيره كما حصل في لبنان طوال الحرب الأهلية أيضاً. هنا يجب أن نفصل بين لجوء النازحين الذين لا يبتغون أكثر من الحفاظ على حياتهم بعد تدمير مناطقهم وانعدام الأمن فيها، أي أنّهم لا يطمحون للسيطرة السياسية على المناطق التي نزحوا إليها. وبين احتلال النظام لمناطق أخرى يطمح لأن تكون جزء من كانتون طائفي في المستقبل. عدا عن ذلك، فإن النظام مازال يمارس مهامه في الدولة، وعليه، يطرح السؤال نفسه تلقائياً: ماذا قدّمت الدولة لمن نزحوا إلى المدن الساحلية؟، وهي بالمناسبة مدن مختلطة تاريخياً، بعكس أرياف هذه المدن الذي يعتبر جزء كبير منها مسكون من طوائف بعينها.
أمّا بالنسبة للإسلام، فكل بحسب مصالحه وموقعه الطبقي. الإسلام لا يُشبه بعضه. إسلام "الإخوان المسلمين" شيء، وإسلام النظام شيء آخر تماماً. إسلام "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، أو "جبهة النصرة" ليس كإسلام المتصوفة على اختلاف تياراتهم. "حركة حماس" كانت قريبة جدّاً من النظام السوري، لكنها ابتعدت عنه بعد الثورة عليه عندما طالبها بمساعدته في قمع الإحتجاجات. "القبيسيات" لهُنّ مؤسّسات تجارية ومعاهد ومدارس ومؤسّسات تربوية تلقى كل التسهيل والدعم من النظام، أي أن المصالح متبادلة. النظام بحاجة لأغطية دينية (كديكور) لإثبات عدم طائفيته مع أنّه يدّعي العلمانية، و "القبيسيات" مستعدّات للعب دور الغطاء تماماً كما إسلام النظام الممثّل بمؤسّسات الإفتاء، والمعاهد الشرعية التابعة له.
أمّا "الإسلام الشامي" فهو إسلام البرجوازية المستفيدة من تحالفها مع النظام (تحالف العسكر والمال)، هؤلاء قلّة، لكنهم يملكون الكثير، وقد كانوا جزءاً من عملية سرقة مقدّرات الشعب السوري. يُشار هنا إلى أن عدد كبير منهم نقل أعماله من دمشق لدول أخرى قبل الثورة بكثير بسبب محاولات إجبارهم على الشراكة مع رجال أمن.
من كل ما سبق أردنا القول أن المسألة بالنسبة للبرجوازية الشامية أو غيرها ليست مسألة قناعات بطائفية النظام أو لا طائفيته، بل مسألة مصالح متبادلة في تثبيت سلطة النظام من جهة، وحفاظ هؤلاء على مصالحهم وأموالهم، والطائفية ليست إلا نمط حكم طبقي، إن أمّنت لهم مصالحهم فلماذا يرفضونها. أي أن "إسلام البرجوازية الشامية" لا يعنيه شكل الحكم؛ إلا بالقدر الذي يضمن له استمرار عملية مراكمته للأموال.
(4): تقول استناداً لمقولة مهدي عامل أن "هذا يعني أن الطائفية، لا يمكن أن توجدها "المعارضة"، لأنها لا توجد إلا بالدولة" هل تقصد هنا الدولة أم السلطة؟ وهل تعتقد أن ما قاله مهدي عامل في سياق لبناني خاص ينطبق على سوريا رغم اختلاف السياق التاريخي لكلا البلدين من ناحية أن المارونية السياسية هي نظام متكامل في لبنان تقريباً في حين يغيب الأمر في سوريا؟
فيكتوريوس شمس: أولاً لا نستطيع في بلادنا أن نفصل بشكل واضح بين الدولة والسلطة، وعندما نقول "الدولة" فنحن نقصد أن ذلك المركّب السلطوي القائم داخل حدود جغرافية ما، لا يقوم على مؤسّسات، بل على ولاءات. وهذا مختلف تماماً عن مفهوم الدولة الذي تحكمه المؤسّسات في أوروبا، وفيها فصل واضح بين سلطاتها. السلطة في بلادنا متماهية تماماً بالدولة، وهذا ما تُرجم حرفياً بالشعار الذي رفعه أنصار النظام منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة: "الأسد؛ أو نحرق البلد".
ثانياً، التركيبة الاجتماعية في سوريا ولبنان متشابهة إلى حد بعيد، وبالتالي فإن تطييف سوريا على غرار لبنان وارد جدّاً (بل ربّما هذا ما يحدث الآن). الفارق هنا، أنّنا في ظل أنظمة متخلّفة، تختلف عن بعضها في تفاوت سيرها وسرعاتها نحو التخلّف، فلبنان كان الأسرع والأسبق، سوريا لم تصل بعد لما وصل إليه لبنان، لكنها على الطريق وهذا هو الفارق. ثم هنالك موقع سوريا الجغرافي والذي يتقاطع فيه الأكراد مع أقرانهم في تركيا والعراق، عدا عن أن الطائفة السنّية هي الأكبر على الإطلاق فيه، ليست أكبر من الطائفة المسيحية أو العلوية أو غيرها، بل أكبر من كل الطوائف مجتمعة. وهذا من الاختلافات الجوهرية التي تميّز سوريا عن لبنان.
ثالثاً، وبخصوص العلوية السياسية. يجب أن نميّز بين مرحلتين: قبل الثورة، وبعدها. قبل الثورة كانت "العلوية السياسية" موجودة بشكل مستتر، غير معلن، وغير مكرّس بنصوص دستورية أو تشريعية، لكن كان هنالك هيمنة تحدّثنا عنها أعلاه مستشهدين بمقطع من كتاب عزمي بشارة، هيمنة على المفاصل الأمنية والمالية الحسّاسة بالبلاد، لهذا نستشهد بمقطع آخر من نفس الكتاب، أكثر دلالة ممّا سبقه، وربّما يجيب على أسئلة أخرى، يقول عزمي بشارة في الصفحة (311): ".. إن أخذنا أهم 10 رجال أعمال في داخل سورية فإن معظمهم علويون. والمثال الأشهر في سورية عائلة مخلوف التي تنشط في قطاعات عدّة، خصوصاً احتكار قطاع الهاتف الخليوي والأسواق الحرة وقطاع النفط (كومسيون شركات الإنتاج والبيع والشراء)، وتساهم في عدد غير قليل من المصارف وشركات التأمين الخاصة، إضافة إلى المقاولات والتجارة ومئات الوكالات وغيرها. وليس لدينا شك أن هذا التوزيع استغلته البرجوازية السورية التي لم تُستوعَب في هذه التحالفات في التعبئة الطائفية ضد النظام".
السطرين الأخيرين يتحدّثان عن رد فعل البرجوازية السورية (لم يحدّد الكاتب طائفة هذه البرجوازية، لكنها متنوعة على أن الأغلبية فيها سنّية، وفي هذا رد ضمني عن موضوع الإسلام الشامي، والذي أكدت أنا سابقاً أن المسألة بالنسبة لهؤلاء مسألة مصالح أولاً وأخيراً) والتي بدأت تعبّئ الناس طائفياً، ضد هذا التحالف الطائفي المالي لأنها لم تُستوعَب فيه. هذا يعني أن جزءاً كبيراً من هؤلاء كان متأثراً بتمركز رؤوس الأموال بأيدي هؤلاء المتحدّرين من طائفة واحدة بعينها.
أعود للشق الأخير من السؤال للقول: هنالك فارق زمني بين "المارونية السياسية"، و ما اصطلحتم عليه "العلوية السياسية"، هذا الفارق سيؤثّر ليس بتماثل سوريا بلبنان، أو "لبننة" سوريا، أو "مورنة" الطائفة العلوية، سيؤثّر هذا الفارق الزمني بإعادة إنتاج نمط آخر من السلطة، خاصة وأن مسألة التقسيم التي تُطرح بقوة هذه الأيام لم تكن موجودة في الزمن اللبناني الذي أنتج المارونية السياسية، حتى وإن نادت بها بعض الأحزاب الانعزالية، بل أن المارونية السياسية كانت بطبيعة الحال نتاج تقسيم المنطقة من بعد اتّفاقية "سايكس – بيكو" 1916، والتي تكرّست باستقلال شكلي لم ينه تبعيته في العام 1946، أعطى للبنان شكله الحالي جغرافياً، وديموغرافياً، وسياسياً، واقتصادياً. هذا يعني أنّنا أمام مستقبل لا نستطيع تحديد معالمه بدقّة، لكننا نستطيع تأكيد أن المسألة الطائفية ستؤخذ بعين الاعتبار في أي حل أو تسوية ستطرح، خاصة وأن الثقة أصبحت معدومة بين عموم مكوّنات الشعب السوري بفعل الممارسات الطائفية للنظام بعد الثورة.
(5): عطفاً على السؤال السابق: موضوع العلوية السياسية بات موضوع جدل كبير في سوريا بين من ينفي وجودها ومن يؤكّدها. كيف تقرأ الأمر؟
فيكتوريوس شمس: نستطيع أن نرى الموضوع من زوايا مختلفة، وقد درجت قوى "اليسار" تحديداً على إنكار وجود استئثار لطائفة ما على مقدّرات البلاد، مستشهدين ومُدلّلين على هذا الإنكار باستحضار نماذج محدودة واستثنائية لتعميمها، وفي التعميم تعمية. وأسباب هذه التعمية العجز عن امتلاك رؤية تنتج فهماً لظاهرة الطائفية. قبل وفاة حافظ الأسد راجت نكتة نرويها على الشكل التالي: "ذهب أهالي منطقة حوران لزيارة حافظ الأسد وطلبوا منه أن يعطي لمحافظة درعا مقعداً وازناً في الدولة يعينهم على قضاء حوائجهم. فكان رد حافظ الأسد: لديكم رئيس الوزراء محمود الزعبي، ووزير الخارجية وقتها فاروق الشرع، والأمين العام القطري المساعد لحزب البعث العربي الإشتراكي سليمان قدّاح ومجموعة كبيرة من المسؤولين. فردّ عليه أحد أعضاء الوفد بأن: خذهم جميعاً، وأعطنا علياً واحداً من العليّات الذين لديك". بمعنى: أن لا قيمة لكل هؤلاء أمام رجل أمن وازن واحد من الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس.
بمحاضرة نشرت في 1 تموز/ يوليو 2014 على موقع "الغربال أنفو" يصف المفكر صادق جلال العظم جوهر النظام السوري بعد الثورة بالتالي: "نظام أقلّوي مُعسكر عسكرة عالية جدّاً ومسلّح تسليحاً هائلاً يستند إلى عصبية طائفية صغيرة وضيّقة وهو يفتك بثورة عمادها الأكثرية في البلاد مستخدماً الأسلحة كافة من الخفيف إلى الثقيل إلى صواريخ سكود وأورغان ستالين وصولاً إلى السلاح الكيماوي لضرب المدن والقرى والأحياء والمزارع والأحراش التي تقطنها هذه الأكثرية وتعيش فيها منذ قديم الزمان".
إذاً، هو نظام "أقلوي" يستند إلى "عصبية طائفية صغيرة"، اصطلحتم عليها "العلوية السياسية"، وهذا توصيف لم يكن يحتاج لكثير تحليل وتفكير، بل هو توصيف موضوعي دقيق لواقع الحال كما هو بالضبط.
(6): بعد دخول "داعش" الطائفية بامتياز وحزب الله الطائفي بامتياز بموازاة قوى طائفية من هنا وهناك (كتائب أبي الفضل العباس، كتائب إسلامية واضحة التوجّه، النصرة، الإخوان السوريون..) كيف تقرأ المسألة الطائفية خاصة أن إعلان الخلافة نقل المسألة السورية من مكان إلى مكان آخر؟
فيكتريوس شمس: لكل واحدة من القوى المذكورة أعلاه خصوصية تختلف فيها عن الأخرى، لكنها تنتهي عند هدف واحد هو ضرب وتشتيت قوى الثورة. "داعش" و "جبهة النصرة" برزا بعد إفراج النظام في بداية الثورة عن عناصرهم من سجونه، عن وعي بأنّهم سيلعبون الدور الذي يلعبونه الآن (حدث في العراق الأمر ذاته)، أي أنّهم سيكونون بمثابة ثورة مضادّة تضرب البنية الثورية وتساهم في زيادة بلورة تطييف الثورة في مواجهة طائفية النظام. هؤلاء ولعوامل كثيرة يستطيعون أن يلعبوا دورهم ببراعة، من هذه العوامل: غياب القوى والأيديولوجيات والمؤثّرات الأخرى. وهذا ترك فراغاً كبيراً، إذ لم يبقَ سوى الوعي الديني التقليدي البسيط والذي قد لا يصطدم بالضرورة مع هذه الأيديولوجيات إلا عندما تتجاوز حدودها بالتعاطي مع البيئة الثورية. هنا نستطيع تمييز نمطين من التعاطي: "جبهة النصرة"، أقل تصادماً مع المجتمع، بينما "داعش" أكثر تصادماً وهو ما أجبر "جبهة النصرة" على العمل مع ائتلاف مسلّح واسع بقيادة "الجيش السوري الحر" لطرد "داعش" من بعض مناطق شمال سوريا قبل أشهر. عدا عن ذلك، وصل هذين التنظيمين إلى سوريا بدعم ورعاية من دول مجاورة كثيرة للمساهمة بمخطط كبير جدّاً ربّما يستهدف الإقليم برمّته، خاصة وأن التشابكات والتقاطعات بين سوريا والعراق هذه الأيام غير مسبوقة، إن لجهة تنسيق النظام السوري مع النظام العراقي الذي جاء به الأمريكان، لمواجهة الجماعات الإسلامية المتطرّفة، أو لجهة هيمنة هذه الجماعات على مناطق متّصلة في البلدين كالموصل مؤخّراً وربطها بمناطق واسعة في شمال سوريا لإعلان ما سُمّي "بدولة الخلافة"، مستفيدين بالطبع من التمييز الطائفي للنظام العراقي، وقمعه في فترات ماضية لحركات مطلبية واحتجاجية بالقوة. جاء دخول "داعش" ليطمس هذه المطالب، ويغيّبها بمشكلة أكبر. هذا ما دفع النظام السوري لمساندة النظام العراقي بحيث أرسل طائراته قبل فترة لضرب مدن عراقية حدودية كمدينة القائم. هنالك تشابه فظيع في عمليات القمع التي يمارسها النظامين تدلّل على الكثير، وهذا يُثبت صحّة القول بأن النظام السوري نظام طائفي، لا يختلف إطلاقاً عن النظام العراقي. وجود "داعش" جاء في هذا السياق ليخدم النظامين ويخرجهما من مأزقهما بحيث يبرّر لهما ممارساتهما من جهة، ويُبرّر أي نية حقيقية للتقسيم عبر عمليات التهجير القسري للطوائف الأخرى التي يمارسها، والتي تتشابه إلى حد بعيد مع ممارسات النظامين. هذا يعني أن الدور الذي يلعبه "داعش" يتكامل تماماً مع الدور الذي يقوم به النظام، إن لجهة تعميق التطيّف، أو لجهة التحضير لتقسيم البلاد في مرحلة لاحقة.
أمّا فيما يخص "حزب الله" فقد وجد لنفسه العديد من المبرّرات التي تتقاطع مع بعض الفصائل المذكورة أعلاه كالفصائل الطائفية العراقية ("أبي الفضل العبّاس"، "عصائب أهل الحق" وغيرها) من هذه التبريرات مثلاً "حماية المناطق الشيعية الحدودية"، "حماية المزارات والمقدّسات الدينية"، والحجج هنا طائفية بامتياز وبلا أي لبس. وبين مبرّرات تتنافر وتتناقض تماماً مع هذا كـ "حماية المقاومة" منطلقاً من رؤية عمل على تعميمها وهي، أن الشعب السوري انتفض على النظام لأنّه متعامل مع "اسرائيل" وأميركا وبعض أنظمة المنطقة، وهي تبريرات ديماغوجية لأن الحزب يعرف تماماً أن الشعب السوري متنوع ومتعدّد وليس لديه موقف واحد من أي مسألة عدا مسألة التخلّص من النظام بما هو نظام مافيا طائفية أمنية، عملت طوال عقود على تجهيل وإفقار المجتمع السوري.
يبقى أن الفصائل الطائفية العراقية هي الأوضح من بين الجميع، ليس لدى هذه الفصائل أي حجج أو مبرّرات عدا المبرّرات الطائفية البحتة، خاصة وأنّها لا تملك أي تاريخ، لا بمقاومة الاحتلال الأميركي للعراق، ولا بمقاومة "إسرائيل". أسباب وجودها في سوريا طائفية ولا شيء غير هذا.
أمّا "الإخوان المسلمون" فهم سواء اختلفنا أو اتّفقنا معهم، هم سوريون. لن يكونوا بأيّ حال من الأحوال أسوأ من "داعش" أو "النصرة"، لكنهم قد يكونون كأيّ مكوّن سياسي آخر إذا استطاع الشعب السوري أن يبني نظاماً ديموقراطياً تعدّدياً تحكمه المؤسّسات على غرار الأنظمة المتحضّرة، كما هو الحال في تركيا مثلاً حيث استطاعوا تقليص حجم الفقر إلى ما دون 3,2%، والبطالة إلى ما دون 9,1%، ورفع نسب التنمية بشكل ملحوظ بحيث وصلت لـ 4,6%. تركيا المحكومة من قبل "حزب العدالة والتنمية الإسلامي".
(7): قبل اندلاع الثورة سنرى غياب المسألة الطائفية عن أجندة المثقفين السوريين، مقابل حضورها الكثيف في ظل الثورة، لماذا غابت هذه المسألة أمس وحضرت اليوم؟ هل كان المثقف عاجزاً عن رؤيتها وقراءتها في الواقع أم ماذا؟
فيكتوريوس شمس: في المرحلة السابقة للثورة، كانت عمليات النهب التي مارسها النظام في سوريا مغطّاة بشعارات قومية، مستمدّة و مستفيدة من الميل والرغبة الشعبية الواسعة باستعادة الأراضي المحتلّة. على هذه الرغبة بنى النظام عصبيته (بالمعنى الخلدوني) التي أمّنت له قدرته على الاستمرار. كانت الشعارات القومية التي تنادي بعروبة فلسطين، وضرورة العمل على توحيد الأمّة العربية، شعارات كاسحة، وهي التي كانت حاضرة بالوعي الجمعي العام. هذا بالطبع يؤكّد أن مسألة تحرير الأراضي المحتلّة، هي خيار شعبي استخدمه النظام لتثبيت سلطته وشرعنة استمراره وسيطرته. على هذه القاعدة بنى النظام أجهزة أمنية ذات صلاحيات مطلقة تستطيع التدخّل بكل ما يخطر وما لا يخطر على البال. هذا الجو المرعب الذي أوجده النظام، ليقلب الآية فيما بعد بحيث أصبح يظهر وكأنّه هو الحريص على تحرير الأراضي المحتلّة، وأن هذه الأجهزة الأمنية ومحكمة "أمن الدولة" التي أنشأها منذ إعلانه "حالة الطوارئ" في سوريا في العام 1963، والتي عاد وأسقطها شكلياً مع بدء الثورة، كانت مهمّتها ردع المجتمع، وبالتالي ردع المثقّف الذي لن يجد أبداً من يتعاطف معه إذا ما وجّهت له واحدة من التهم العجيبة التالية: "إثارة النعرات الطائفية والمذهبية"، "وهن روح الأمّة"، "إضعاف الشعور القومي"، وغيرها الكثير. هذه تهم جاهزة ومعلّبة تُلصق بأي مثقّف يحاول أن يقدم طرحاً من أي نوع. مثال ذلك الفتاة "طل الملوحي" ابنة مدينة حمص ذات الثمانية عشرة عاماً والتي تحوّلت حياة أسرتها إلى جحيم منذ نشرت في العام 2007 مقالة على مدوّنتها الشخصية تطالب فيها الرئيس السوري بالإسراع بعملية التحوّل الديموقراطي، لتتحول حياتهم خلال سنتين إلى جحيم فاضطروا للهجرة إلى مصر، إلا أن الأمر لم ينته، فالفتاة كانت تستدعى للتحقيق معها من قبل "جهاز أمن الدولة" في السفارة السورية في القاهرة، وعندما اضطرت للعودة إلى سوريا لتقديم امتحاناتها الثانوية في العالم 2009، اعتقلت، ومازالت معتقلة إلى اليوم.
هذه البيئة الأمنية، ساهمت أولاً في قتل الثقافة وانحطاطها، وأشاعت أجواء الرعب القاتل لدى المثقّف بحيث لا مكان إلا لمن برّر للنظام ممارساته باسم القومية والنوايا باستعادة الأراضي المحتلّة، أو يصمت، أو يعتقل ويفقد أثره.
ما حصل في المرحلة التالية، أن الشعب السوري استفاد من المناخ الثوري العارم في الوطن العربي والذي انطلقت شرارته من تونس أواخر 2010، وجاءت حادثة أطفال درعا (أكبرهم 14 عاماً)في آذار/ مارس 2011، والتي أذل فيها "عاطف نجيب" رئيس فرع "المخابرات السياسية" وابن خالة بشار الأسد، أذلّ فيها أهالي الأطفال المعتقلين والذين اقتلعت أظافرهم وعُذّبوا بعد أن كتبوا الشعار الأثير "الشعب يريد إسقاط النظام" على جدار مدرستهم. هذا هو التوقيت الذي فجّر الثورة، وهي التي بدأت تتصاعد كلّما صعّد النظام الذي واجهها منذ اللحظة الأولى بالرصاص الحي. أدّت هذه الأجواء لإشاعة الفوضى التي استفاد منها بعض المثقّفين في التعبير عن آرائهم ورؤاهم، خاصة وأن أجهزة أمن النظام ماعاد باستطاعتها السيطرة المطلقة التي كانت تعدّ على المثقّف أنفاسه كما في السابق.
خلاصة القول: كان باستطاعة المثقّف أن يرى الطائفية ويُحلّل ماهيتها، لكنه لا يستطيع التعبير عنها بمناخات أمنية شديدة جدّاً، ومناخات اجتماعية خائفة ومرعوبة.
(8): هل ترى أن حل المسألة السورية في نهاية المطاف سيخرج من بوابة الطوائف على نمط اتّفاق الطائف اللبناني أو العراقي أم أنّه سيأخذ منحى آخر؟ وطنياً مثلاً؟
فيكتوريوس شمس: في الثورة كشفت كل الأقنعة، التحقت أغلب الأحزاب العلنية المرخّصة بالنظام، حفاظاً على مواقعهم وامتيازاتهم في السلطة، والتي كانت أصلاً ثمناً لسكوتهم عن ممارسات النظام الذي تغوّل في الاستبداد والاستعباد. هذا الالتحاق ضرب العديد من المفاهيم لدى الأغلبية الشعبية التي ما عادت تجد في المفاهيم القومية، أو الماركسية، أو الوطنية ما يمثل تطلعاتها. قسم كبير من هذه الشرائح لا يُميّز بين يساري مؤيّد للثورة، وآخر مؤيّد للنظام، وهذا ينطبق على بقية الأيديولوجيات. من جهة أخرى لم يستطع "اليسار المعارض" رغم مرور أكثر من ثلاثة سنوات ونصف أن يلعب دوراً بارزاً وملحوظاً في هذا الصراع، ولو على المستوى الإغاثي مثلاً رغم المحاولات الصادقة والحثيثة من بعض المجموعات الصغيرة هنا وهناك، لأسباب عدّة منها ما شرحناه سابقاً من اختلال الثقة الشعبية بهذه التنظيمات والنظرة الشعبية التعميمية التي لا تميّز بين يسارٍ موالٍ وآخر معارض، ومنها أيضاً شُح الموارد لهذه المجموعات، إذ أن أغلب المساعدات الإغاثية وغيرها تصل من دول وجهات بعينها، لأحزاب ومجموعات بعينها، غالباً هي أحزاب دينية. من غير الممكن هنا، بل من المستحيل، أن ترسل السعودية، أو قطر، أو الإمارات أو غيرها المساعدات لفصيل ماركسي أو قومي.
هذا يعني أن الجهات الأكثر حضوراً في هذا الصراع هي جهات ذات صبغة وأبعاد دينية.
يترتّب على هذا الغياب للتنظيمات الوطنية، سهولة في إدارة اللعبة من الخارج بحيث تتحول التنظيمات الدينية الموجودة لبيادق في لعبة شطرنج، أي أن دورهم تنفيذ برامج القوى الفاعلة التي دعمتهم أثناء الصراع، وهي القوى المرتبطة أصلاً بمعسكرات وأحلاف ذات طابع عالمي كحضور الولايات المتّحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية من جهة، وروسيا وإيران من جهة أخرى. هذا الحضور يُعبّر عن توازن دولي لن يجد للأزمة مخرجاً وطنياً بالضرورة، سيكون هنالك أكثر من سيناريو للحل، تبدأ بالتقسيم، ولا تنتهي بالفدرلة، مروراً باللبننة، أي المحاصصة في السلطة بحسب النِسب الطائفية. ميزة هذه السيناريوهات جميعاً هو حضور البعد الطائفي بشكل أساسي في أي حل مرتقب.