فارس
طفل لاجئ سوري يبيع الورد في بيروت
عاد للحسكة فلم تتركه الحواجز يعود لبيروت
مات فارس بغارة جوية.
ستاتوس على هيئة خبر، أو خبر على هيئة ستاتوس. هذا ما تقوله الكلمات أعلاه حين تقرأ بحياد. إلا أنها أبعد من ذلك بكثير.
إنها فضيحتنا.
الطفل الذي كان يبيع الورد في شارع الحمراء في بيروت ثم غادر إلى مدينته الحسكة ليمنع من العودة بفعل الحواجز المنتشرة على الطرق والقرارات الجائرة بحق السوريين في لبنان، حصدته طائرات التحالف في غارة جوية وهو "واقف بمطرح كتير قريب من البيت..إجت غارة للتحالف قتلته، إلى جانب أشخاص آخرين" كما يقول أخوه يوسف، دون أن يتمكن كل الحب الذي منحه إياه رواد شارع الحمراء في بيروت حيث كان يبيع الورد أن يحميه.
لم يكن مجرد طفل، وليس ما حدث مجرد خبر عابر، بل تكاد تكون حكايته حكاية الجرح السوري المفتوح على ألم إنساني وقضية عادلة ضاعت في دهاليز الدول والمصالح الدولية دون أن ترحم حتى الأطفال، إذ لم يكد ينتشر الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي حتى تبين لنا أن فارس يستدرجنا في موته إلى الأسئلة الصعبة كما كانت ضحكته البريئة تستدرج الكبار لشراء الورد في شارع الحمراء.
تمكن فارس خلال تواجده في شارع الحمراء في بيروت من عقد علاقات صداقة واسعة مع طيف كبير من اللبنانيين والسوريين، بينهم مثقفون وفنانون وشعراء، كاسرا بذلك الصورة النمطية عن السوري اللاجئ، إذ قال الشاعر "إيلي عبدو": "فارس، لم يكن نازحاً سورياً عادياً، بعد أن نسج علاقات ودّية مع زبائن مقاهي الحمرا، بات يضرب كفه بكف الشبان ويتلقى القبل من النساء، لقد خرق الطفل بذكائه وبراءته، الصورة النمطية للنازحين السوريين، لم تعد وروده سلع للشراء بقدر ما هي أدوات للتواصل مع ذلك السوري الرقيق التي لا يمل من توزيع الضحكات الماكرة".
ولهذا تحوّل خبر موته إلى خبرا أول على ساحات وسائل التواصل الاجتماعي يوم 11/7/2015 بعد أن نقلت صفحة "حمراء Hamra" خبر موته نقلا عن أخيه، ليبدأ كل من يعرفه بكتابة ستاتوس عن ذكرياته معه، إذ كتب الشاعر "حسين بن حمزة" : "أنا أيضا من الحسكة يا فارس، ولكني أتيت إلى بيروت كي أبيع الكلمات"، في حين كتبت المواطنة اللبنانية والمهتمة بقضايا اللاجئين السوريين "نوال": "أكتب يوميا عن مشاهدات لأطفال شارع الحمرا ولم أستطع أن أكتب عن فارس بعد سماع خبر موته لا أريد أن أصدق هذا الخبر، نفقد الشخص وتبقى الصورة في المخيلة وفي البومات الصور"، في حين كتب آخر: "أما استحيت يا عزرائيل؟ ألم تنظر في عينيه قبل أن تمد يدك إلى روحه الصغيرة؟ ماذا ستقول لأمه؟ ماذا ستقول لأبيه؟، وأصدقائه حين يسألون عنه؟ البارحة مات فارس، الطائرة الأميركية أنهت أسطورته".
فارس وعجز منظمات اللاجئين والطفولة:
الاحتفاء بـ "الفارس" بعد وفاته يكشف كم تمكن هذا الطفل الصغير من نسج علاقات إنسانية رائعة في بيروت بدأت من سائق التكسي ولم تنته عند مثقفي المدينة الذين يتفاجأ المرء بمعرفتهم به كما تشي المقاطع المختارة لهم في هذا النص. بل حتى من لم يعرفه تمنى لو عرفه، إذ كتب الشاعر "وفائي ليلا" قصيدة في رثائه جاء فيها: "كان يمكن أن تنتظرني يا فارس/ شهر واحد/ وكنت سأكون في بيروت/ الورد لا يستطيع أن ينتظر يا فارس/ والطائرات دائماً/ أسرع". بل حتى السكارى كان لهم من معرفته نصيب، إذ كتب الشاعر "علاء سليم الدين": "تذكر كم يحبك رواد هذا الشارع السكارى"، الأمر الذي يطرح أسئلة مكثفة عن دور منظمات المجتمع المدني المهتمة باللاجئين والطفولة، إذ كيف تمكن هذا الطفل وحده من كسر الحواجز والتسلل إلى قلوب الجميع، في الوقت الذي يتعرض أطفال آخرون للنبذ والضرب في الشوارع؟ ما الذي فعلته المنظمات لحماية هؤلاء من العودة إلى حيث الموت أولا؟ ومن حمايتهم مما يتعرضون له في الشوارع ثانيا؟ ومن تدريبهم أو تأهيلهم أو تعليمهم لكيفية التعاطي مع المجتمع وكسب وده إن لم يكن بالإمكان أخذهم من الشارع إلى مقاعد الدراسة وأماكن أفضل بفعل الحاجة المادية؟
فارس وأسئلة النزوح السوري في لبنان:
لم يقتصر الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي بل كتب محبو "فارس" عدد من المقالات عنه في "المدن" و"النهار" و"العربي الجديد" وغيرها، إذ جاء في مقال كتبته لميس فرحات في المدن: "سأنتظر أن أراك من جديد وتخبرني أن البريق ما زال يلمع في عينيك وأنك حققت حلمك في أن تتعلم القراءة. وحتى نلتقي... وزّع ورودك الحمراء على كل الأطفال الذين سبقوك".
إحدى الصحف اللبنانية (النهار) كانت نشرت سابقا مقالا يشي بـ "عنصرية" ما تجاه السوريين في لبنان ولقي الأمر آنذاك تفاعلا وسجالا حادا على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أن الصحف اليوم تحتفي بـ "الفارس" الراحل، الأمر الذي فتح جروحا من جهة، وخلق بهجة خفيفة وراحة في النفس من جهة أخرى، إذ كشف موت فارس أن كثير من اللبنانيين يحتضنون السوريين ويرفضون قرارات سلطتهم الجائرة بحقهم ويدافعون عن حقوقهم وهو ما يجعل السوري يشعر بأمان ما، في حين رأى البعض أن هذا الاحتفاء في نهاية الأمر هو احتفاء بميت أي "يحبونك ميتا" وفق تعبير الشاعر محمود درويش، الأمر الذي سلّط الضوء على قضية النازحين السوريين في لبنان مرة أخرى المحاصرين في مجتمع ممزق بين ثقافتي "فليعودوا إلى سورية" أو "أهلا بكم في لبنان"، وعلى قرارات السلطة اللبنانية التي باتت تضيّق على دخولهم لبنان، إذ لو وجد "فارس" وأمثاله ملاذا آمنا لهم لما عادوا إلى حيث الموت ينتظرهم ولولا القرارات الأخيرة الصادرة عن الحكومة اللبنانية لربما كان فارس قد عاد إلى لبنان، وهو ما عبّر عنه "محمد بركات" في مقاله إذ قال: "أما وقد عاد فارس إلى حيث يجب أن يكون... فقد جاءت الطائرة التي كان يفترض أن تقتله قبل سنوات، وألقت الصاروخ أو البرميل الذي كان يجب أن يقع على رأسه منذ سنوات، وقتلته .. هكذا صار. مات فارس، حيث يجب أن يموت. لأنّه ذهب إلى حيث "يجب" أن يكون، لا حيث يمكن أن يؤجّل موته".
هنا يكشف موت فارس عجزنا سوريين ولبنانيين معا عن إيقاف قرارات الموت هذه الممهدة للموت الحقيقي، إذ سينسى فارس بعد أيام وسيموت أطفال كثر لن يتمكنوا من الهرب من طائرات الموت إلى لبنان.
بل أكثر من ذلك سنعود إلى تعاطينا السلبي معهم ونحن نراهم في المقاهي والشارع يتحرشون بنا، إذ كتب "محمد بركات" في صحيفة العربي الجديد: "يتأفّف الزبائن والعاملون في المقاهي والحانات والمطاعم. تتأفّف أنتَ أحياناً. أتأفّف أنا. فهم فعلاً مزعجون في أحيان كثيرة. يقاطعون حديث أحدنا، أو يصرّون على بيعه ما لا يريد شراءه. الآن، بعدما عرفتم أنّ فارس قتله صاروخ أو برميل متفجّر في الحسكة في سورية، ألا تشعرون بأنّه كان يلحّ علينا ليشتري يوماً إضافياً فوق التراب؟ ليأكل كي لا يموت من الجوع؟ أو ليؤجّل خيار العودة إلى احتمالات الموت في بلاده".
تعددت الأسباب (نظام، تحالف دولي، داعش، معارضة مسلحة..) والموت واحد:
رغم أن أطفال سوريا يموتون كل يوم على "أيدي أشباح موت كثيرة. لم يعد يهمّ لصالح أي شيطان تعمل، فالنتيجة واحدة" كما تقول "لميس في مقالها. إلا أن موت فارس سلّط الضوء ساطعا على قضية لم يسبق أن حظيت باهتمام ما، ألا وهي الضحايا الذين تحصدهم أرواح طائرات التحالف الدولي لضرب داعش، إذ دائما ما يجري التركيز على ضحايا النظام وبراميله أو المعارضة المسلحة، في حين أن التحالف الذي شكلته مجموعة من الدول لحرب داعش ولمصالح خاصة بها لم يكن للسوريين يد بها ولا هم استفادوا منه عمليا يحصد أرواحهم وسط صمت إعلامي مدقع ومثير للريبة، الأمر الذي يبيّن كم أرواح السوريين باتت رخيصة في مزاد الأمم، حيث كتب الشاعر "إيلي عبدو": "التحالف لم يلحظ أن قذائفه قتلت طفلاً ذنبه الوحيد عدم تمكنه من العودة إلى بيروت بعد القوانين المشددة للحكومة اللبنانية. لا قيمة للتفاصيل لدى طائرات ترى العالم من خلال هدف محدد لا يتسع سوى لتنظيم "داعش"، تتضيّق الرؤية هنا يعفي من الالتزامات الأخلاقية، يكفي التصويب على النتيجة كي تحذف بقية أجزاء المشهد. أن يتواجد فارس في مناطق "الدولة" سبب كاف ليدخل ضمن الهدف المائع الذي يختلط في مساحته السكان المحليون مع المقاتلين المتشددين. التحالف لا يؤمن بوجود حياة في المدن التي يقصفها. "داعش" بالنسبة لها نافٍ للحياة ومعادل للموت، ولابد من تعميم الصورة لتصبح التكاليف الأخلاقية أقل"، لنصبح أمام سلطة قاتلة جديدة تضاف إلى السلطات التي تفتك بالسوريين، فسلطة التحالف في آثارها المدمرة على السوريين لا تختلف عن سلطة النظام القاتلة أو سلطة الكتائب المعارضة، فكلهم يتعامون عن وجود مدنيين في المناطق الواقعة تحت نيرانهم.
وإذا كان "فارس" تمكن من كسر هذا الحجب الإعلامي على ضحايا التحالف الدولي، فماذا عن الأطفال والضحايا الآخرين الذين لا نسمع بهم، إذ قال "إيلي": "والأرجح، فإن الصبي ليس أول ضحايا التحالف المدنيين، فقد سبقه آخرون في الرقة وسواها، لكن فارس جعلنا أكثر قرباً من حقيقة أن الطائرات التي تقصف تنظيم "داعش" لها ضحايا، قد يكون أحدها طفل ودود طالما اشترينا منه وردة خلال جلسة في مقهى".
عجز الخطاب الإعلامي:
رغم أن بعض من الاحتفاء الذي شهده موت فارس مبالغ به، وفيه بعض الاستعراض إذ كتب "ملاذ الزعبي": "مبتذل التباكي على الصبي بياع الورد بشارع الحمرا اللبناني". إلا أنه لا ينفي حجم الاهتمام الذي حظي به موته، إذ تمكن فارس من أن يكون تعبيرا مكثفا عن عجز الخطاب الإعلامي في نقل معاناة السوريين التي كان موته خير معبّر عنها لنكون أمام أسئلة: لم يتمكن موت طفل محبوب من أن يكون معبّرا نحو تسليط الضوء على قضية اللجوء السوري وكل القضايا التي تحدثنا عنها في هذا المقال في حين تفشل كل مقالاتنا وصحفنا على تعدادها في تقديم خطاب إعلامي إنساني يجذب الآخر ويقدم خطابه بعيدا عن الإيديولوجية؟
الجانب الإنساني في قضية فارس هي من دفعت الجميع للتعاطف معه، وهو ما يغيب عن الإعلام السوري الذي فشل فشلا ذريعا حتى اليوم في تكوين رأي عام محلي وعربي ودولي يصب في صالح القضية السورية، الأمر الذي يجعل الكرة اليوم في ملعب الإعلام، إذ كيف ينجح موت طفل من بين آلاف الأطفال الذين يموتون يوميا في سوريا في جذب هذا الاهتمام الإعلامي للقضية السورية المنسية اليوم في حين نفشل نحن؟