يُعد الإنترنت نافذة في السجن السوري، أطلت منها الأجيال الجديدة على العالم، لكن هذه الإطلالة كانت تحمل مورثات شتى من الديكتاتورية والعنف ونبذ الآخر، زرعها الديكتاتور منذ عقود في اللاوعي السوري، الإنترنت طريقة وحيدة لإيصال الصوت السوري إلى الخارج، تفاعل السوريين مع بعضهم، وخوضهم تجربة الانتفاضة التي لم تكن منفصلة البتة عن التحولات العالمية حتى بأدق تفاصيلها.
هل ستخوض الأجيال القادمة تجربة ناجحة باتجاه الديمقراطية من خلال الإنترنت؟، وهل بإمكاننا الرهان عليه لبناء ثقافة جديدة وثورة على الموروث؟ أم أنها ستبقى وسيلة لمزيد من التشتت والضياع وفرض الرقابة الذاتية؟.
السلطة والإنترنت:
منذ أن كان الإنترنت مشروعاً تجريبياً مقتصراً على الهيئات الحكومية وممنوعاً على المواطنين، كان الهاجس الأمني هو الذي يحدد كيفية استخدام المواقع، فقد دخل الإنترنت إلى سوريا عام 1997 بشكل محدود جداً، ولم يتم فتحه بشكل عام حتى عام 2000، مع دخول ما سُمي بـ (المعلوماتية) إلى سوريا، لكن سياسة حجب المواقع بقيت هي المسيطرة، فالسياسة المُتبعة كانت حجب كافة الخدمات تقريباً، مع الإبقاء على بعضها، ومن أهم المواقع التي حجبتها الأجهزة الأمنية: المدونات الإلكترونية ومواقع التواصل وعدد من الصحف العربية الشهيرة (الشرق الأوسط والنهار وإيلاف وعرب تايمز) وغيرها، لكن بالمقابل لم تستطع الأجهزة الأمنية السيطرة على حرية دخول السوريين إلى هذه المواقع بشكل كامل مع وجود برامج "كسر الحجب"، مثل موقع "فيس بوك" الذي كان منتشراً بين السوريين على الرغم من حجبه.
شبح الفيسبوك:
مع بداية الانتفاضة، تفاجأ السوريون بفتح الموقع، واتضح في ما بعد أن الأجهزة الأمنية تقصدت ذلك ليُتاح لها المزيد من السلطة الرقابية على الأحاديث بين المستخدمين والتجسس على آرائهم، وبالتالي القبض عليهم، لكن بالمقابل لم تنجح السلطات باحتواء الأمر، فقد أصبح الفيس بوك شبحاً يطارد عناصر الأمن، خصوصاً في ما يتعلق بإعلان أسماء المعتقلين ونشر فيديوهات المظاهرات على اليوتيوب مع روابطها على فيس بوك، ما شكل تحدياً كبيراً للسلطات الأمنية، حتى أن مليشيات النظام على الحواجز كانت تسأل الموقوفين إن كانوا يحملون "فيس بوك" معهم!
هذه العقلية الجاهلة والمتخلفة التي اتبعتها السلطات السورية في التعامل مع التكنولوجيا؛ أثَّرت بشكل إيجابي على الشباب السوري، فقد تطورت لديه الخبرة بالتهرب من الرقيب وبالتالي ازداد معرفة بالتكنولوجيا، ولأن الهدف إسقاط النظام والحرية، فقط كان الإنترنت جزءاً من هذا الهدف كما كان وسيلة لتحقيقه. على سبيل المثال، أسِّسَت مجموعة "تقنيُّون من أجل الحرية"، والتي كان لها دور هام في حماية النشطاء السوريين وإغلاق حساباتهم على الفيس بوك في حال الإمساك بهم، وفي التصدي للـ"الجيش السوري الإلكتروني" الذي قام باختراق كثير من حسابات ومواقع الحراك المدني وقرصنتها. ومع قطع النظام للإنترنت عن أغلب المدن المنتفضة، ظهرت بدائل مبتكرة للاتصال، منها أجهزة الاتصال الفضائي التي لا تخضع للرقابة، إضافة إلى افتتاح مكاتب إعلامية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما انتشر ما يُسمى بـ"صحافة المواطن"، الذي يعتمد الإنترنت وأجهزة الاتصال الحديثة وسيلة لنقل المعلومة، لكن وسائل التواصل لم تكن كافية لتوثيق المشهد السوري، لذلك نشأت مواقع إلكترونية جادة تُعنى بحفظ الذاكرة الجمعية وتخزين الأحداث عبر الصورة والقصة والتحقيق الصحفي، ومنها "حكاية ما انحكت"، و"الذاكرة الإبداعية للثورة السورية".
رقابة مزدوجة:
مع تحول الانتفاضة إلى حرب أهلية، شهد الإنترنت انعكاساً لهذه الحرب، فظهرت أمراض اجتماعية كثيرة كانت مخبأة بين السوريين، كالطائفية وتبادل الاتهامات والتخوين، وكما أن وسائل التواصل كانت وسيلة لنشر الوعي أصبحت وسيلة للإقصاء، وسلاحاً لقمع الآخر، بسبب ما تتيحه من حرية التعبير وانعدام الرقابة، فالسوريون عاشوا طويلاً بعيداً عن عصرهم، وفجأة اصطدموا بهذا العصر، خارجين من عهد السجن إلى عهد الانفتاح، ولأن الإنترنت يتيح الانفتاح على الآلات الإعلامية بشتى اتجاهاتها: التجارية والاجتماعية والثقافية، فتستخدمه الشركات والأنظمة العالمية لتصدير البروباغندا الخاصة بها، مما شكل تشويشاً عاماً في المجتمع السوري، من جانب آخر، جعل الإنترنت كثيراً السوريين في كل مكان ينتمون أكثر إلى ثقافتهم المحلية، لأنه أسهم إلى حد كبير بعودة تواصلهم أينما كانوا، وشعورهم بانتماء جديد إلى سوريا بعيداً عن حكم البعث.
مجهر الإنترنت:
السوريون نجحوا في التملص من أجهزة أمنية شديدة القسوة، واحتالوا عليها لإيصال الصوت السوري إلى الخارج، لذلك فإنه على الصعيد التقني، وبسبب الخبرة التي قدمتها الانتفاضة السورية على مدى خمس سنوات، لن يكون بمقدور أية سلطة تضييق استخدام الإنترنت على السوريين في المستقبل.
الإنترنت مثله مثل أي حدث تاريخي، يسهم في بناء المجتمع أو هدمه بشكل تراكمي، ولو أجرينا دراسة على كيفية استخدامه منذ دخوله إلى سوريا عام 2000 وحتى اليوم، لوجدنا أنه مرتبط بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية، الإنترنت مجهر يكشف العالم الواقعي، سوى أنه يزيد من سرعة التغيير وتقصر زمن التحولات، عن طريق التأثير والتأثر بالواقع، فلولا موقع "فيسبوك"، "ويوتيوب" لما تسارعت الأحداث في سوريا بهذا الشكل، لأن سرعة انتشار خبر الحدث تسهم بشكل كبير في توليد حدث آخر.
الفكر الصدامي الذي أتاحته حرية الاختيار والاختبار سيكون له تأثير إيجابي في إعادة تركيب الوعي والبحث بكل شوائبه وتعقيداته ومشكلاته. من هذا الجانب فقط، نستطيع تشبيه الإنترنت وخاصة وسائل التواصل–اليوم- بالمقصلة خلال الثورة الفرنسية، فلولا المقصلة، وما أسهمت به من تصفية بالغة القسوة في المجتمع، لما نشأ ذلك الوعي الفكري المتطور الذي نشهده حتى اليوم في فرنسا، لكن أبلغ جوانب تأثير الإنترنت في مستقبل السوريين ستكون من خلال الانقلاب على وسائل تلّقي المعرفة، فالجيل الجديد أصبحت لديه حاجة لإعادة الاطلاع على التاريخ السوري بجوانبه السياسية والاجتماعية والدينية، وإعادة تشكيل هوية جديدة، كما أن القناعات الجاهزة لم تعد تنتقل من الجيل السابق إلى اللاحق مثلما كانت العادة عبر التاريخ، بل تُرفض أو تُعاد صياغتها بحرية التجريب وتنوع مصادر المعلومة وسهولة اختبارها في ظل الإنترنت، هذه التجربة الفريدة قد تحتاج سنوات لتتبلور، وليصبح التجريب أسلوب حياة نحتاج إلى أجيال من السوريين، لكنه لا يُعد زمناً طويلاً مقارنة مع ما عاشوه من عقود في حكم الاستبداد.