رجال الظل: إرادة البقاء بوجه الفناء


02 آب 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

عندما تسقط قذيفة ما أو صاروخ أو برميل على حي أو قرية أو مدينة، يبحث الجميع عن منفذ نجاة أو هرب من الموت إلى الحياة، إلا هم.

في الوقت الذي يبحث فيه أغلب السوريين عن بيت آمن وبعيد عن القصف والاعتقال يسكنون هم في "بيوت" مستهدفة من كل قاتل، إذ يقول "مرهف" من بنش: "وتعرض مركز الدفاع المدني نفسه في بنش للقصف أكثر من مرة ولكن إرادتنا كانت أقوى".

عندما يحوّم الموت حول أرواح الضحايا، هم أول من يقف بوجهه، يواجهونه، يرفعون الإرادة والأذرع العارية في وجهه علّه يرتدع عن أخذ أحبائهم وأعدائهم على السواء.

لاشيء يفرحهم قدر ابتسامة طفل يصرخ تحت التراب، أو يد تتحرك بين الأنقاض، أو زفرة تواجه الموت، فيسعون بكامل روحهم وقلوبهم ليحتضنوا الصوت القادم من ضفة الموت، عائدين به لجج الحياة، إذ "لا يمكن تخيّل مقدار الفرحة التي كانت تسكن قلوبنا عندما كنا نُخرج شخصاً على قيد الحياة من تحت الركام".

أنهم رجال ونساء الدفاع المدني في سوريا.

السوريون الذين لم يركنوا لليأس وإرادة الدمار التي يبثها الدكتاتور والحرب والميليشيات، فتركوا بيوتهم وأعمالهم ودراساتهم ( بعضهم بإرادته وبعضهم بسبب الظروف) ووضعوا كل جهودهم في إنقاذ الإنسان من قضاء الموت ساعين لأن يبقى في قدر الحياة الصعب.

 خصمهم ليس سهلا. فالموت الذي ينقذون الضحايا من براثنه يتربص بهم أيضا، وكثيرا ما تمكن من اصطيادهم غدرا في بيوتهم أو مراكزهم أو لحظة انشغالهم في انتشال الضحايا، فيأتيهم على هيئة غارة ثانية أو تفجير ثان ليكونوا هم المستهدفون عمدا. ومازالوا على عنادهم سائرين.

ليست خلق إرادة الحياة وتحدي الموت هي مهمتهم الوحيدة كما يظن الكثيرون، وليس لهذا وحده يُستهدفون. بل ثمة ما هو أبعد من ذلك.

في عملهم اليومي وتنظيم أنفسهم وتأسيس مراكزهم في كافة المدن السورية بطريقة النمل الذي لا يكل من الأمل، يشكلون خطرا واضحا على الاستبداد الذي يصرّ على احتكار الدولة والمؤسسات والعمل العام، إذ جل جهد المستبد يتركز على أن لا يتمكن أبناء المناطق الثائرة من تأسيس نواة دولة أو نظام بديل، مدركين أن الحرية إن لم تتمأسس في مؤسسات ديمقراطية سيبقى النظام متفوّقا عليهم. ومن هنا هم يخوضون معركة المستقبل بوجه الماضي والحاضر في آن. معركة الدولة التي اغتصبتها السلطة، ولازالت تتاجر بها سعيا لاستعطاف غرب باتت أولوياته داعش دون أن يقرأ السلطة التي أدت سياستها إلى زرع واستنبات داعش في سوريا وسواها.

إيمانا منا في حكاية ما انحكت بأهمية عملهم ودورهم وإخلاصهم ونبلهم وتضحياتهم وإصرارهم على البقاء في الوقت الذي تترنح سوريا بين الموت والحياة، بين الوحدة والتقسيم، بين الحلم والواقع، بين اليأس والأمل، نوّجه كلمات محبة وعرفان وشكر لهم.

تحية لكم أيها السوريون الذين يقارعون الموت وجها لوجه.

تحية لكم أيها المتمسكون بما تبقى من سوريا وأهلها وحجرها وآثارها وتراثها.

تحية لكم أيها الممسكون بنا كيلا نسقط في مهاوي اليأس، لأن عزيمتكم تعرّي عجزنا فنخجل منكم ونسعى جاهدين لأن نفعل شيئا يشبه فعلكم دون أن نستطيع.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد